خلال العقدين المنصرمين من السيطرة المطلقة للقطب الواحد دولياً، صعّدت أميركا الذرائع الحربية إلى مستوى الحجج القانونية الإرغامية، ضاربة عرض الحائط بقوانين النزاعات بين الدول المقرّة عالمياً، مستخدمة المنظمات الدولية لأغراض مخالفة للقانون، إمّا بحمل الهيئات الدولية على تبني قراراتها الجائرة وتنفيذها، أو بلجوئها إلى أخذ زمام المبادرة منفردة وتطبيق قانونها الذرائعي الخاص على البشرية كافة. إن ما يميّز حقبة الصراع السوري الأميركي ليس التنامي الملحوظ في النشاط الروسي السياسي الواسع، وتنامي التنافس العسكري فحسب، بل التنامي الجدي الأخطر، المتمثل في ممارسة روسيا الجانب القانوني من الحق الدولي على نحو صائب وماهر. وهذا الحق، على الرغم من نواقصه الكبيرة، جزء باهظ الثمن من مكتسبات البشرية، صنعته حروب ونزاعات كلفت البشرية الكثير من الأنفس والموارد. لذلك لم تعد الذرائعية الأميركية قادرة على صناعة واقع قسري، بيسر تام، كالسابق. إن أميركا – قانونياً وأخلاقياً ـــ هي الدولة الوحيدة في التاريخ التي تملك سجلاً إجرامياً كبيراً في استخدام السلاح المحرّم: نووي في اليابان، ونابالم في فيتنام، وأنواع مختلفة من الأسلحة الفتاكة في العراق وأفغانستان، وتدخلات وانتهاكات سافرة، واستخبارات مسلطة على الجميع، وسجون دولية، وترسانة جهنمية من الأسلحة المحرّمة بأشكالها كافة، وأساطيل تجوب البحار، وقواعد عسكرية ومواقع تجسسية في كل مكان، وطائرات بطيارين ومن دون طيارين تضرب كما تشاء. لذلك فهي الدولة الأقل تأهيلاً لأن تكون حكماً في الخصومات، أو حارساً مؤتمناً للحقيقة البشرية.لقد قاد الحد من سطوة الذرائعية الحربية والسياسية الأميركية في الأشهر الأخيرة إلى نتائج إعلامية وعقلية لافتة للنظر. فقد سقطت واهتزت صدقية وجماهيرية مراكز إعلام ومحطات فضائية وصحف وكتاب أعمدة تسيدت صناعة الخبر والحدث وقادت هجوماً شاملاً، احتكر حقول إنتاج وتسويق الحقيقة. جرى ذلك في غضون بضعة أشهر من الثبات القانوني الروسي. وعلى المستوى العربي، قومياً ووطنياً، افتضحت على نحو لا يقبل اللبس الوصفات اللاأخلاقية، التي استند إليها الاعلام الذرائعي، المؤيد للحروب الأجنبية وللتحرير بالغزو: ذريعة التخلص من «عقدة الحياء الوطني»، وذريعة «السيادة باعتبارها فرية وأكذوبة»، المبدأ الأول لإعلام الحرب الذرائعي، الذي رافق حملة غزو العراق.
لقد عدّل ثبات الموقف الروسي مسنوداً اقليمياً بالإيراني، وشدة الأزمة الداخلية الأميركية، مناسيب التوازن المفقود في التناول العقلي والإخباري والثقافي والدعائي العربي والعالمي الى مستوى مقبول. لقد انتعشت مجدداً فرص تفكيك واحدية نقل الحقيقة واحتكارها، وفرص تعزيز كفة الموضوعية والثقة بالنفس، وسبل إظهار الحقيقة، ومراعاة مبادئ احترام عقل وكرامة المتلقي.
