تتجه روسيا إلى تغييرات عميقة في عقيدتها الدفاعية؛ حيت ستعتبر الولايات المتحدة والناتو الخطر الرئيسي المحتمل؛ ما يستلزم ذلك وقف التعاون في التسليح والتنسيق العسكري والأمني وعودة إلى المربع الأول مع الدول الغربية. وبالتالي سيكون بإمكان القوات الروسية القتال خارج الأراضي الفدرالية؛ ضد القوى التي تهدد الناطقين بالروسية ومصالح موسكو، كما ضد القوى الإرهابية، بعدما وصل الروس إلى قناعة راسخة بأن الغرب لا يريدهم شركاء ولا مستقلين؛ بل يخطّط لمنع روسيا من التحوّل قطباً دولياً، حيت ردّ الناتو في أوكرانيا على التحدي الروسي في سوريا في سياق هجوم منسق على الغلاف الجيوبولوتيكي لروسيا.

وباتت صواريخ وأسلحة وجنود الناتو على الحدود؛ كأنه سعي لحصار عسكري يرافق الحصار الاقتصادي، بذلك لا تعود الحرب الباردة فقط، بل حرب نصف ساخنة. ولن تقف التطورات عند استحداث عقيدة دفاعية جديدة، بل لا يمكن لموسكو أن تتجاهل ضرورة العودة إلى عقيدة اقتصادية قديمة - جديدة، تقوم على نمط لم يتبلور بعد من رأسمالية الدولة القومية، وتسريع الإطار الاقتصادي الدولي المنافس للغرب، أي مجموعة البريكس، والشراكة مع دول أخرى، أهمّها إيران.

تعديلات على العقيدة الجديدة

وفي هذا السياق كشف منسّق إدارة المفتشين في وزارة الدفاع الروسية يوري يعقوبوف، أن «العقيدة العسكرية الروسية، بحاجة إلى تعديلات تخص قبل كل شيء الإشارة إلى أن الولايات المتحدة خصم رئيسي محتمل لروسيا»، في وقت ذكرت فيه وزارة الدفاع، أن القوات المسؤولة عن الترسانة الاستراتيجية النووية، ستجري مناورات مهمة يشارك فيها أكثر من 4 آلاف جندي. واكد يعقوبوف إنه «يجب أن تشير تلك العقيدة - الوثيقة الاستراتيجية، بدرجة أولى وبشكل دقيق وواضح، إلى خصم رئيسي محتمل بالنسبة إلى روسيا، الأمر الذي ينعدم في العقيدة العسكرية التي جرى تبنيها عام 2010».
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا أقرت عقيدتها العسكرية عام 2000 مستندة الى التغيّرات التي طرأت على العالم خلال السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن التطورات المتلاحقة منذ ذلك العام أجبرتها على إعادة النظر في أولوياتها.
العقيدة العسكرية الروسية كانت أقرب إلى العقيدة الدفاعية منها إلى الهجومية

