«أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً». هذا المثل السائر، والمخترق للعديد من الحضارات والحقب، ينطبق الآن على التدابير والقرارات التي اتخذتها «القيادة الكوبية» في ما يتعلق، خصوصاً، بمبدأ تداول السلطة. وبالتالي، تحديد مدة تولي المسوؤلية في مراكز قيادة الحزب والدولة في كوبا بولايتين متعاقبتين من خمس سنوات لكل واحدة، كحد أقصى. ومن بين أهم القرارات التي جرى اتخاذها، أيضاً، إطلاق حرية السفر أمام الراغبين من الكوبيين، بعدما كان هذا الأمر شبه ممنوع في أحسن الحالات (لقد بدأ تنفيذ هذا القرار منذ 14 كانون الثاني الماضي). وها هي المعارضة الشابة الأبرز، والتي يُراهن عليها الغرب الأميركي والأوروبي، جوانا سانشيز، تنطلق استناداً إليه، وسط ترحيب واستغلال، في رحلة كونية تحظى من خلالها باستقبال وبرامج ولقاءات الملوك ورؤساء الدول، أو النجوم في عالم السياسة والفن والإبداع!لم تأت هذه القرارات دون مخاض عسير، ودون ضغوط خارجية وداخلية، ودون تحولات في التفكير والاستنتاجات. ساهم في ذلك أيضاً، وإلى حدّ كبير، صمود النظام الكوبي، ومن ثمّ التحولات الثورية في أميركا اللاتينية وأبرزها في فنزويلا، التي أخذت الكثير من التجربة الكوبية، ومن ثم ألهمت حركات تغيير جدية أو جذرية في معظم دول القارة، التي كانت أشبه بمستعمرة للولايات المتحدة الأميركية ولاحتكاراتها وعملائها.
يمكن أن يُنسب إلى القائد التاريخي للثورة الكوبية، فيديل كاسترو، نصيب في إحداث بعض التغيير في مسارها. فلقد دلّت حواراته وعلاقاته مع صديقه و«تلميذه» هوغو تشافيز على أنّه قد باشر عملية تغيير ذات مغزى، حين قال للزعيم الفنزويلي الثائر: «ما تسمّونه بوليفارية في ثورتكم نسميه، نحن هنا، في كوبا، اشتراكية».
بكلام آخر، فقد رعى كاسترو وشجّع مسار تحول تدريجي في فنزويلا: مسار سلمي وديموقراطي وموضوعي، ينطلق من «تحليل ملموس للواقع الملموس». وينطلق أيضاً، من ميزان القوى على الصعيد العالمي الذي اختل لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، بدءاً من نهايات الثمانينيات إلى أوائل تسعينيات القرن الماضي. كذلك ينطلق من معاناة الحصار المجرم والمؤلم الذي فُرض على كوبا من قبل «اليانكي» الأميركي طوال عقود. كذلك ينطلق، كما أسلفنا، من الشروط الموضوعية في فنزويلا، ومن حاجات تطورها في صراع داخلي وخارجي، لا يزال مستمراً ومستعراً حتى الآن.
ليس من الموضوعي أيضاً، أن نفصل هذا التحول عن تراجع عدوانية الولايات المتحدة الأميركية، لأسباب ضيق ذات اليد أولاً، ولبعض التعديلات على سياستها في ظل رئاسة أوباما، ثانياً. ثم إنّ كوبا قد ساهمت في كسر الحصار، حين حصلت كل تلك التحولات في أميركا الجنوبية ومنطقة الكاريبي، بما أضعف الحصار، بل بما جعل مفاعيله ترتد على سياسة الولايات المتحدة
نفسها!
وتكتسب الخطوة الكوبية أهميتها من أنّها تطرح تحديات، كانت حتى الأمس القريب، من النوع المعاكس لما يجري حالياً، وعنينا مسألة المشاركة والديموقراطية في التجارب الاشتراكية، سواء داخل الأحزاب الشيوعية الحاكمة نفسها، أو داخل المجتمع الذي تدير السلطة فيه هذه الأحزاب، وحدها، وفق مبدأ الحزب الواحد، أو «الجبهة» الشكلية في أحسن الأحوال. يجب التنويه أنّه حسناً فعل الكوبيون بالابتعاد، نسبياً، عن التراث الستاليني الفردي والمستبد، والذي ألزم التجارب الاشتراكية، على امتداد العالم تقريباً، ومن خلال الإكراه أو المحاكاة والتقليد، بنموذج واحد، جاء نقيضاً، لكل وعود تحرير الإنسان من كل أنواع الاستغلال والاستلاب، كما بشّرت الآمال والنظريات
الأولى!
