ما سجّله «طوفان الأقصى» في مرحلته التاريخية لم يتوقف عندها، بل كما صار معلوماً، وانعكاساً واقعياً في ارتداداته على مراحل تاريخية ممتدة منه ومتوالية ومتوالدة عنه، تركت بصماتها الجغراستراتيجية بوضوح مثله خلال تلك الفترة من انطلاقه، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم. مثاله وحجمه وصداه فرض اعتباره وأعطى لما بعده ما يحمل اسمه ويسجّل مأثرته كما هو أو كما حصل منه. فبعده لا يمكن إنكار طوفان «الوعد الصادق» وتلاه طوفان الطلبة العالمي، الأميركي بداية، والمتمثل في صعوده التاريخي وتميّزه واستمراره امتداداً واعياً للغضب الشعبي العالمي في موازاة المجزرة الفاشنازية: سياسة الإبادة الجماعية، التي ترتكبها الإدارة الرأسمالية المتوحشة وقاعدتها العسكرية الاستراتيجية المحتلة لفلسطين والأراضي العربية المحيطة بها، والمتنفذة في الإقليم ومحيطه الجغرافي والسياسي، فضحتها كل التناقضات الأساسية والفرعية في كل المستويات والأصعدة، السياسية والأخلاقية والأمنية والثقافية وازدواجية المعايير والقيم والاتفاقيات والمعاهدات والأعراف.
فجاء طوفان «الهدهد» الذي قدّمه الإعلام الحربي لحزب الله بصورة فيديو من طائرة مسيّرة في تسع دقائق وما احتواه من مشاهد مصوّرة بدقة لمناطق في مدينة حيفا وشمال فلسطين المحتلة، وكاشفاً صوراً عالية الوضوح لميناء ومطار حيفا بالكامل، ومستوطنة الكريوت، ومواقع عسكرية وأمنية ومنشآت بتروكيميائية حساسة وخطيرة. وأكد الإعلام الحربي أن ما عاد به «الهدهد» يتضمن ثلاثة مستويات في بنك الأهداف، مدنية وعسكرية واقتصادية.
وهكذا جاء «طوفان الهدهد» امتداداً جديداً بصيغة جديدة وارتداداً كاشفاً هو الآخر؛ ما لم يصدّقه كثيرون ويخشاه آخرون ويحاول بعضهم إنكاره أو التقليل منه رغم أن مفاعيله تهزّ مرحلته التاريخية وتعرّي أدوار حكومات وأفراد هدروا مليارات الأموال لإيقافه أو إبعاده عن مخيّلاتهم المريضة كما ظهر ورسم وأعلن وخطّط.
«طوفان الهدهد»، وما لحقه، لمن يهمّه الأمر، أو تموّجاته المتتابعة أو حلقاته المتتالية، وضعت معادلات جديدة ومؤثرة فعلياً وأعادت لـ«طوفان الأقصى» في مرحلته الأولى وهجاً آخر رادعاً وحاسماً وواضعاً قدرات لم يتخيّلها العدو الطبقي والسياسي والعسكري والأمني ومتخادموه المتخاذلون في المنطقة والعالم. وهي تعبير صريح عن قوة محور وقدرات استراتيجية وتكتيكية لا يمكن نكرانها أو التقليل منها. إذ أثبتت هذه المؤشرات أمام الجميع إمكانيات يحسب لها الحساب، أي أنها كمقاومة تستخدم كل الوسائل التي تردع العدو وتضعه في موقف المهزوم رغم فارق الموازين في القوة والقوى المتفاعلة معه أو المتماهية في دعمه وإمداده بكل أنواع السلاح والعتاد والعدّة والعدد. إذ كشفت مجازر النصيرات مثلاً الدور الأميركي فيها وكذلك في المذابح الأخرى. ورغم التعتيم الإعلامي وقدرات العدو الصهيوني في التضليل والتشويه الإعلامي والحرب النفسية وكيّ الوعي وغسيل الأدمغة وشراء الذمم وتوظيف البائعين ضمائرهم، تمكّنت قوى المقاومة من المواجهة والتصدّي لها حتى مقابل هذه القدرات الهائلة.
وقد عرّت المقاومة ومحورها المساند السردية الصهيونية وأخلاقيات الحكومات الغربية والانتهاكات التي أمعَنت فيها في غزة العزّة وفلسطين عموماً. وفضحت المجازر الفاشنازية أخلاقيات الحكومات الغربية والشرقية في ازدواجية المعايير وممارسة انتهاكات صارخة لدساتيرها والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان وملاحقه وقرارات الأمم المتحدة الموقّع عليها من تلك الحكومات وإلزامية التنفيذ والدفاع عنها. وقدّمت يوميات غزة، من انطلاق «طوفان الأقصى»، اختباراً للضمير الإنساني ونموذجاً للصمود الشعبي وتنوّع قدرات المقاومة الفلسطينية في النضال والمواجهات رغم تباين موازين القوى والأسلحة المستخدمة والصمت المرافق لها من قبل الحكومات ومنظماتها، الغربية والعربية والإسلامية والتخادم والإمداد السريع للعدو بكل أنواع الأسلحة، وحتى المحرّمة منها أو غير المجربة بعد قبل غزة.
رافق «طوفان الهدهد» خطاب السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وما مرّر فيه من رسائل متعددة الأهداف والاتجاهات والقدرات التي لا يمكن أن تمرّ دون تقدير واعتبار ودراية وتفهّم لها ولما بعدها، وأكد الخطاب عنواناً لـ«طوفان الهدهد»، ولتدرّج الطوفان المقاوم، وتواصلاً مع مرحلته التاريخية وحسمه الاستراتيجي.
«طوفان الأقصى» بداية المراحل، ورغم منهج الأعداء في الإبادة وسفك الدم وتوسيع الدمار والخراب، طوفان النصر قريب.

* كاتب عراقي