وفي حين كان الكرملين يشدّد خلال السنوات الأربع الأولى من القرن الجديد على أن روسيا لا تواجه خطر الدخول في نزاعات مسلحة مع أي طرف أو بلد في العالم، لكن السنوات الأخيرة، شهدت بعض المتغيرات الدولية، لكن مع المحافظة على استراتيجية «عدم الدخول في صراعات أو الانحياز الى طرف إقليمي ضد طرف آخر». إلا أن الخبراء العسكريين يؤكدون ضرورة الاستعداد لمواجهة أي تهديد للأمن الاستراتيجي، وقد برزت للمرة الأولى «مسألة جهوزية القوات الروسية لتوجيه ضربات استباقية ضد أعداء محتملين، أو إمكان استخدام أطراف القوة لحل النزاعات» كما حصل في اوسيتيا الشرقية عام 2008 والقرم اخيراً، ما يعتبر تهديداً مباشراً للأمن الروسي وسبباً لتحديث العقيدة العسكرية في مواجهة الاحتمالات المفتوحة وغيرها، لأن العقيدة العسكرية الروسية كانت أقرب الى العقيدة الدفاعية منها الى العقيدة الهجومية.
لذا تشكّلت العقيدة العسكرية الروسية الثانية (2005 - 2010) بناء على العوامل الجيوسياسية، والتوجهات الاستراتيجية لتلك العقيدة وهي أقرب ما تكون الى الاستنفار والمواجهة مع الغرب منها الى الموقف الدفاعي المتفرج. ثم مرحلة تأكيد مكانتها العالمية حيت تعتمد روسيا «عقيدة التوازن الاستراتيجي» (العقيدة الثالثة التي تتبناها روسيا في تاريخها الحديث)، وبدأ تطبيقها عملياً اعتباراً من عام 2011. وهي لم تأتِ من فراغ بل جاءت رد فعل على استراتيجية الأمن القومي الأميركي المعلن عنها والتي استبعدت روسيا من قائمة حلفاء أميركا وأصدقائها في حربها ضد الإرهاب، كما تفعل اليوم على الرغم من أن روسيا تكافح الإرهاب.
خصوصاً أن الاستراتيجية الأميركية التي جاءت بعد 11 أيلول 2001، تعاملت مع روسيا بشكل سلبي ووضعتها ضمن الدول التي لا تطبق المعايير الديمقراطية الصحيحة، كأن اميركا هي مقياس الديمقراطية، واتهمتها بالتدخل في شؤون جيرانها ودعم أنظمة مارقة ومتطرفة، لذا تبنّت الاستراتيجية العسكرية الروسية بعض الخيارات العسكرية الاستثنائية كخيار إقدام روسيا على توجيه ضربات نووية استباقية، وإمكانية استخدام القوات العسكرية الروسية خارج الدولة.
عام 2009 أصدرت الحكومة الروسية في مرسوم خاص «حول استراتيجية الأمن القومي» حتى عام 2020. وجاء في البند المتعلق بالأمن القومي أن «الاهداف الاستراتيجية لتطوير الدفاع الوطني تكمن في الحيلولة دون نشوب نزاعات عالمية واقليمية، وكذلك تحقيق الردع الاستراتيجي في مصلحة ضمان الأمن العسكري للبلاد».

التخلي عن الإرث السوفياتي

فمنذ ذلك التاريخ وضعت الحكومة الروسية الخطط لإصلاح وتطوير الجيش بالمعدات والقدرات، وإكساب جيشها «وجهاً جديداً». فالتجارب التي خاضها الجيش الروسي منذ 1996 ضد الشيشان والجيش الجورجي عام 2008 اثبتت أن الجيش يعاني من نقص في التجهيز والتسليح، وهو ما تطلب برأي الخبراء «إنشاء جيش جديد، جيش من النوع الحديث وجيش يتمتع بسرعة التحرك والاستعداد القتالي الدائم. وتم خلال 3 سنوات تحويل أكثر من وحدة عسكرية، بما في ذلك 30 سرباً جوياً، إلى استخدام الأسلحة والتقنيات الحديثة، التي لن تقل نسبتها بحلول عام 2020 عن 70% من مجمل الأسلحة والتقنيات العسكرية المستخدمة في القوات المسلحة الروسية.
وتضمنت خطة الحكومة آنذاك التخلي عن التنظيم الهيكلي «السوفياتي» لجيشها، واعتمدت تنظيماً جديداً عماده «لواء - كتيبة» بدلاً من «فرقة - فوج». وأعلن قائد القوات البرية الروسية، الجنرال فلاديمير تشيركين، أن القوات البرية ستشهد تشكيل 26 لواءً جديداً قبل عام 2020. كذلك عملت قيادة الجيش على التخلص من «الإرث القديم» لعديد قوات الجيش، فمن 4.5 ملايين عسكري في نهاية الحقبة السوفياتية، انخفض عديد القوات إلى 1.2 مليون ، كذلك يجري العمل على التخلص من عديد الضباط والجنرالات إلى أكثر من النصف، فمن أصل 310000 ضابط لن يبقى إلا 150000 فقط. والهدف من ذلك تبسيط القوات المسلحة. كما يجري العمل على التخلص من أعداد الموظفين المدنيين بما لا يقل عن 60 في المئة من مستوياتها الحالية من 22000 إلى 8500 فقط.
ويخطط الرئيس بوتين لأن يشمل الجيش الروسي بحلول عام 2017 نحو 700 ألف محترف من الضباط والطلاب العسكريين ونواب الضباط والرتباء والجنود المتطوعين، وذلك ضمن مليون فرد تعداده الاجمالي. وسيقلص عدد المجندين بحلول عام 2020 حتى 145 ألف فرد.
ويشهد نظام التعليم العسكري إجراء إصلاحات جدية ومهمة، إذ يجرى حالياً إنشاء عشرة مراكز تعليمية علمية كبرى. كما تم ترتيب هذه المنشآت كافة بشكل هرمي لتتيح للضباط، وفقاً لسير خدمتهم، إمكان رفع مستواهم المهني بشكل مستمر.

