بعد نشر د. ناصيف قزّي على حلقتين «رسالة إلى المسيحيِّين» محذّراً من القانون الأرثوذكسي، تلقّت «الأخبار» ردّين في هذا الإطار، ننشرهما في ما يأتي:زميلي في النضال، أسعدتني «رسالتك الى المسيحيين» تحت عنوان: «الرهانات القاتلة»، فبادرت إلى الكتابة، متوجهاً ليس إليك، بل من خلالك إلى جميع اللبنانيين، لأن ما سأقوله قلناه معاً، وما سأناقشه ناقشناه معاً، فاختلفنا كثيراً، واتفقنا أكثر. ومعاً قطعنا طريقاً شاقة فيها من المرّ ما لم يكتف به واضعوه، ومن القليل الذي كان يعوّض علينا المرارة الوافرة.
أسعدتني رسالتك، إذ نَصَرَتني على ميلي الاعتيادي نحو السكوت عمّا ينبغي أن يكون معلناً إلى حدود وقاحة التكرار والإطناب دون الوقوع في الثرثرة، ومن أهمه لديّ:
1_ أنك في التيار الوطني الحر وجه من وجوهه، كما أحسنت التعريف عن نفسك، لا كما درج عند بعضنا التعريف عن نفسه بعبارة: «قيادي في التيار الوطني الحر».
2_ أن اختلاف الرأي داخل تيّارنا هو أمر ممكنٌ في السرّ والعلن، وطبيعي، وضروري وغير موقت، حتى في المسائل الكبرى، وفي الأوقات الأكثر حرجاً في حياة الوطن. وما يروق بعض المسيئين من ترداد أن الرأي عندنا هو بصيغة الأمر وحيدٌ، ليس فيه من الحقيقة سوى أنه افتراء في غير مكانه.
3. أنني أنضمّ إلى خشيتك من الانزلاق نحو التخلي عن مفهوم المواطنة، «نحن العلمانيين في المبدأ، والمؤمنين بحرية الفرد والمعتقد» (من نص الرسالة)، وهي خشية مشتركة بيننا وبين عموم أهل التيار الوطني الحرّ. وقد أصبح علينا، أكثر من ذي قبل، واجب السعي الشرس إلى حماية «المبدأ»، وصيانة ما نؤمن به من حقوق الانسان الأساسية في «وطن الانسان».
4_ أن ثلث الرفاق الذين يحملون بطاقات التيار الوطني الحر هم من المسلمين. والسنّة منهم يزيدون عدداً عن غيرهم من المذاهب الإسلامية الأخرى.
5_ أنك أعدتني بالذاكرة إلى محاضرتي التي ألقيتُها أمام عدد من «وجوه» التيار الوطني الحرّ، بحضور النائب عباس هاشم، في 30 نيسان 2007، وكنتَ معنا جنباً إلى جنب في لجنة الدراسات، وكانت بعنوان: «قَدَرُنا العبورُ من التوافقية إلى المواطنية الكاملة بمفاهيم قاتلة». كان النقاش يومها يزيد من حرارة ذلك المساء الآتي بالصيف مبكراً، وسرعان ما كانت تتسرّب في حنايا كلّ منا قشعريراتُ صقيعٍ خلّبي تدسّه في نفوسنا تساؤلاتٌ واقعيّة حول كيفيّة الخروج والانعتاق من التقوقع الطائفي والمذهبي في هذا المجتمع المركّب طائفياً ومذهبياً، إلى فضاءات المواطنية الأرحب. لقد شكّل السؤال الصادق عن آلية الخروج والانعتاق مشكلة صادمة بأعنف مما «صدمك» به «مشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي»، إذ أصبح النقاش وقتها على شفير هذا «المشروع». فتوقف النقاش، لا بحجة الساعة المتأخرة من ذلك الليل، لكن بظنّ الانحراف عن الخطّ السياسي للتيار الوطني الحرّ، وظنّ الاستهانة باحترام نضالاته، وظنّ إهمال الخشوع لتضحياته ولشهداء 13 تشرين.
