في مصر الآن معركة محتدمة. ومن يخوضها يفعل ما يفعله بناءً على معطيات محدّدة فرضتها طبيعة التحوّلات التي طرأت على «الثورة»، وبنيتها طوال عامين. وهي تحوّلات ليست بالقليلة، وتكاد تعطي في خطّها البياني مؤشراً لما سيكون عليه الحال لو تمادينا أكثر في ترك «التغيير» يخاض بغير الأدوات التي صنعته في البداية. وهذه نقطة بحاجة إلى توضيح أيضاً؛ لأنّ النقاش اليوم بأثر رجعي لا يكاد يرى من كلّ ما حدث إلا تلك الأدوات. الرفاق في مصر لا يحبّذون كثيراً مناقشة ذلك، ويرونه تقليلاً من شأن «الثورة»، أو طعناً بها على الأقلّ. لكنهم في المقابل لا يوفّرون أحداً عندما يقرّرون إطلاق مسار نقدي موازٍ لما تفعله «الثورة» على الأرض. أحياناً يشعر المرء برغبة عارمة في مصارحتهم بتأويله الخاصّ للحظة التي صاحبت إسقاط مبارك، وكيف أنّها كانت لحظة ملوّنة بامتياز. لكن بمجرّد معرفته أنّ بلال فضل قد عاود الكتابة في «الشروق» من موقع نقدي، يترك للنّقاش مع الرجل وطروحاته أن يقول ما عجز هو عن قوله صراحة للمصريين. ثمّة متعة خاصّة فعلاً في قراءة نتاج فضل هذه الأيام. فهو يستأنف الآن مشوار التنظير لتجذير «الثورة» بعدما كان أبرز وجوهها ثقافياً منذ اليوم الأول. ربما انقطع عنها قليلاً في الفترة التي أعقبت وصول محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة، ظنّاً منه أنّ النضال قد انتقل من الشارع إلى المؤسسات المنتخبة، تماماً كما فعل إعلامي لامع آخر هو يسري فودة قبل أن يتراجع عن موقفه بعدما اكتشف الطابع الشكلي للانتقال ذاك. في حالة فضل ترافقت العودة مع الانعطافة التي طرأت على أداء «الإخوان»، وجعلت منهم مستخدمين «سذّج» للتفويض الانتخابي الذي أعقب «الثورة» ومرحلتها الانتقالية. كان لا بدّ للرجل أن «يتراجع» في ضوء الاستخدام ذاك عن مواقف سابقة له، بدت وكأنّها «في خدمة السلطة». طبعاً ينسى البعض أنّ «الإخوان»، حينها، لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى السلطة، وأن من صوّت لمرشّحهم في الجولة الثانية من الانتخابات لم يفعل ذلك عن اقتناع، بل ليقطع الطريق على وصول مرشّح «الفلول» إلى الرئاسة. ومن هؤلاء المصوّتين بلال فضل طبعاً. لنقل إنّه تكتيك سياسي لجأت إليه قوى من صلب «الثورة» لتفادي الأسوأ. هكذا نظروا إلى الأمر حينها، من دون أن يعبأوا كثيراً بما يقال عنهم. ولكي يتفادوا نعتهم عشوائياً من جانب الخصوم، أطلقوا على أنفسهم اسماً لذيذاً هو: عاصرو الليمون. للاسم حتماً دلالة محدّدة لا تخفى على أحد. إلى جانب هؤلاء وقف صاحبنا ولا يزال. وقد ذكّرنا أخيراً بهذه الوقفة في مقالة له في «الشروق» بعنوان: «المجد لعاصري الليمون». الكلام هنا واضح في ثباته على الموقف، وفي تبيانه (كما سيرد لاحقاً بالنصّ) الفرق بين انحيازين اثنين: إلى جانب «الثورة» ضد «الفلول»، أو إلى جانب «الفلول» ضدها. وهذا عموماً ما يميّز المقاربات التي تعي الواقع