خطة التسلح الجديدة لروسيا

وبناءً على خطة التسليح الجديدة، سيتم خلال السنوات الثلاث المقبلة تحديث 45% من العتاد العسكري الحالي للجيش الروسي. وعلى المدى البعيد فإن الجيش سيتسلم خلال الأعوام العشرة المقبلة أكثر من 400 صاروخ باليستيي عابر للقارات من الصواريخ التي تطلق من البر والبحر، بينها 50 صاروخاً باليستياً جديداً من نوع «توبول-ام». و8 غواصات صاروخية استراتيجية، ونحو 20 غواصة أخرى متعددة المهمات، وأكثر من 50 سفينة، وحوالى 100 جهاز فضائي للأغراض العسكرية، وأكثر من 1600 طائرة حديثة بحدود 2020، وكذلك 600 طائرة عسكرية و1000 طائرة عمودية هليكوبتر، بما في ذلك مقاتلات الجيل الخامس، و8 منظومات صواريخ مضادة للطائرات من طراز «إس-400» وإس 500 لتسليح أفواج الدفاع الجوي، و38 مجموعة من الصواريخ المضادة للطائرات من طراز «فيتياز» لتسليح الفرق، و10 منظومات صواريخ من طراز «إسكندر-إم» لتسليح ألوية الصواريخ و50 قاذفة استراتيجية «تو-160» و«تو-95»، وأكثر من 2300 دبابة حديثة، وزهاء 2000 منظومة مدفعية ذاتية الحركة، و17 ألف عربة عسكرية، إضافة إلى ذلك، تواظب روسيا على طرح الجديد في ترسانتها العسكريّة وآخر هذه الانجازات ما كشفه قائد القوات الصاروخية النووية، الجنرال سيرغي كاراكاييف، الذي أعلن أن بلاده ستحصل على صاروخ باليستي ثقيل وبعيد المدى بحلول عام 2018 قادر على اجتياز الشبكة المضادة للصواريخ او ما يعرف بدرع الدفاع الصاروخي الاميركي، التي تقوم الولايات المتحدة بإنشائها في أوروبا. كما تعمل روسيا على إيجاد صاروخ تفوق سرعته الصوت، يماثل الصاروخ الأميركي «إكس 51»، الذي باءت تجربته الأخيرة بالفشل.
أيضاً اعلن قائد قوّات الطيران البعيد المدى، اللواء بافيل أندروسوف، أن قاذفة «تو -160» الاستراتيجية التي تمّ تحديثها وتطويرها، ستدخل الخدمة قريباً، فيما أكد قائد القوّات الجوية الروسية، الجنرال ألكسندر زيلين، أنّ العمل قد بدأ على تطوير جيل خامس من أسلحة الدفاع الجوي، يتفوّق على منظومة «أس - 400»، بالاضافة إلى اعلان إجراء تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ «إكس-25» لتدمير السفن الحربية في البحر. وكان قائد القوات البرية فلاديمير تشيركين، قد أعلن تسارع وتيرة العمل في مشروع دبابة المستقبل التي يجب أن تنجز أول نماذجها في العام الحالي 2014، على أن يبدأ الإنتاج الصناعي لها عام 2015. كذلك، أعلن نائب رئيس الحكومة دميتري روغوزين، أن الجيش الروسي سيبدأ بتسلم أعداد كبيرة من الدبابات «أرماتا» الخفية بتقنية «ستيلث» خلال عام 2017. وفي الوقت نفسه، بدأت المناوبة القتالية للغواصات الاستراتيجية الحاملة للصواريخ من المشروع الجديد «بوريي». وتجرى حالياً اختبارات رسمية لغواصتي «يوري دولغوروكي» و«الكسندر نيفسكي».
ومن بين إحدى المهمات المطروحة على الصناعة الروسية إنشاء نظام بحري مضاد للصواريخ يماثل نظام «إيجيس» البحري الأميركي، وهو ما كشف عنه رئيس دائرة التصنيع العسكري بشركة «أو. أس. كا»، أناتولي شليموف التي تشرف على صناعة السفن في روسيا. كذلك تعتبر قوات الصواريخ الاستراتيجية أحد المكونات البرية للقوات النووية الاستراتيجية الروسية. وتقوم قوات الصواريخ الاستراتيجية بالمناوبة القتالية الدائمة، وهي تمتلك الصواريخ البالستية العابرة للقارات الثابتة والمتحركة المزودة بالرؤوس النووية. وتعد قوات الصواريخ الاستراتيجية عنصراً مهماً في العقيدة العسكرية لروسيا الاتحادية.