الذرائعية والبراغماتية: تمحيص المصطلح
قبل الدخول في صلب الموضوع سنعرج باقتضاب على إشكالية لغوية خاصة تقتضي الايضاح. وأعني بها اختلاط وتداخل عدد من التعابير والاصطلاحات، منها البراغماتية والذرائعية والتبريرية. وهي تعابير قريبة الصلة بعضها من بعض، يفضي أحدها إلى الآخر. بيد أنها في عوز تام الى التحديد وإزالة اللبس العالق بها. فقد اعتادت المراجع العربية ترجمة المنهج العملي النفعي (البراغماتية) بالذرائعية، واعتاد الناس خلط الذرائعيّة بالنزعة التبريريّة. لذلك نشأت شبكة من الاختلاطات تتطلب التمحيص والتدقيق، من طريق فك الارتباط بين البراغماتيّة والذرائعيّة لغة واصطلاحاً. لكي يأخد المنهج الفلسفي البراغماتي حدوده الخاصة به، ولكي تستطيع تعابيرنا إيجاد مساحات أكبر للتمييز بين الظواهر العقلية، تؤهلها لاستيعاب تدرجات الألوان والتعقيدات في حركة الواقع، وتحسين سبل التحكم العلمي بمسارات تطور الظواهر الاجتماعية وتجددها وتغيرها.
تكاد المصادر اللغوية العربية القديمة تجمع على معنى الذريعة. فقد ورد في «لسان العرب» أنّ «الذريعة الوسيلة، وجمعها ذرائع، وقد تذّرع فلان بذريعة أي توسّل». وأضاف معجم «الصحاح في اللغة» مثلاً حسيّاً، حينما قال: «هي الناقة التي يستتر بها الرامي للصيد»، ويزيد «القاموس المحيط» على ذلك بالقول: «تذرع بذريعة توسل بوسيلة»، و«استذرع به: استتر، وجعله ذريعة له».
من هنا نرى أن الوسيلة والستر هما خاصيتا الذريعة الجوهرية لغة واصطلاحاً، فهي أداة للوصول الى غرض ما، ووسيلة للتمويه. وبهذا المعنى فإن الإعلام الذرائعي منهج يقوم على اصطياد حدث أو فكرة ما، بصرف النظر عن صحتهما وواقعيتهما، لتدعيم فكرة مسبقة، لا ترتبط مع الحدث المعني بروابط داخلية، عليّة وسببية، أو منطقية، وحتى صوريّة أحياناً.
لذلك السبب شاع بين الناس الخلط بين الذرائعية والتبريرية، نظراً لتقارب مجالي الميلين. بيد أن الاختلاف بينهما عميق، لأن التبرير يرمي إلى إكساب فكرة ما قدراً من القبول أو الشرعية أو الاستساغة. والتبريرية وسيلة ذرائعية من حيث الجوهر، دفاعية غالباً، لكن ذرائعيتها لا تنفصل عن أهداف وجودها، لأنّ لها ارتباطاً عضوياً وشرطياً بالحدث موضع التبرير. فالتبرير لا ينكر الواقعة التي هو جزء منها، لكنه يعلل - بطريقة صادقة أو كاذبة، مقنعة أو غير مقنعة - سبب الارتباط أو الانغماس في الحدث وطبيعة هذا الانغماس والارتباط. أمّا الذرائعية، فتقوم بصناعة أو بالتقاط وسائل تمويهية للوصول إلى أهداف تتجاوز حدود الذريعة نفسها، إلى ما هو أبعد منها، والتي هي في الأساس غاية مخططة بمعزل عن وجود الذريعة.
فعلى سبيل المثال احتاج الاعلام «الشيعي» - دعونا نستخدم لغة الطائفيين لكي تكون الأمثلة واضحة تماماً - الى مقدرة عالية من التبريرية، حينما عُرضت على الملأ صورة مسجد سني في القصير، بعد استعادتها من المسلحين المعارضين، رفعت على مئذنته عبارة «يا حسين» بطريقة استفزازية واضحة. لقد وجب على الإعلام «الشيعي» ايجاد تبريرات مقنعة أو مقبولة تجوّز له مثل هذا الاعتداء الطائفي السافر والشائن. إن تسجيل حدث موّثق بالصور من قبل المعارضة السورية والإعلام اللبناني والخليجي المؤيد له، يصعـّب عملية إنكار ونفي وقوع الحدث. إلا أنّ الواقعة لا تنفي كليّة احتمال إيجاد أعذار معينة، وحجج مقبولة أو غير مقبولة، تخفف من وطأة الجريمة. أي إيجاد تبريرات تمكن المتهمين من تمرير الحدث، من طريق لي عنق الحقيقة. هنا يكون الحديث عن أمر اسمه التبريرية، لكن، حينما نكتشف أن الصورة المذكورة (الذريعة) لم تكن سوى تدليس خالص، وأن المسجد المذكور مسجد شيعي، وأن المسجد السني المتذرع به له منارة مغايرة في التصميم والشكل، نكون أمام حالة اسمها الذرائعية. أي الاستتار بالناقة لغرض إصابة الهدف، كما قال الجوهري في صحاحه.