جيداً. تعيه في تعقيده وفي حركيته الدائبة، وتبني لاحقاً نظريّتها في «القطيعة مع الماضي» على هذا الأساس، لا كما يفعل اليوم هواة التلوين والنفخ في الفقاعات. يجدر بهؤلاء أن يقرأوا جيداً الجملة الآتية لفضل: «نعم، عاصر ليمون وأفتخر، لأنّ عصر الليمون ليس منهجاً «عيالياً» كما زعم البعض، بل هو قدر يواجهه الجميع في كلّ الديموقراطيات عندما تجبرهم تعقيدات الواقع الوغد على الذهاب إلى صناديق الانتخابات ليختاروا بين سيئ وأسوأ، فيفعلون ذلك دون أن يروا فيه عشوائية أو مخاصمة للتفكير العلمي أو خيانة للانحياز الثوري المبدئي». الاشتغال على المنهج هنا هو المهمّ، لأنه يؤسّس لنظرية في الثورة... لا لمزيد من السفسطة الفارغة. قد يختلف المرء مع بلال فضل حول موقع القطيعة مع البنية الطبقية المسيطرة من هذه النظرية، إلا أنّ الاتفاق معه قائم وسيظلّ كذلك، ما دام الرجل يشتغل على بنية أيديولوجية متكاملة تصقل النظرية بالممارسة، وتتفادى الوقوع في مطبّات سبق لثورات «أعظم بكثير» من «الثورة» المصرية أن وقعت فيها. هنالك أيضاً في ما يكتبه فضل انكباب مذهل على الغَرف من الثقافة الشعبية السابقة على وجود «الثورة» وأعدائها معاً. يسهّل هذا النّسق من الكتابة عادة وصول الجرعات الدسمة التي يعمل عليها الرجل إلى أكبر عدد ممكن من القراء. بإمكان المرء ملاحظة ذلك بسهولة لدى مروره على التعليقات التي يكتبها قرّاء فضل، وتكاد تتجاوز وحدها كلّ ما يكتب تعليقاً على المقالات الأخرى. قليلة هي المرّات التي يحظى بها منظّرون للثورات بقبول مماثل. فبلال فضل لا يحظى بالإجماع لقدرته على التنظير فحسب، بل لتمتّعه أيضاً بحسّ تهكّمي لافت يلتقط المفارقة ويستمتع أيّما استمتاع بالتنويع عليها. لو كان الأمر مجرّد تنظير بتنظير لما حازت مقالاته هذا الكمّ من الإعجاب، ولانصرف عنها كثير ممن يماهون بين التنظير الصرف وثقل الظلّ. لا يجب أن نعطي انطباعاً مماثلاً عن العمل الثوري، حتى لو كان في محلّه تاريخياً -أي الانطباع-. إذا كان العمل بالثورة مفتقراً فعلاً إلى السلاسة، فلا يعني هذا أن يكون العاملون بها كذلك. في مجمل قراءاتي عن مصر داخل صحافتها، لم أجد أنّ أحداً جرؤ (حتى في حقل الكتابة الساخرة) غير فضل على تسمية الأمور هناك بمسمّياتها: «فن مكافحة الغائط». في العادة يصعب على قرّاء الصحف التقليديين ابتلاع كلام مماثل، لكن في حالة فضل يبدو الأمر مختلفاً. لا يتعلّق الموضوع بالصحيفة التي تنشر له، فصاحبها ذو توجّهات نيوليبرالية «محافظة» لا تهمّه فكرة الانحيازات بقدر ما تهمّه الخلطة التي تصنع له جمهوراً وسوقاً للتصريف. كذلك لا يتعلّق بشريحة القراء التي قد تنحاز أحياناً إلى كتابات يمينية لا تشبه المكان الذي أتى منه صاحبنا إلى الصحافة والسياسة والأدب. الغائط الذي اختار الرجل مكافحته يطمر هؤلاء جميعاً، حتى من دون أن يدروا. ورائحته التي تزكم الأنوف بحاجة إلى من يجيد التعامل معها من