المشهد في تونس هو أقلّ المشاهد العربية التزاماً بميكانيكية الثورة، ومع أنه الأفضل من حيث القدرة على صياغة التوافقات السياسية والعبور بالمجتمع نحو برّ الأمان إلا أنّ احتمالات «التغيير» فيه تبقى «الأقلّ» والأكثر بطأً. عندما نأخذ هذا المعطى بعين الاعتبار نفهم لماذا لم تفض الانتخابات التشريعية في تونس إلى تغيير كبير في المشهد السياسي، وكيف «احتكر» اليمين بشقّيه الديني والعلماني التعبير سياسياً عن «المزاج الشعبي» الذي رافق مراحل الثورة.

في الثورات عادة تنال القوى الصاعدة والجديدة حصّة الأسد من الحكم، ولا تسمح للقوى القديمة بالتعبير عن نفسها إلا في إطار رمزي، هذا إن لم تعزلها وتمنعها من مزاولة السياسة لسنوات. يرتبط هذا العزل بطبيعة الصراع وبقدرة المجتمع على تحمّل تبعاته. في تونس لم يحصل أيّ من هذا، فلا الصراع كان عنيفاً، ولا المجتمع كان يحتمل المضيّ في خيارات تقطع نهائياً مع الماضي، ولذلك بدت الثورة هناك «أقلّ الثورات راديكالية» وأكثرها تعبيراً عن الميول التصالحية للمجتمع. هي الوحيدة تقريباً التي رفضت مبدأ العزل السياسي، معتبرةً أنه سيخلّ بتركيبة تونس الاجتماعية، وسيسمح لتعبيرات غير ديمقراطية بالضرورة أن تهيمن على البلد بحجّة أنها شريكة في الثورة. هكذا، نجحت النهضة - والتي يعاديها جزء يسير من المجتمع التونسي - في انتخابات المجلس التأسيسي بغالبية واضحة ولكن من غير الإخلال بمبدأ التوازن بين القوى الاجتماعية، وبما يتماشى مع «روح القوانين» التي أُقرّت في عهد بورقيبة. وحين حاولت الحركة تجاوز الإطار المسموح به لسلطتها انتفضت ضدّها كتلة شعبية وازنة، وجرّبت إفهامها أنّ لتجاوزاتها على التفاهمات المعقودة عواقب لا يمكن تحمّلها.

حتمية «التوافق»