ومن مواطن اللبس في موضوع الذرائعية اقترانها لدى كثيرين بالمنهج الفلسفي المعروف، البراغماتية، الذي يترجم دائماً إلى الذرائعية، أو يفسر على أنه كذلك.
إن «البراغماتية»، المنهج العملي النفعي، بصيغته الفلسفية، لا يرتبط من قريب أو بعيد، بالتصور الشعبي، أو بالاستخدام السياسي والإعلامي للبراغماتية، وبالذرائعية بمعناها اللغوي. فعند تفحص الأهداف التأسيسية للبراغماتية، نجد أنها تتصادم على نحو حاد مع منهج بناء التفكير الذرائعي. فالذرائعية تقوم أساساً على قاعدة ثابتة قوامها تسويق فكرة ما مسبقة، باعتبارها غاية وهدفاً، وتأويل كل ما يحدث في الواقع لمصلحة تدعيم الفكرة القبليّة. بينما تفعل البراغماتية العكس تماماً. فهي ترى أن الوصول إلى الحقيقة يجري عن طريق التجربة، وأن الأفكار لا تحقق صحتها خارج محيط الفعل التجريبي والتطبيق والمنفعة المستخلصة منها. والبراغماتية هنا امتداد أميركي للصراع التاريخي بين العقلانية والتجريبة، وجدت هوى لدى ممثلي أمة مغتربة، صاعدة مثل قدر غاشم، تعيش على مسافة بعيدة من العالم القديم. هذا الشرط المنهجي الصارم للمعرفة نجده لدى أركان البراغماتية الأساسيين: تشارلز ساندر بيرز ووليم جيمس وجون ديوي. أما التناقض الثاني، فيكمن في أن الذرائعية منطق إيهامي، يقوم على التدليس الإرادي. فهو لا يستخدم التجربة للوصول إلى الحقيقة، بل على العكس، هو يمتلك حقيقة قبلية، مسلـّم بها، ينشد تدعيم وجودها بأفكار أو أحداث واقعية أو مختلقة. وإذا كانت البراغماتية تربط بين الإرادة والدين، وبين العقل والعلم، فإن البراغماتية عامة، حتى لدى شيلر، الذي يؤكد الإرادية، لا ترمي إلى تزييف الحقيقة، بل على العكس ترى في نفسها أنها وجدت لكي تقوم بتخليص الأفكار من كل ما يلحق بها من وهم تعسفي أو ذاتي قبلي، من طريق الاحتكام الى التجربة. إن تطويرات ديوي التربوية معروفة جدا من خلال منهج التعلـّم من خلال العمل. لذلك رأى وليم جيمس أن هدف البراغماتية هو الوقوف ضد اليقين القاطع المصطنع، والاقتناعات التعسفية المسلم بها، وضد احتكار الحقيقة وسدّ سبل الوصول اليها، وضد إقفال أبواب وفرص البحث وايجاد حلول عقلية أخرى مغايرة وجديدة. إن الميل الذرائعي ميل مزيف، لأنه قاطع وموجه إرادياً، ووسيلة لتوجيه الفكر وجهة مصممة بطريقة مصطنعة.
إن النفعية السياسية والإعلامية ليست ابنة المنهج العقلي البراغماتي باعتباره منهجاً فلسفياً تجريبياً مرتبطاً بنظرية المعرفة، وإنما هي نتاج لتطبيقاته العملية، التي تفضي إلى المبدأ الذي نادى به وليم جيمس، القاضي بربط صدق الفكرة بمقدار منفعتها.