مكونات قوات الصواريخ الاستراتيجية

تتألف قوات الصواريخ الاستراتيجية الحالية من قيادة مرابطة في بلدة فلاسيخا بضواحي موسكو، و3 جيوش صاروخية متألفة من فرق صاروخية، بالاضافة الى ميدان تجارب لإطلاق الصواريخ «كابوستين يار» بمقاطعة استراخان، وميدان تجارب، ومحطة الاختبارات في شبه جزيرة كامتشاتكا، ومعهد البحوث العلمية الرابع المركزي، و4 مؤسسات تعليمية بما فيها اكاديمية بطرس الاكبر في موسكو وفرعاها في كل من سيربوخوف وروستوف، ناهيك عن معامل الاصلاح والمستودعات والقواعد.
ويبلغ عدد افراد قوات الصواريخ الاستراتيجية 120 الف فرد. ويشكل العسكريون ثلثيهم. والجدير بالذكر ان القوات النووية الاستراتيجية لروسيا الاتحادية كانت في بداية عام 2008 تضم 686 من حاملات الصواريخ الاستراتيجية القادرة على حمل 3100 شحنة نووية. وتقلص عدد حاملات الصواريخ بالمقارنة مع عام 2007 بـ 39 وحدة اي بنسبة 5.3%، اما كمية الرؤوس النووية فتقلصت بمقدار 177 رأس. وحسب معطيات حديثة تمتلك روسيا 811 من حاملات الصواريخ الاستراتيجية مزودة بـ 3906 شحنة قتالية. وتضم قوات الصواريخ الاستراتيجية 430 حاملة قادرة على حمل 1605 رؤوس نووية. وتمتلك قوات الصواريخ الاستراتيجية حالياً 68 صاروخاً ثقيلاً من طراز «ار – 36 ام أو تي تي خا» و» ار – 36 أم 2 (اس اس – 18 ساتان) و100 صاروخ «اس اس – 19» و201 صاروخ منصوب في المنظومة الصاروخية البرية المتحركة «توبول» (اس اس – 25) و48 صاروخاً منصوباً في المنظومة الصاروخية الثابتة «توبول – ام» و15 صاروخاً منصوباً في المنظومة الصاروخية المتحركة «توبول – ام».
الطائرات التابعة لقوات الصواريخ الاستراتيجية تستخدم قوات الصواريخ الاستراتيجية 7 مطارات للطائرات و8 مطارات للمروحيات. وتمتلك قوات الصواريخ الاستراتيجية مروحيات «مي – 8» من كافة الموديلات وطائرات «آن – 24» و»آن – 26» و»آن – 72» وآن – 12». وتعتبر 50 % من آليات الطيران المتوافرة في هذه القوات صالحة وجاهزة في الوقت الراهن...
وبالإضافة الى العقيدة العسكرية يجرى التداول حالياً في الأوساط السياسية والعسكرية الروسية بما يعرف بالعقيدة السياسية، وهي تتمحور حول الدور الذي يمكن أن تؤديه روسيا على المستويين الإقليمي والعالمي، ولو اقتضى الأمر استعمال القوة العسكرية لحماية ثروتها الاقتصادية والاجتماعية. فموسكو تطمح الى استعادة موقعها على الساحة الدولية دون العودة إلى الوراء وذلك باستعادة قدراتها على الردع وإعادة التوازن من دون العودة الى الحرب الباردة.
* باحث لبناني