اندلعت اثر ذلك تظاهرات عديدة وعمّت الإضرابات والاعتصامات أرجاء تونس، ولم يتراجع زخمها إلا بعد إذعان النهضة لقوى المجتمع وعودتها إلى الإطار الذي تمّ التوافق عليه بعد الثورة مباشرة. تغيّرت في هذه الأثناء حكومتان للنهضة وسقط رأسان من رؤوس الحركة هما حمادي الجبالي وعلي العريّض، فيما دفع اليسار غالياً ثمن اصطفافه إلى جانب الاتحاد التونسي للشغل وباقي القوى الاجتماعية التي انتفضت ضدّ حكم الترويكا. بعد استقالة العريّض تحت الضغط الشعبي جرى تشكيل حكومة غير حزبية برئاسة مهدي جمعة، واتُفق أن يكون أعضاؤها من المستقلّين و»ذوي الكفاءات» على أن تكون مهماتها محصورة بتصريف الأعمال والتمهيد للانتخابات التشريعية والرئاسية.
لم تكن الطبقة الوسطى
حاملاً رئيسياً للثورة في تونس
ترافق هذا «الزخم السياسي» مع عملية اجتماعية أدارها من تحت الاتحاد التونسي للشغل بالشراكة مع روابط اجتماعية واقتصادية وحقوقية (منظمة الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الهيئة الوطنية للمحامين)، وجرت العملية تحت لافتة هيئة الحوار الوطني. كانت مهمّة الهيئة منذ تشكيلها حضّ الأحزاب الحاكمة والمعارضة على التزام تعهّداتها، ووضعها أمام مسؤولياتها في حال قرّرت العودة عن خيار «التوافق». بدا لوهلة أنها تقوم بدور المجلس التأسيسي الذي يفترض به كمؤسّسة منتخبة التمهيد للانتخابات المقبلة. وهذا بالفعل ما حصل، فالمجلس أصيب بالشلل نتيجة للاستقطاب الذي حصل داخله، وخصوصاً بعد انسحاب الكتلة التي تمثّل اليسار والأحزاب المعارضة منه، وبالتالي لم يعد قادراً على مزاولة المهمات التي انتدبه الشعب لفعلها. في مثل هذه الحالات وبالتحديد في تونس حيث الوضع معافى ومتماسك إلى حدّ ما يتقدّم المجتمع لملء الفراغ الناجم عن شلل المؤسّسات الدستورية وتبعيتها للسلطة (والتي لم تعد في نظر الناس منتخبة أو ممثّلة لقطاعات عريضة من الشعب)، ويقوم بما يجب عليه القيام به لحماية الدولة ومنع المؤسّسات التابعة لها من التفكّك. لا يعبّر مسار كهذا عن الثورة بالضرورة، ولكنه يبقي العملية السياسية قائمة، ويحفظ للمجتمع حقّه في الاعتراض عندما تتغوّل قوّة من «قوى الثورة السابقة» عليه، ومن هنا تصبح له أهمية تفوق أحياناً أهمية الثورة ذاتها. الثورة باقية طبعاً، وكذا المسار الذي أنتجته وما تغيّر فقط هو شكل العلاقة بينها وبين المجتمع، فهي في الحالة التونسية لم تعد تعبّر عن فكرة القطيعة، وتجاوزتها لمصلحة أطر بمقدورها استيعاب مجمل إفرازات المجتمع السياسي في هذه اللحظة. بهذا المعنى تصبح توصيات هيئة الحوار الوطني هي النتاج الطبيعي لهذا التغيّر، ويغدو بالإمكان التعامل مع أطراف «فلولية» كنداء تونس من منطلق أنها شريكة في الحوار، لا على أساس الرغبة في القطيعة معها. نتائج النداء في الانتخابات التشريعية الأخيرة تؤكّد فكرة «الشراكة»، وتقلّل في الوقت نفسه من اعتماد التونسيين أو شريحة كبيرة منهم على الفرز الأوّلي الذي أحدثته الثورة بين الفلول والثوريين. وهو على أيّ حال «مفهوم نسبي» فاليسار متمثلاً في الجبهة الشعبية يعتبر النهضة «أكثر فلولية من أنصار النظام السابق»، ولا يظهر أيّ استعداد للتعامل معها، على عكس ما يفعله مع نداء تونس، إذ تحصل بينهما تحالفات وتقاطعات عديدة، وآخرها في الإضرابات التي سبقت استقالة حكومة العريّض.

اختزال السياسة في التوافق

المشكلة في هذا المسار - وأعتبره حتمياً في حالة تونس- أنه يتعارض مع السياسة بمفهومها الواسع، ويحيلها على جملة توافقات تختزل المجتمع بطبقته السياسية، وتقرّر نيابة عنه ما يجب أو ما لا يجب فعله. حتى حين ينتفض الناس لأسباب معيشية يجرى التعامل مع مطالبهم خارج إطارها الصراعي، وتُؤوَّل حصيلة الاحتجاجات تأويلاً سياسياً يصبّ في النهاية لصالح العملية التي تختزل - كما قلنا - المجتمع بصراع القوى السياسية أو اتفاقها. هكذا، «تتضاءل الفروق» بين اليمين واليسار و»تتساوى» حظوظهما في التمثيل السياسي، وبالتالي لا يعود التعويل على قطيعة أحدهما مع الآخر ممكناً. يمكن أن يفترقا جذرياً لدى تناول مسألة خلافية كالمسألة الاجتماعية - الاقتصادية ولكنهما يعودان دائماً للتقاطع حول المسائل الاجرائية (صياغة الدستور، جلسات الحوار الوطني، الحرص على مواعيد الانتخابات... الخ) التي «تحفظ البلاد» وتقيها «شرّ الفوضى» والانقسامات العمودية. «الغريب في الأمر» أنّ العملية أعلاه قد نالت «رضاً شعبياً كبيراً» في الآونة الأخيرة، ولم نسمع عن اعتراضات كبيرة على مآلاتها، وخصوصاً في ما يتعلّق بالانتخابات التشريعية ونتائجها. في الحقيقة، الظاهرة معقّدة بعض الشيء ولا يمكن اعتماد تحليلات شائعة لتفسيرها كأن نقول إنّ الهيمنة الاجتماعية التي يحوزها اليمين بشقّيه هي السبب، أو أنّ المال السياسي الآتي من الخارج هو الذي يحدّد في النهاية وجهة الانتخابات ونتائجها. لا ننسى أنّ الطبقات في تونس لم تختف بعد، ولا يستبعد أن تكون هي الفاعل الرئيسي في تحديد نتائج الانتخابات التشريعية، تماماً كما كانت الفاعل الأساسي في دعم خيار التوافق، رغم أنه لا يصبّ في مصلحتها على المدى الطويل، ولا يتيح لها الإمساك بالسلطة مباشرة.