إن هذا العرض التوضيحي الموجز والاستطرادي ربما يعيننا على التفريق بين البراغماتية باعتبارها منهجاً فلسفياً، والتفسير السياسي للبراغماتية، موضوع بحثنا الرئيس. إن التفريق بين الذرائعية والنفعية العملية، ولو لغوياً، أمر مهم أيضاً، لأنه يميّز بين المنهج الفلسفي الأصلي واستخداماته اللاحقة، وتحديداً توظيفاته السياسية والإعلامية، التي تقرن بين النفعية (البراغماتية) والسياسة الأميركية، وتجعلها صفة ملازمة لهذه السياسة. وهي فكرة سليمة من حيث الجوهر عند تطبيقها على السياسة الأميركية والإعلام المرتبط بها في موضوعات الحرية والحرب والإرهاب والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والمساواة بين الأمم والشعوب. وفي المجالات السابقة كافة، تستخدم أميركا سياسة نفعية خالصة وصارخة، تتنافى مع أسس منهج البحث البراغماتي الفلسفي المتعلق بسبل وعي الوجود، وتتصادم مع قوانين المنطق البشري السليم، لكنها تتطابق بشدة مع الميول الذانية، الإرادية، الأنانية، المقرونة بنزعة التفوق (دولة ومواطناً) إلى حد التمايز الشوفيني، العرقي، الذي هو أحد مكونات الحركات العنصرية. إن الذرائعية جزء من يقينية العقائد ذات النزعة الاستثنائية.
بيد أن الظن السائد بأن السلوك الذرائعي الأميركي السياسي يختلق الذرائع اختلاقاً أمر لا أساس له من الصحة في الواقع. وربما هو أحد تخريجات تلامذة أردياء، متحللين من ضوابط المنطق ومحاكمات الضمير، أمثال تلامذة الإعلام الأميركي من العرب. إن الذرائعية السياسية الأميركية وما يرافقها من إعلام ودعاية تؤكد دائماً وجود أساس واقعي ما لبناء الذرائع. فأسلحة الدمار الشامل العراقية، التي كانت ذريعة أميركا الكبرى عند احتلال العراق، لم تكن وهماً. مما لا شك فيه أن سلسلة طويلة من الأكاذيب والالتباسات والممارسات غير القانونية أحاطت بمصطلح وبموضوع وبأساليب إدارة ملف الأسلحة. لكن الأساس الواقعي كان موجوداً. والأخطر من هذا أن أميركا نفسها، عبر شركات ووسطاء وأصدقاء، باعت جلّ تلك الأسلحة إلى العراق، وأحبطت محاولة عمرها عقدين لإدانة حكومة صدام باستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً. إن أسماء الشركات التي باعت الأسلحة موجودة علناً على مواقع الانترنت والصحف، ولدى أجهزة الاستخبارات الدولية طبعاً. إن كمية ما دمّره فريق رالف إيكيوس – بطريقة معادية ومدمرة للبيئة العراقية وللأحياء - معروفة وموثقة بالصوت والصورة. تصل الذرائعية أحياناً منزلة سوقية واطئة، وحدوداً استخفافية قصوى، حينما نعلم أن بعض أنواع الغازات العراقية من أصل أميركي، وأن من شُهّر بها على أنها «الدكتورة جرثومة» و«السيدة انثراكس»، ووضعت ضمن ورق البوكر الأميركية: هدى عماش، هي ابنة جامعة «ميسوري» الأميركية، في تخصص علم الجراثيم. أمّا المجسم الكيميائي، الذي بنيت عليه قرارات الحرب كلها، فلم يكن سوى صورة خادعة جرى الاتفاق عليها بين بوش ورايس وديك تشيني، وقام جورج تينيت بعرضها على المجموعة التي صنعت أرضية الحرب في جلسة عقدت عام 2001، بعد أشهر من تولي بوش الرئاسة. كان تقدير القيادة الأميركية حينذاك هو أن «العراق مفتاح التغيير في الشرق الأوسط كله»، وهو تقدير صائب نظرياً، لذلك تحتّم البدء به. لقد بُني هذا التغيير على ذريعة «خادعة»، كما كتب وزير المالية الأميركي باول أونيل، الذي كان أحد الحضور المخدوعين في تلك الجلسة الشيطانية.