6_ أنني فهمتك يا زميلي في النضال، وأن رفاقنا، كل رفاقنا في التيار، تفهّموك في أساسيات ما تذهب اليه في «رسالتك»، وأنني سأسعى إلى التوضيح، متشبّثاً بمبادئنا المشتركة لا بمشروع اللقاء الأرثوذكسي. ومستعيداً بعض أفكار تلك المحاضرة النيسانية، للتأكيد على صوابية تلك المبادئ وثباتها، ولكن بوسائل أخرى مبنيةٍ على الشعارات واللافتات الحماسية نفسِها المتدافعة، بتسرّع بريء عند بعض شركائنا في الوطن، وبقصد التشويه والتضليل عند بعضهم الآخر، محاولاً في النقاط الآتية الاستفادة من تعاليم استاذينا معاً عمانوئيل كانط وجورج فيلهلم فرايدريش هيغل في حدود ما يتشاركان فيه من أمثولات تربط الواقع بالعقل والعقل بالواقع، دون أن نختلف معك لاحقاً كما حصل معهما.
أولاً: ليس من لبناني واحد لا يعرف أن المجتمع اللبناني هو من المجتمعات المركّبة، وليس مجتمعاً بسيطاً كما هي الحال في بعض المجتمعات الأخرى التي بنى على صورتها جان جاك روسو وفلاسفة العقد الآخرون نظرياتهم الفلسفية السياسية المؤسِّسة للديمقراطية الحديثة. وهذا الفارق بين النوعين من المجتمعات يعني أن العقد الاجتماعي المؤسّس للكيان السياسي ليس تعاقداً بين أفراد بل بين جماعات على العيش المشترك. إنه عندنا في لبنان مجتمع جماعات، ولم يصل بعد إلى وضعية مجتمع الأفراد التي كان اللبنانيون يطمحون إلى إرسائها منذ عام 1943، أي عندما يصل كل مواطن منهم إلى أن يكون قيمة بذاته لا بجماعته الجزئية، مهما كانت هوّيتها: دينية، أو لغوية، أو إتنيّة، أو غير ذلك. وبالتالي، فإن مجتمع الجماعات الذي يطمح إلى الديمقراطية نظاماً له، ينبغي عليه الانطلاق حكماً من المبدأ المؤسِّس للعَقد بين الأطراف التي تريد العيش معاً. والعقد هنا يرادف، في مصطلحنا الحديث، الإرادة العامة: إرادة العيش المشترك العامة. وهنا يُطرح السؤال: مَن هم الأطراف الذين يريدون التعاقد على العيش بعضهم مع بعض؟ ففي المجتمع البسيط، إنهم الأفراد. أما في المجتمع المركّب فهم الجماعات. وهذا حاصل في لبنان، بعد مخاضات طويلة وعسيرة نتج منها المجتمع اللبناني الجامع، ضمن هوّيته الواحدة، كلّ المكوّنات المختلفة في خصوصياتها غير الإرادية والمتحدة في مشتركاتها الإرادية. بعبارة أخرى، لقد تمّ التعاقد، في لبنان، بين جماعاته، ونشأ المجتمع اللبناني المركّب على تنوّع مكوّناته المعروفة. ولكن، بقي، بعد هذه الخطوة، سؤال تالٍ: ما هي الآلية التي تسمح بالعيش معاً كجماعات، وتسمح في الوقت نفسه للأفراد بالخروج من شرنقة جماعاتهم الجزئية ليعيشوا معاً في الفضاء المواطني العمومي الأرحب، باختلاط حتميّ، وتضامن في وجه ما يهدّد الكيان الجامع، وتشارك في الحياة العمومية؟ الجواب لاحقاً.