إنّ إنجازات الثورة الكوبية وصمود شعب كوبا، اللذين ألهما أو دعما انتفاضات شعوب أميركا اللاتينية خصوصاً، سيبرزان ويتوهجان أكثر، حين تكون كوبا، من خلال تجربتها الداخلية، قادرة على الصمود إزاء حقوق أخرى للشعب الكوبي: حق المشاركة والتعبير والسفر والاعتراض... ويجب أن نذكِّر أن في سجلّ بعض من انتسب إلى الاشتراكية «العلمية» وإلى معسكر الثورة والتغيير، ممارسات سوداء في مجال حقوق البشر والمواطن. وبأبشع أساليب القتل والقمع والإبادة والتمييز والتوريث. لا تغيب عن الذهن هنا تصفيات ستالين لمئات الآلاف من أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي ولرفاقه. ولا جرائم بول بوت و«الخمير الحمر» في كمبوديا. ولا الستار الحديدي الذي يُسجن خلفه الشعب في جمهورية كوريا «الديموقراطية» بين أسوأ التقاليد والمفردات، تلك التي جعلت «الثورة» تسمية دائمة لحدث تغييري، سواء بالضغط الشعبي أو غالباً بانقلاب عسكري. وهكذا استمر، مثلاً، الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، «ثائراً» أو يدافع عن «الثورة» حتى وهو يواجه الملايين من أبناء شعبه المنتفضين على سلطته الفردية أو العائلية المستبدة والفاسدة. وكان العقيد الليبي معمر القذافي، أيضاً، وبعد حوالى نصف قرن من الحكم يدير «ثورة»، رافضاً أن يسمي نفسه رئيساً لدولتها التي لم تقم أبداً!
ولئن كان الحديث يطول هنا، فلا علاقة لكل ذلك بالبدائل، ولا بأساليب إزاحة هذا أو ذاك، وخصوصاً ما حصل في ليبيا، وقبلها في العراق، من غزو خارجي لم يكن يبرر، مهما كانت الذرائع، استغلال الحاجة إلى التغيير من أجل النيل من سيادة بلدان ومن استقرارها ومن وحدة شعبها.
المسألة هنا أن «الثورة» عندما تتكلس وتجفّ ينابيع الإبداع والعطاء فيها، تكفّ أيضاً عن أن تكون ثورة لتصبح مصدر ثروة لهذا أو ذاك من المستفيدين والمستبدين الجدد، الذين لن يتورعوا عن استخدام كل الأساليب، بما في ذلك أبشعها، من أجل الوصول إلى الحكم والبقاء فيه بالاستئثار وبالوراثة... إلى أبد الآبدين!
إنّ عملية التغيير هي عملية دائمة، والثورة، بالتالي هي كذلك. وهي تُنجز تباعاً، وفق جدلية التفاعل الموضوعي، بكل ما ينطوي عليه من عناصر الظلم والتفاوت والاستغلال، عندما تتعاظم وتنتظم الشكوى، وتُكسر حلقة من حلقات الهيمنة والسيطرة والاستبداد والفساد.
سيقول قائلون، ليس من دون نصيب من الصحة، إنّ الرئيس راوول كاسترو (82 عاماً) كان عليه أن يستعفي قبل عام 2018، لا أن ينتظر تقاعده الصحي الإجباري لكي يعطي ما لن يكون قادراً على الاحتفاظ به حتى ذلك التاريخ! هذا صحيح، لكنه لا يقلل من أهمية أن الرئيس راوول قد تولى بنفسه هندسة عملية التغيير بشكل نظري وعملي، ووضعها على السكة الصحيحة.
للمشاركة والديموقراطية مخاطر، لكن غيابهما هو الأخطر والأكبر بما لا يُقاس!
* كاتب وسياسي لبناني