تتركّز نقطة البدء في فهم الآتي القريب: إعلان إسرائيل انتهاء عملياتها في رفح بزعم انتصار... ما مرادها؟ إبطالُ حجّة المقاومة اللبنانية في نصرة وإسناد غزّة، أي إحراجها لإخراجها مِن الصراع، ومِن ثمّ ترتيب مخرجٍ دبلوماسي يعيد جبهة الشمال إلى سكون الـ 17 سنة الفائتة على 7 أكتوبر.والحال أنّ أحبولة توقّف العمليات في رفح لا تنطلي على أحدٍ طالما بقيت القوّات الإسرائيلية متناثرةً في القطاع ومقطِّعةً أوصالَه، وطالما لمْ تتوقّف الحرب بقرارٍ دولي ملزِم.
ما معنى ذلك عملانياً؟ معناه استمرار الاشتباك في جبهتي الجنوب والشمال: في الأولى، على شكل حرب استنزافٍ غوارية. وفي الثانية، بطرائق متنوّعةٍ ترفع رويداً منسوب ما حفل به الشهر الأخير. تلك هي سمة المواجهة القائمة: ثبات «القسّام» عند شَرطي وقف الحرب النهائي زائداً الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع؛ وثبات «الحلف» معه في التمسّك بهما.
بعدها، لزامٌ الربط بيْن حدثي 2006/2007: الحرب اللبنانية وتوطّد «حماس» في غزّة، ومسار الحوادث مذّاك - وبرغم الأثر السمّي لـ«الربيع» - بما شملته مِن تعاظم القدرتين اللبنانية والفلسطينية/الغزّاوية، ومِن فشل المعركة الإسرائيلية بيْن الحروب سوريّاً – بما عناه مِن إرساء منظومةٍ صناعية، عسكرية وعلمية، في سوريا – وبيْن حدث 7 أكتوبر وما لحقه لتاريخه.
بُغيَتا المسار، في عموم، كانتا وما فتئتا: (1) برهاناً أنّ جيش إسرائيل يُقهَر، بدءاً بحُسن الدفاع أمامه، ثمّ ردعه عن مزيد، ثمّ منازلته بفوز. (2) تحرير الضفّة الغربية والقدس بالسلاح، وبعلم استحالة نيله سلماً.
على المقلب الآخر، اكتفتْ تل أبيب وواشنطن بما حسبتاه ردعاً للمقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، عن تطاولٍ مسّ «تساهل» [اختصار تسمية الجيش الإسرائيلي]؛ بظنّ عجزهما المستدام عن منازلة الأخير بما أقعده. كفل ذلك لهما كلّ الوقت كي تتحضّرا ليوم نزال. الاستثناء الوحيد مِن النأي عن بتْر صعود المقاومتين كان – وما انفكّ – تيقّنهما مِن وشوك امتلاك إيران للسلاح النووي. به، يضحي الهجوم الجوّي الاستراتيجي المشترك على إيران، بهدف إجهاض تحوّلها النووي، أمرَ اليوم.
إنْ كان مِن بُغيةٍ رئيسةٍ لعمليّة 7 أكتوبر فهي فتحُ الطريق بالقوّة أمام هدف تحرير الضفّة بالسلاح. وإنْ كان مِن تطوّرٍ حملته تضاعيف الحدث مذّاك فهو توجه طهران صوب امتلاك السلاح النووي، لا الاكتفاء بعتبته. وكلٌّ مِن هذين العاملَين أشَّر إلى حربٍ واسعة: حلف المقاومة في الأولى، وحلف الغرب في الثانية.
وجبَ هنا استدخال العناصر التالية في التحليل:
1- أنّ الجائزة الجيوستراتيجية الكبرى في الإقليم، وما بعده، هي الضفة الغربية. هي فيصل الحُكم على مَن المعسكر الرابح في المواجهة الدائرة ما بيْن قزوين والبحرين: الأحمر والمتوسّط: مَن استطاع الاستمساك بها فغالب، ومَن تمكّن مِن تحريرها ففائز.
2- أنّ ضربة 7 أكتوبر أتت في أسوأ وقتٍ لدى كلٍّ مِن واشنطن وتل أبيب: الأولى لانشغالها بالمسرح الأوكراني وتداعياته، والثانية لانقسامها المجتمعي الحاد ومفرزاته.
3- أنّ قرار القيادة الإسرائيلية، وعدم لجم نظيرتها الأميركية لها، الانطلاق لشنّ حربٍ برّية على قطاع غزّة، أواخر أكتوبر، أوقعَها في شرّ أعمالها. لقد مَشَتْ بأعينٍ مفتوحة إلى فخٍّ استراتيجي مُحكَمٍ نصبه لها «قسّام حماس»، وعلقت في تلافيفه – وما زالت – لتغدو فريسة استنزافٍ غواري متصاعد.