ثانياً: لقد اعترف الدستور اللبناني (وهو ثمرة الإرادة العامة وتعبير عنها) بتعددية مجتمعنا، منذ الاستقلال، وقبله، وخلاله حتى اليوم. وخلال مراحله التاريخية، وعبر محطاته المختلفة، لم تنحرف نصوصُه عن السياق العام لنوع من الديمقراطية اكتشفه العقل السياسي الغربي في النصف الثاني من القرن الفائت للعمل به في المجتمعات المركّبة، وقد أطلق عليه بالعربية اسم لا يفي بمضمونه البتّة، وهو «الديمقراطية التوافقية». أما في الغرب، فإن اسمها أدقّ في الدلالة على حقيقة طبيعتها (Démocratie consociative) من الأصل اللاتيني Consociatio، أي إرادة اجتماع جماعتين (أو أكثر) لتكوين جماعة واحدة مركّبة: إنها ديمقراطية تنظّم وجود مجموعات بعضها مع بعض في كيان سياسي واحد. وهذه الديمقراطية لها أصول وقواعد لحسن ممارستها. وهي تختلف عن تلك الأصول والقواعد المعمول بها في الديمقراطية الأصولية اختلافاً تطبيقياً، أي في الآليات. أما من حيث الأهداف والغايات القائمة على مفاهيم مصدر السلطة، والحريات، والحقوق، والعدل، والمشاركة... فهي نفسها لدى الاثنتين. فإذا أسيء التصرّف بهذه الآلية بما يخالف مرتكزاتها التي سأعرضها لاحقاً، يتعرّض البنيان الاجتماعي والسياسي برمّته للتفكك والانهيار بأساليب العنف المتعدد الأشكال والأنواع. وأساليب العنف هي الغالبة، لأن أيّ طرف يخطئ في ممارستها وتطبيقها، لا بدّ أن يعتبره الطرف الآخر مخلّاً بمبادئ العقد ومخالفاً لأحكامه الناظمة، ويجد كيانه الجزئي مهدّداً، فينبري للدفاع عن نفسه إزاء خطر الزوال والامّحاء. إنها آليّة لتنظيم الجماعات معاً شديدة الدقة، ومرهفة تقتضي من كل طرف درجة عالية من الأخلاق السياسية في التعاطي مع الآخر. ولكن بدونها لا يمكن اجتماع الجماعات. أما إذا أحسنت أطراف العقد استخدامها، تطمئن كل جماعة على ضمان خصوصياتها الأولى، وتنصرف إلى ما هو أشمل. فتتشابك المصالح، وتتأكّد ضماناتها، وتتمتّن العلاقات المتداخلة بين الأفراد، فتصبح هذه الديمقراطية قابلة لأن تكون وسيلة جيدة للعبور من اجتماع الجماعات الى اجتماع الأفراد، وتزول الحواجز البدائية، ويصبح كل فرد قيمة إنسانية بذاته، ومواطناً كامل المواطنية إزاء مواطنيه.