موقع معيّن. لا يكفي أن يكون المرء ثورياً أو منحازاً إلى طبقة بعينها حتى يفعل ذلك، وإلا لاستطاع عبد الحليم قنديل مثلاً أن يحتلّ هذا الموقع. لنقل إنها خلطة لا يمتلكها إلا أمثال فضل: السخرية الشديدة حتى من الذات تسهّل على من ينحاز ضدّه طبقياً أن يتقبّل كلّ ما يقوله ولو كان فيه كثير من... الغائط! بالمناسبة، تعالوا نكافح معه طبقات هذا الأخير: «حتى لو قررت أن تكابر وتسمي الأمور بغير مسمياتها لكي تبدو نظيفاً ومهذباً وعف اللسان، فلن ينفي ذلك أبداً أنّ العالم من حولنا ما زال مليئاً بالغائط، وأننا كلما نجحنا في إزالة طبقة منه تكشف عن طبقات بعضها فوق بعض، وأنه لا أمل لنا سوى أن نقاوم، ونحن نصدق أننا سنعيش يوماً أقرب مما نتصور في عالم به غائط أقل». حتى الآن لم يقل لنا كيف نفعل ذلك. لقد اكتفى بتوصيف المشهد على نحو... مقزّز. ثمّة قدر من الشبه بين ما يقوله فضل هنا وما فعله الماركيز دو ساد قبل عقود طويلة. الأوّل يكافح غائط الطبقات المسيطرة بالكتابة، والثاني يكافحها، هي وقروسطيتها، بإخراج الغائط. من يتذكّر الآن المشهد البديع الذي يظهر فيه جيوفري راش في فيلم يروي قصة ماركيز دو ساد وهو يكتب على جدران السجن بغائطه، بعدما حرموه كلّ الوسائل الأخرى بما فيها دمه؟ سيوضح لنا فضل الآن كيف نعاود المقاومة على طريقته أو على طريقة ماركيز دو ساد (أعتقد أنه يفضل آخرين أكثر تصالحاً مع الثقافة الشعبية المصرية)، لا فرق: «... لكن كيف سنفعل ذلك؟ ببساطة سنفعله لو صدق كل منا نفسه، وحارب فقط بالسلاح الذي يجيد استخدامه، والذي يحب استخدامه أيضاً. كل الأسلحة الآن مهمة لإيقاف زحف الغائط علينا: الهتاف العالي، التظاهرة الحاشدة، النكتة الحراقة، الغرافيتي المدهش، الحركة وسط الغلابة، التسخيف على السخفاء، كسر القداسة التي يصطنعها الأغبياء لأنفسهم، نشر المعرفة، فضح الأكاذيب بالكتابة، بالمزيد من الكتابة. فليس هناك ما هو أخطر على الكذابين وناشري الغائط من الكتابة». كان ينقص دليل الاستعمال هذا توضيح بسيط من الرجل لكي يكتمل المشهد: من ينشر الغائط في مصر اليوم؟ حتماً سيسخر فضل من سؤالنا هذا لأنّ أسئلة مماثلة لا تناسب عرضه الساخر. قد تجدون الإجابة في مقالات زملائه في «الشروق»، أو في مقالات أخرى له، لكنه هنا يكتفي بعرض الحال. في مقالاته الأخرى تلك يستأنف صاحب «المعصرة» ما كان قد بدأه إبّان مساندته لعبد المنعم أبو الفتوح في معركته الانتخابية. ربّما لم تعد تعنيه تلك التجربة إلا بمقدار معيّن، هو مقدار خدمتها اللحظية لاستمرار «الثورة». ذلك أنّ فكرة هدم الاستقطاب التي قامت عليها الحملة برمّتها قد غدت اليوم أثراً بعد عين. ما عاد بالإمكان الآن تفادي الصِّدام مع القوى الرجعية التي تعوّق، بالتحالف مع رأس المال الكومبرادوري، عملية نزع «الثورة» قناعها الملون. قد لا يتّفق معي بلال فضل في الجزئية الأخيرة، لكنه مدرك أكثر منّا بكثير لحتمية