4- أنّ أداء «تساهل» البرّي كان شديد التفاوت، فما بيْن حِرفي لوحداته النظامية في المناطق المبنيّة ومتداعٍ لوحداته الاحتياطية - فيها وخارجها - ضاع فوق وعند فوهات وداخل الأنفاق، وراح يضرب ضرب عشواء بما لاقَ بجيش إجرامٍ ممنهج، لا غير. ثم راح يلعب لعبة الأرقام الزائفة مكرّراً «ملهاة وستمورلاند» الفييتنامية، مِثل زعم قتله ربع كادر «القسّام» بلا دليل، ومغفلاً أن إجرامه الإبادي وحملته التجويعية شكّلا أفضل حملة تجنيد ملأت أيّ شاغر في الكادر، وفاضت.
5- أنّ الفشل في تقويض «القسّام»، بل وحتى جناح «حماس» المدني، عنى هزيمة المهاجِم بامتياز؛ فكيف إذا انضاف عليه (الفشل) تصاعدُ وتائر الاشتباك في الشمال، بأنْ ألْقَتْ مقاومة لبنان بقفّاز تحدٍّ محسوب في وجهه، فما عاف له مِن سبيلٍ سوى محاولة وأده، لولا أنّ الفارق بيْن الرغبة والقدرة أوسع مِن أنْ يرتقيه أحد.
6- كثّفَ مِن تعقيد سمات المشهد نضوبُ معين الاحتياط الإسرائيلي، سواء بالامتناع عن العودة إلى صفوفه أو بتكاثر الاحتجاج بيْن صفوفه، معطوفاً على انشغال «تساهل» المتزايد بما تلوح وكأنها تباشير انتفاضة مسلّحة تعمّ أرجاء الضفة، على الرغم مِن انبثاث فرقتين منه، مصحوبتين بفيلقٍ محلّي عميل، وبميليشيا قطعان استيطان، في تلك الأرجاء.
7- وبرغم ذلك كلّه، ثابر ائتلاف اليمين الحاكم في إسرائيل على خوض الحرب على وفي غزّة، فلا هو أنجز في الميدان فوزاً ولا أمّن لجيشه وكيانه صنيعةً عميلة تُمسك بناصيته في إثره، فصار «القسّام» عنقاء متجدّدة في كلّ بقعةٍ دخلها «تساهل» وخرج. وتواطأ جنرالاته مع ذلك اليمين على مواظبة إدامة الحرب، ليس أقلّه مِن باب ستْر فضيحتهم في ذلك اليوم المشهود، فضلاً عن انتظار غودو، وما هو آت، فراحوا مع ختام الشهر السابع للقتال يجأرون بخطأ مواصلته، وبوجوب عقْد صفقة تبادل أسرى وإنِ استوجبت وقف الحرب.
8- توافقَ ذلك المَيل مع رغبة إدارة بايدن بوقف العمليات، أقلّه لحين انتخابات الرئاسة الأميركية في 5 نوفمبر، حتى وإنْ رُصد الانتقال النووي في إيران؛ فالانتظار بضعة أشهر ممكنٌ ولو بعسرة. رفضُ ائتلاف اليمين الحاكم ذلك الخيار أوصل كلاً مِن واشنطن وقيادة «تساهل» إلى السعي لإقصاء نتنياهو، وإن بالقوّة. هنا أيضاً بدا كمٌّ فسيحُ الفارق بيْن الرغبة والقدرة، إذ كثافة اليمين الديني في كادر «تساهل» عَنَتْ عصيان أوامر واقتتال قوّات؛ فضلاً عن عزم ميليشيا قطعان المستوطنين في «دولة يهوذا» على منازلة «تساهل» بالقوّة إنْ طوّح بحكم اليمين في «دولة إسرائيل». وعليه، فالمراوحة في المكان، أي الاستعصاء، هي سمة الجسم السياسي الإسرائيلي.
9- أنّ حرباً كبيرة تشنّها إسرائيل على لبنان هي حُكماً حربٌ إقليمية واسعة النطاق يخوضها الحلف برمّته. فضلاً عن أنّ سمتها هي: التدمير المتوازي المؤكّد.
10- في المقابل، فالإفلات مِن حزام النار المطوِّق لإسرائيل لأشهرٍ تسعة بات حاجةً لإسرائيل وإنْ غلا الثمن.
طيب، خلطُ كلّ تلك العوامل في حويصلٍ يلِد المُخرَج التالي: مِن حيث المبدأ، وجوب الحرب على لبنان إسرائيلياً، ووجوب الحرب على إيران أميركياً/ إسرائيلياً. ومِن جهة التوقيت: عزوف واشنطن عن الأمرين حتى نوفمبر، وغياب قدرة تل أبيب عليهما الآن.
للحديث بقيّة.