ثالثاً: إن الدستور اللبناني نظّم حياة الجماعات اللبنانية تنظيماً مقبولاً، على رغم كل المساوئ. وجاءت المادة 95 منه لتقول قبل تعديلها: «بصورة موقتة، والتماساً للعدل والوفاق (من هنا التوافقية)، تمثّل الطوائف (أي الجماعات أطراف العقد) بصورة عادلة... دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة». هذا يعني أن النظام الديمقراطي «الكونسوسيائي» (عذراً لعدم تمكني من إيجاد عبارة عربية أصلح في دقتها) فتح أمام اللبنانيين، في حال أحسنوا استخدامه، باباً واسعاً للتقدم نحو المواطنية الكاملة، وطرح أمامهم تحدياً لتقصير المدة الزمنية الفاصلة بين مرحلة العقد بين الجماعات (بأفرادها التابعين) ومرحلة العقد بين الأفراد المواطنين المتحررين (دون إلغاء الخصوصيات التي يضمنها الدستور والقوانين والإعلان العالمي لحقوق الانسان). ولكن، ما الذي حصل؟ منذ عام 1943 حتى عام 1990 (وثيقة الوفاق الوطني)، أي ما يقارب خمسين عاماً من الممارسة، بقيت الصورة الموقتة على حالها. لا بل ساءت ظروفها في أكثر من محطة خلال نصف القرن: في 1958، في 1969، في 1973، إلى أن تفجّر البنيان الاجتماعي والسياسي عام 1975. واستمر بعدها الخطر المميت خمسة عشر عاماً كان لا بدّ خلالها من تجديد العقد المؤسّس تحت طائلة الانهيار الكامل. فاعتبر العديد من اللبنانيين أن هذا العقد قد تجدد عام 1990 في «وثيقة الوفاق الوطني». ولكن منذ ذلك التاريخ لغاية اليوم، لم تؤدّ الممارساتُ السيئة لنظامنا «الديمقراطي الكونسوسيائي» وظروفُها إلا إلى اختلال جديد في بنود العقد وأصول آلياته الناظمة.
عند هذا الحدّ، ينبغي أن نطرح سؤالاً وجودياً لم يعدّ ثمة بدّ من طرحه: بعد هذا النصف قرن من العيش معاً حيث تتالت المصائب والمخاطر المميتة، هل يمكن الاستنتاج أن لبنان، بالحالة التي تكوّن عليها، كان «غلطة تاريخية»؟ وهل أن مجتمعاً كهذا لا يصلح لأن تعيش مكوّناته معاً؟ أم هل أن تطبيق الآليّة الناظمة كان تطبيقاً سيئاً؟
سأحاول الإجابة في النقاط الآتية:
أولاً: على الرغم من جميع المساوئ والصعوبات والكوابح التي واكبت تجربتنا في العيش المشترك، نشأت بين اللبنانيين عموماً وبدرجات متفاوتة، وبين بعض الأوساط الاجتماعية والسياسية بدرجة بارزة، حالة اجتماعية وسياسية متوازية مع ما لم يكن صالحاً بالقدر الكافي على مستوى الدستور، والقوانين، والسياسات المتبعة، والسياسيين، والقيادات الدنيوية والدينية. وأعبّر عن هذه الحالة بالشعور العميق لدى المواطنين بضرورة التضامن، والتكافل، والانتماء إلى الجماعة اللبنانية الشاملة والجامعة. لقد نشأ حسّ وطني شفّاف، وصادق، وطَموح، كان من شأنه أن يرسّخ في النفوس صورةً لجمهورية لبنانية تدمج الطوائف والانتماءات، بخصوصياتها الجزئية والشرعية الوجود، داخل تصوّر لهويّة تُخرج الأفراد من شرانق طوائفهم وعشائرهم وزعمائهم إلى فضاء دولة لبنانية تستدعي وتستأهل النضال من أجل إحقاقها. وأنت وأنا ونحن منهم. في جميع الأحزاب نحن. وفي جميع الطوائف والعشائر ودوائر الزعامات نحن. ونحن معاً نقول بصدق، وإيمان، وباستعداد كامل لاستئناف النضال: لبنان ليس غلطة تاريخية. إنه وطن نهائيّ لأبنائه، أو قد يكون مرحلةً لمستقبل تقرّر معالمه نضالاتٌ ورؤىً ديمقراطيةُ الأساليب والمناهج. إلا أنه اليوم في رؤانا ضروريّ الوجود بانفتاح على ما يقرّره فعلُ العقل في التاريخ.
ثانياً: إن هذه الحالة التي نشترك معاً، ونشارك معاً في تجسيدها، هي التي أدت بك، كما تؤدّي بغيرك من الصادقين في حسّهم الوطني والمدني، إلى التعبير عن مخاوفهم، ومرارتهم، من هذا التمزّق، من هذا الانحراف في الممارسات الممتدة على مدى نصف قرن، ومن دلائل هذا الانهيار الذي يظهر حالياً في المجتمع اللبناني، وفي البناء الذي ما زلنا معاً نتمسّك بما بقي فيه من مداميك قائمة.