خيار الطبقة الوسطى

لم تكن هذه الطبقة حاملاً رئيسياً للثورة في تونس، بالضبط كما لم تكن كذلك في أيّ من الاحتجاجات العربية، فهي بطبيعتها محافظة وتؤثر مكتسباتها المباشرة في أيّة عملية تغيير طويلة ومكلفة. أحياناً تشارك في احتجاجات راديكالية ولكن ليس بوصفها طبقة تدافع عن مصالحها، وإنما بصفة فردية وعبر أشخاص ينتمون إليها بالاسم ثم ينتقلون عبر الوعي المطابق للواقع إلى موقع آخر أقرب إلى المهمّشين والفقراء الذين قامت من أجلهم الثورات. البوعزيزي كان واحداً من هؤلاء، ومدينته سيدي بوزيد التي فجّرت الثورة التونسية كانت للمصادفة الأقلّ مشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة ولم تتعدّ نسبة تصويت أبنائها الأربعين في المئة، وهذا يعني أنّ الانتخابات كانت بالفعل تعبيراً عن الأولويات التي تضعها الطبقات الاجتماعية لنفسها حين تنحاز لهذا الخيار أو ذاك.
ما يصنع الفرق هنا ويحوّل هذه الخيارات إلى أرقام في صناديق الاقتراع هو التنظيم الذي يخضع له الانحياز الاجتماعي، بحيث لا يعود الخيار ملكاً للطبقات الاجتماعية وحدها. أصلاً هي لا تملك المال، وبالتالي لا تستطيع التحكّم في العملية الانتخابية، وما تعرفه فقط هو اختيار المرشّح، وإسقاط الورقة التي تحمل اسمه في الصندوق. وإذا كان هذا الأخير فاسداً أو فلولياً، فليست هي المسؤولة عن فساده أو فلوليته، وإنما مجمل العملية السياسية التي تتغيّر تبعاً للظروف، ولا تخضع بالضرورة لنظريتنا المسبقة عن الثورة وطهرانيّتها. بهذا المعنى يصبح «نداء تونس» تعبيراً عن خيار فئة بعينها من التونسيين، ولا يعود فقط ممثّل «الفلول» أو «الثورة المضادة». هو يمثّل في هذه اللحظة خيارات الطبقة الوسطى التي أعجبتها فكرة تقليم أظافر النهضة عبر الحوار الوطني، ثمّ أتت الانتخابات لتساعدها في إخراج الطرف الذي اعتبرته المسؤول عن الاستقطاب الحادّ الحاصل في المجتمع التونسي.

خاتمة

هذا الانتصار لفكرة الهوية لن يدوم طويلاً، وسينتهي على الأغلب إلى ما انتهت إليه النهضة حين اعتقدت أنها ستسيطر على المجتمع التونسي عبر أوهام «الخصوصية» و»الشخصية الإسلامية». في الحالتين بقيت المشكلة هي ذاتها: كيف ننتهي من التهميش الاجتماعي، ونساعد في إحداث تراكم اقتصادي تستفيد منه الطبقات المهمّشة والفقيرة. هذا هو السؤال الغائب عن الانتخابات الأخيرة، والذي لم يستطع اليسار أيضاً الإجابة عليه، رغم أنه يقع في صلب برامجه الانتخابية. ربما تكون الهيمنة اليمينية المقبلة على السلطة هي الفرصة الأخيرة أمام اليسار للقيام بما يجب عليه القيام به. أمامه الآن «فرصة تاريخية»، فالمجتمع قد استعاد «هويّته» عبر تحقيق الاستقرار السياسي وتمكين المؤسّسات الدستورية من معاودة عملها، وهذه بالضبط هي الذريعة التي يستخدمها اليمين لتأجيل الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية. يمكنه الاستفادة من هذا الوضع، وخصوصاً أنه أصبح ممثّلاً في البرلمان بكتلة (ليست كبيرة ولكنها جيّدة كخطوة أولى). قد تعوّضه عن الاحتياج الدائم والأبدي إلى الشارع. النضال البرلماني اليوم هو عنوان المرحلة.
* كاتب سوري