الصدام، ولضرورته في بلورة هويّة فعلية (لا صورية) للاحتجاجات. والنقاش حول هذه الهويّة بالذات هو بالضبط ما يجب فعله في هذه المرحلة، لأنّنا استهلكنا وقتاً كافياً في الحديث عن أمور لم تكن في صلب «الثورة» منذ البداية. سأترك لمناسبات أخرى مهمّة المساجلة مع فضل حول الأمور تلك، وسأكتفي هنا بعرض نموذجين اثنين يتكرّر ذكرهما كثيراً في كتابات بلال الأخيرة حول الثورات وتأصيلها نظرياً. النموذج الأول هو كتابات جين شارب وسفسطاته التي غدت مرجعية فعلية للاحتجاجات العربية. ثمّة مشكلة حقّاً في كيفية مقاربتنا لما يكتبه شارب. فلو أخذنا من كتاباته فقط دعوته إلى الاحتجاج السلمي في مواجهة السلطات، لكان الأمر مقبولاً بعض الشيء، أمّا حين يصبح الرجل مرجعيتنا الوحيدة في عملية هدم النظام القديم، فذلك يعني أننا إزاء عقدة يصعب حلّها. وتتفاقم المشكلة أكثر حين نعلم أنّ ما يدعو إليه شارب ليس هدماً من الأساس. فمن ينظّر للهدم فعليه أن يستند إلى مرجعية أيديولوجية صلبة تمتلك البديل الذي سيحلّ محلّ النظام حالما يسقط هذا الأخير. هنالك من يعوّل على الإضرابات العمالية والقطّاعية كبديل ممكن، أو كمحطّة على طريق هذا البديل. لكن ثمّة من يقول أيضاً إن هذه المحطّة بالذات هي التي حوربت أكثر من غيرها على «الجبهة الشاربية». خذوا مثلاً كلام تلاميذ شارب عن ضرورة أن تكون الانتفاضات بلا رأس. لا أحد ينكر طبعاً دور «الفوضى» الثورية في مواجهة الديكتاتوريات، إلا أنّ الاكتفاء بتجميدها هكذا، ومن دون تعيين أفق محتمل لحركتها سيجعل منها خطراً فعلياً على وحدة المجتمع. وهذا ما تفادته معظم الثورات التي قامت في القرنين التاسع العشر والعشرين. ليس مهماً كيف انتهت هذه الثورات في ما بعد، فما أنجزته في البداية من تنظيم للفوضى في مواجهة الطبقات المسيطرة سمح لحراكها بأن يتطوّر تدريجياً، ويواكب عملية بناء الدولة على «أنقاض الثورة» أو بمعيّتها. في حينه، كانت هذه الدينامية هي الأساس في عملية الهدم الثوري، أمّا اليوم فلا نكاد نعمل بها إلّا لماماً. يتحمّل التنظير النيوليبرالي الذي يتزعّمه جين شارب مسؤولية كبرى عن ذلك، ففي النهاية هو نتاج المعرفة الكولونيالية التي لا تتعامل مع الثورات إلا لتحتويها وتخلق لها «البدائل»... الملوّنة. على بلال فضل أن يضع ذلك في اعتباره جيّداً عندما يستشهد «بأقوال مأثورة» لهذا المنظّر الكولونيالي الأبيض. والمشكلة كلّ المشكلة أنّ استعانة فضل بكتابات هذا الأخير تأتي مصحوبة دائماً باقتباسات عن هوارد زين المفكّر والمؤرّخ اليساري الأميركي الراديكالي (توفي منذ عامين). حين يحشر صديقنا الرجلين في سياق واحد، ويستشهد بكتاباتهما أثناء تصويبه أو تجذيره لمسار «الثورة» في مصر، فيكون حينها كمن يعمل بالمثل الشعبي المصري (وهو يعرفه أكثر منّا): سمك لبن تمر هندي. لو كنت مكان فضل لوضعتهما على طرفي نقيض: واحد يكافح الغائط، والآخر يعينه على طمرنا.
*كاتب سوري