زميلي في النضال، تعال نستعرض بالإشارات السريعة والمختزنة كل الوقائع الكثيرة التفاصيل، والشديدة الوضوح في الإقناع، مسار الانحرافات ومساوئ التطبيق في نظامنا السياسي، والتي تتعلق، ليس بالشكل بل بجوهر «الديمقراطية التوافقية» التي «تشكّل القاعدة الأساس للحكم في لبنان» (كما جاء في البند الثاني من ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله).
هناك ركائز أربع يقوم عليها هذا النوع من الديمقراطية التي تسقط مفاعيلها، ويزول جدواها، وينتفي دورها في حال اختلّت واحدة من هذه الركائز:
_ الركيزة الأولى، هي مبدأ التمثيل النسبي بين مكوّنات المجتمع. وقد أكد ذلك الدستور اللبناني، لا سيما بعد تعديلات الطائف. وفلسفة هذا المبدأ تتعلق بمرجعية الإرادة العامة التي ينبغي أن تعبّر عن الإرادة الحقيقية لكلّ طرف من أطراف العقد. ولكن سوء الممارسات المتلاحقة، منذ انتخابات عام 1992 لغاية اليوم، أدت ببعض أطراف العقد إلى الاعتراض الجذري على التمثيل في صحته بسبب اختلال آليته.
_ الركيزة الثانية، وهي توزيع المال العام توزيعاًَ متوازناً بين المناطق، بحيث لا يصيب أي طرف من أطراف العقد غبن أو انتقاص من مشاريع التنمية المتوازنة التي تضعها وتنفّذها الحكومة. وهذا ما تنصّ عليه صراحة مقدمة الدستور، بعد تعديلات الطائف، في البند (ز): «الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام». ولكن الكل يعرف مدى الغبن الذي لحق ولا يزال بالعديد من المناطق اللبنانية التي تحمل سمات مكوّناتها المنتسبة إلى أطراف العقد.
_ الركيزة الثالثة، وهي وجود قوانين تضمن بعضاً من الخصوصيات التي تتعلق بأطراف العقد من جهة هوياتهم الجزئية أو الأولية. وقد تحققت هذه الركيزة في قوانين الأحوال الشخصية، وفي غيرها من القوانين الأخرى التفصيلية، ولكن بصورة مجتزأة، وأحياناً غير متوازنة (تسجيل العقارات...). إلا أن الاختلال الأفضح هو غياب قانون للدولة اللبنانية يتعلق بالأحوال الشخصية، والذي من شأنه مساعدة النظام الديمقراطي الكونسوسيائي على القيام بدوره في تسهيل الانتقال منه إلى النظام الديمقراطي الأصولي، وذلك بإفساح المجال أمام المواطنين الراغبين في الدخول إلى الدولة من بابها الذاتي، لا من باب طوائفهم، أن يتمكنوا من ذلك بقوانين دولتهم، لا بقوانين دولة أخرى.
_ الركيزة الرابعة، وهي حق الفيتو المتبادل. وفلسفة هذا المبدأ تقوم على ضمان الحق لكل طرف من أطراف العقد في الاعتراض على أي سلوك، أو قانون، أو ممارسة سلطوية، يجد فيها أي طرف أنه مهدّد بالإلغاء، أو بالتهميش، أو بالإبعاد عن المشاركة الفعلية في قيادة الدولة. وقد تكررت الاستهانة بهذه الركيزة منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي لغاية اليوم، وذلك من خلال وقائع وحالات يعرفها الجميع.