إذاً، عند الحديث عن الذرائعية الأميركية، في القضايا الكبيرة – في الصور والأخبار الأقل أهمية، يستطيع صانع الخبر تزوير أو تلفيق صورة وخبر ما، مثل أطفال الحاضنات الكويتيين، والمدفع العملاق، وصور استسلام قوات قاطع البصرة الأربعين ألفاً - ولكن لا يقوم الإعلام الذرائعي الأميركي بتطوير ذريعة دولية من دون إسناد حسي، ولو كان مزيفاً أو مشوهاً، أو من دون الاعتماد على دليل جرى تدميره على يد الذرائعيين أنفسهم، كما هي الحال في أسلحة العراق.
إن الإعلام الذرائعي، بالمعنى الذي أشرنا اليه، حالة طبيعية، وجزء معروف من بنية معارك الإعلام العالمي، يستخدم بحدود ومقاييس مختلفة، تبعاً لقوة وضعف مصادره، لكن الظاهرة التاريخية اللافتة هي انفجار موجة الإعلام الذرائعي عربياً، بعد غزو العراق، وتحولها، بالتزامن مع ثورة الانترنت والفضائيات، إلى موجة كاسحة استولت تماماً على العقل الإعلامي كله، ووضعت المجتمع العربي بأسره أمام طوفان من السياسة الإعلامية المتحللة من قوانين المنطق ومن مقاييس العقل، وأضحى الخبر والتحليل مجرد مضخة تجارية عملاقة لتدليس الأحداث والأفكار، الممهدة أو المرافقة لصناعة الحدث المقبل. إن الابتذال المطلق في الكذب، والأنانية والعدوانية من دون قيود أخلاقية ومهنية، هي الخاصية المميزة للخبر الذرائعي العربي ولصانعيه. في ظل هذا المناخ الفاسد أضحى الخبر قائداً ومسيّراً للواقع.
العوارض الذرائعية الأولى ظهرت بصورة قوية في العراق، لدى معارضته، كما هو مقرر لها مركزياً، في الفترة السابقة القريبة من الاحتلال، مدعومة بإسناد عربي حذر، خليجياً ولبنانياً ومصرياً. ولم تجرِ آنذاك صناعة فكر ومنهج الإعلام الذرائعي فحسب، بل نشطت أيضاً الدوائر المسؤولة عن الغزو في صناعة الذرائعي نفسه، وفي تفعيل وتجهيز مؤسساته وقواعد انتشاره في هيئة فضائيات وصحف ومراكز أبحاث. فقد ظهر عدد كبير من موجهي الإعلام الذرائعي، احتلوا مواقع مهمة في الإعلام العراقي والعربي، والإعلام الموجه الى العراق باختلاف مصادره. ونستطيع القول بثقة تامة إن الإعلام الذرائعي لم يزل حتى هذه اللحظة يسيطر بقوة على ساحة الإعلام العراقي كله. وقد أثبتت الأحداث أنّ هذا الإعلام هو الصيغة الأمثل، والأكثر استجابة ومطاوعة وفعالية، التي تطابق لا منطقية الواقع السياسي، القائم على نهب الثروة العلني، وتغليب المصالح العرقية والطائفية والفئوية، وتدمير الهوية التاريخة للمجتمع العراقي، وإطلاق طاقات العنف المجتمعي على أوسع مدى. إنه الصورة النموذجية لحالة فوضى الحرية: حرية الفساد والعنف وسيادة نوازع الخروج على القانون. فهذا الإعلام لم يكن مادة مرافقة ومبررة للغزو فحسب، بل هو منهج فكري وثقافي أريد له أن يكون البديل الثقافي، الذي يسيّر الحياة العقلية في المجتمعات العربية، بما يطابق تماما مرحلة الفوضى الشاملة، باعتبارها الحلقة الأساسية في عملية بناء شرق أوسط جديد، ذي هوية مغايرة.
* ناقد وروائي عراقي