لقد وصلنا اليوم إلى هذا الاختلال الكبير الذي ينال من الركائز الأربع مجتمعة. فكيف الخروج من هذا المأزق الذي أصبح يهدّد العقد الاجتماعي برمّته، والوطن بالتفكك، والدولة بالزوال؟ إن مَن هُم مثلك ومثلي، المتوافرون في غالبية الأحزاب وكل الطوائف والمناطق، هؤلاء الذين صنعوا ويصنعون الحالة الوطنية الجامعة والعابرة للطوائف والخصوصيات الأولية، ليس بيدهم الحل والربط، وليست بيدهم القوة الحاسمة، بل إننا جميعاً في قلب تركيبة اجتماعية وثقافية وسياسية تسحق رحاها المتمردين عليها. بحيث إما يتقطّع «الصبيّ» أشلاءً فلا يبقى منه لأيّنا جزء حيّ، وإما يبقى «الصبيّ» للجميع في مرحلة نضال نستأنفها معاً لاستعادته كاملاً وكما نرغب له الحياة.
إنني أجد في مشروع اللقاء الأرثوذكسي عودة إلى البدايات. وهنا تكمن لديّ المرارة في التعاطي معه. مرارة، واستهجان، وحزن، وتمزّق داخلي... كلها تجمعني بك وبجميع المنتفضين عليه من أجل الحفاظ على الحالة الوطنية والمواطنية التي ظننّا أنها أصبحت متحققة، أو قريبة التحقق. إلا أنني أعود إلى الواقع، وأنطلق منه كمن شيّد بنياناً بذل من أجله تعباً، وعرقاً، وسنوات من العمر، ثم انهارت أجزاء من البنيان أمام عينيه، قبل أن يكتمل.
فلكي نتمكن من إعادة بناء ما تهدّم، وهو أمر مفروض على ضميرنا حتى نستطيع النظر في أعين أبنائنا، ينبغي أن ننظر إلى مشروع اللقاء الارثوذكسي على أنه مجرّد اقتراح يقتضي التبصّر في أسبابه المرتبطة بجميع مساوئ الممارسات التي أدت إليه، والتمعّن في مغزاه وغايته. أما تبريره، بنظري، ففي النقاط الآتية:
أولاً: بما أنه عودة مريرة إلى البدايات، فلنستفد من هذه العودة المحتومة لإعادة إنشاء العقد بيننا، وبالصورة الأصلب هذه المرة، إذ ما دام قد عُقد بين جماعات وليس بين أفراد، كما سبقت الإشارة، فسيكون هذا العقد بيننا أصلب لأنه من صنع أطرافه الحقيقيين، وليس شكلياً ومفروضاً عليهم فرضاً من خارج إرادتهم الصريحة، ومن خارج تطلعاتهم الحقيقية. فكل جماعة طرف في العقد تنتخب ممثلي هويتها الأولية، وتدفع بهم إلى طاولة التعاقد (المجلس النيابي). وهكذا يكون التمثيل كاملاً، وصادقاً، وحقيقياً، وبالمناصفة الفعلية بين الأطراف، ويكون العقد مكتمل شروط التعاقد الحر والإرادي بما يفي بالمبدأ النظري الأساسي في الديمقراطية الكونسوسيائية.
ثانياً: وما دام يقترح النسبية داخل كل طائفة (مبدأ كونسوسيائي آخر، واقعي وحقيقي)، فإن المنتَخَبين سيحملون مشاريعهم السياسية المتنوعة إلى طاولة التعاقد الجديد. وبالتالي، فسوف يكون المجلس الناتج من هذه الانتخابات مجلساً تأسيسياً يضع ركائز الجمهورية الرابعة (الأولى كانت عام 1926، الثانية عام 1943، الثالثة عام 1990). وكلنا يعرف أن تاريخ نشوء الدول، أو استعادة بنيانها بما هو أفضل، يفيدنا بأن الآلية الأولى هي قيام مجالس تأسيسية تبني أو تستعيد أو تصحح البنيان.
ثالثاً: إذا كانت إرادة أطراف العقد بالعيش المشترك صادقة وحقيقية، فإن على هذا المجلس التأسيسي أن يبني على أساس كل ما تحقق سابقاً من إيجابيات أدت الى نشوء الحالة الوطنية والمواطنية التي يخشى أبناؤها وصانعوها من فقدانها من جرّاء مشروع اللقاء الأرثوذكسي. وبعبارة أخرى، سيكون أمام هذا المجلس التأسيسي، وطيلة سنوات أربع، مهمة تحقيق ما يأتي:
1_ اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية، ووضع قانون لانتخاب المجالس النيابية اللاحقة خارج القيد الطائفي (المادة 95 معطوفة على المادة 22 من الدستور والبند (ح) من مقدمته).
2_ تأسيس مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية (المادة 22 من الدستور).
3_ اتخاذ الإجراءات الكفيلة باعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة تأميناً للمشاركة الفاعلة بين المواطنين اللبنانيين (وثيقة الوفاق الوطني، عنوان 3، فقرة (أ)، بند 4).
4_ اتخاذ الإجراءات الكفيلة باعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد وقادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً بصورة مستدامة ومتوازنة. (وثيقة الوفاق الوطني، عنوان 3، فقرة (أ)، بند 5). وهذا ما يحقق ركيزة أخرى من ركائز الديمقراطية الكونسوسيائية.
5_ وضع قانون عصري للأحزاب يشجع على قيام أحزاب عابرة للطوائف، ويؤسّس للعبور من المجتمع السياسي الطائفي الى المجتمع السياسي المدني وقيام الدولة المدنية.
6_ وضع قانون مدني للأحوال الشخصية اختياري أو إلزامي يؤسّس للعبور إلى الدولة المدنية.
7_ وضع استراتيجية دفاع وطني ينخرط فيها اللبنانيون عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها.
8_ وضع قانون يدخل الاستفتاء العام في آليات تحديد الإرادة العامة وحجمها تحقيقاً للنظام الديمقراطي العام.
9_ اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإعادة النظر في مناهج التعليم الحكومي والخاص، الجامعي وما قبل الجامعي، وفق مبادئ التربية على المواطنية بما يعزّز الانتماء الوطني والانفتاح الروحي والثقافي.
10_ اتخاذ الإجراءات الكفيلة باستكمال إنجاز الكتاب المدرسي الموحّد في مادتي التاريخ والتربية الوطنية.
إن هذه النظرة إلى مشروع اللقاء الأرثوذكسي، في حال تطبيقه وفق ما أشرنا أعلاه، تبرز إيجابياته على النحو الآتي:
أولاً: أنه ليس مشروعاً طائفياً يستند إلى تعصب ديني ومذهبي، بل هو اقتراح آلية تنظيمية غايتها تحديد الإرادة العامة في المجتمع اللبناني المركّب، وبصورة تمنع انزلاقات التغييب، والتهميش، والإقصاء تجاه أيّ من أطراف العقد، وذلك تطبيقاً لمقتضيات النظام الكونسوسيائي، وتأسيساً لمرحلة يتساوى فيها الجميع لدى وضعهم أصول الممارسات وقواعدها في السلطة السياسية وفي الحياة العامة.
ثانياً: أنه آلية تحول دون الاعتراض، من جهة أيّ من أطرافه المكوّنة، على مضمون العقد ومفاعيله بحجة عدم صحة التمثيل، لأن جميع الطوائف المكونة تكون متمثّلة في التعاقد ومشاركة فيه تمثيلاً ومشاركة صحيحين وتامّين.
ثالثاً: يصحح الانحرافات، ويصوّب المسار في تحقيق الديمقراطية الملائمة للمجتمع اللبناني التعددي، بحيث يجعلها قادرة على أن تكون مرحلة انتقالية وجسر عبور نحو الديمقراطية الأصولية، إذ بالتوازي مع سلامة الممارسة، تتحقق شروط الانتقال الراسخ، حتى ولو كان بطيئاً، من مجتمع الجماعات إلى مجتمع الأفراد، كما تتسهّل عملية العبور من الدولة الطائفية الى الدولة المدنية.
رابعاً: تتعزّز الديمقراطية داخل الطوائف وتنشأ فيها تعددية الرأي بما يعطي دفعاً للممارسة الحزبية السياسية بعيداً عن التعصب الطائفي، ويتعزّز الولاء للدولة على أساس المصلحة العمومية والخير العمومي.
خامساً: بفضل هذا المشروع، تستطيع الأحزاب العابرة للطوائف، ومؤسسات المجتمع المدني العلمانية، والقائمة حالياً، أن ترشّح من بين صفوفها شخصيات من طوائف مختلفة للنيابة وأن تدعمهم للفوز على أساس القاعدة النسبية التي يقترحها هذا المشروع.
سادساً: يشكّل معياراً واقعياً وحاسماً يستطيع المواطنون، جميع المواطنين، من التحقق بواسطته من صدقية نوابهم وأحزابهم، ومن مساءلتهم ومحاسبتهم في عملهم التشريعي، وفي مواقفهم السياسية من القضايا التي تمّ انتخابهم وتأييدهم من أجل تحقيقها.
وأخيراً، يا زميلي في النضال، يا صديقي، إنني استطعت أن أتفهّم ردّ فعلك التلقائي تجاه مشروع اللقاء الأرثوذكسي، لا سيما أنه، من حيث التسمية ومن حيث التطبيق، يرتدي طابعاً «طائفياً»، و«تقسيمياً» في ظاهره. ولكن صفة «الطائفي»، خلال تاريخ مجتمعنا، حملت معاني التعصّب، والانقسام الديني والمذهبي، والتحارب باسم الله والدين. وهذا ما سهّل على بعض رافضيه تشويه حقيقته وتضليل بعض الرأي العام عن غايته الوطنية. إلا أن الطوائف في المجتمع اللبناني ما هي إلا جماعات سوسيولوجية طبيعية التكوين، وطبيعية الإرادة في العيش المشترك مع الآخرين. وعن تعاقدها على العيش معا ينتج مجتمع جماعات، ووضعية «جماعاتية» (محاولاً في هذه العبارة غير الدقيقة لغوياً أن أقترب من العبارة الفرنسية Communautarien, Communautarisme )، وليس للشأن اللاهوتي العقائدي والإيماني أي دور في تكوين المجتمع اللبناني بهذا التكوين الموحّد. وعلى الرغم مما شاب «رسالتك» من هذا الاختلاط في الماهيات، فإنني تفهّمت شعورك الوطني خير تفهّم. غير أن ما لم أستطع استيعابه في نصّك الطويل، هو هذا الربط _ وعليه بَنيتَ عنوان «الرهانات القاتلة» _ بين اقتراح هذه الآلية الانتخابية العلمية و«الرهان» الذي كان قاتلاً فعلاً: «أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار». ففي الواقع العقلي، إن ما هو فوق كل اعتبار في «مشروع اللقاء الأرثوذكسي» هو أمن المجتمع اللبناني برمّته، وأمن الوطن اللبناني الرسالة، وأمن الوحدة بين اللبنانيين بكل «جماعاتهم» ومعتقداتهم الدينية، منعاً لأن تكون هناك مصلحة لفئة على حساب فئة أو فئات أخرى.
يبقى أنني استطعت أخيراً أن أتفهّم صدق ما كتبتَ من خلال تفهّمي الصدمة الوجودية الكبرى التي ألمّت بك وآلمتك من جرّاء أحداث بلدتي الدامور والجيّة، حيث تهجّرتَ مع عائلتك، وأهلك، ومواطنينا هناك، دافعين ثمن ذلك الرهان القاتل. إن مشروع اللقاء الأرثوذكسي للانتخاب يقضي على جميع الرهانات القاتلة.
* من وجوه «التيار الوطني الحر»