تعقيباً على مقال الكاتب والأستاذ الجامعي خريستو المرّ، الوارد في «الأخبار» (الموت والحياة والمعنى إن أضاء) تاريخ 25 حزيران 2024، والذي نكنّ له كل مودّة واحترام، نقول: نعم، إن خشية الإنسان من الموت هي خشيته من المجهول الذي لم يقدر أن يستحوذ عليه بحواسّه ولم يعايشه بكيانه، ولو كان كذلك لأضحى معلوماً وليس مجهولاً. فالمجهول هو الجزء التائه من وجود الإنسان الكلّي وسيظل يوقظ أحاسيسه ويلهبها على مدى الزمن مهما بلغت دموع العاطفة. حتى في القاموس الديني، المؤمنون ينفرون من الموت كشيء سلبي عدمي وإن كان ذلك لا يعني عدم محبة لقاء الله وتمنّي ذلك. الأمران مختلفان؛ ليس معنى محبة لقاء الله عدم كراهة الموت، بل لا يحرم من الناحية الفقهية ذلك. ورد في كتاب «التنقيح في شرح العروة الوثقى» للسيد الخوئي: «لا تحرم كراهة الموت، نعم يستحب عند ظهور أماراته أن يحب لقاء الله تعالى، ويكره تمنّي الموت ولو كان في شدّة وبليّة، بل ينبغي أن يقول: اللّهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي، ويكره طول الأمل وأن يحسب الموت بعيداً عنه، ويستحبّ ذكر الموت كثيراً».
حتى في البلاء والشدة، مطلوب من المؤمن أن يبعد عنه كل شعور سلبي ضاغط يسلبه إرادته، بينما المكروه هو طول الأمل؛ هذه المفردة المدمّرة والتي هي عبارة عن استرخاء وركون للحياة بعيداً عن المسؤولية والحساب، بحيث ينجرّ الإنسان رويداً رويداً إلى نزواته المنحرفة وأهوائه الماحقة لحريته الداخلية التي تضبط تصرفاته الفردية وما يمكن أن تتركه من سلبيات على الواقع والحياة من انغماسات في الفساد والباطل.
ذكرُ الموت هو منبّهٌ وضابط لحركة مواقف الإنسان ومشاعره الداخلية، وأنه غير متروك على عنانه منعاً لهذا المخلوق من التألّه والتغطرس كما هو حال فرعون وهامان والنمرود وغيرها من الأسماء عبر التاريخ.
وربما ينبغي التمييز بين الشعور الأولي الفطري لدى الإنسان في انشداده للحياة وتمنّيه خلوده فيها وبين الشعور المساوق والدفين لدى البعض من تمنّي العدم - إن صحّ التعبير - كنوع من هدوء النفس وتوقها إلى الذوبان في الخالق الذي تؤمن به كنوع من أنواع الرضى بمصير تبحث عنه يزوّدها براحة ليست موجودة في الحياة الناقصة.
صحيحٌ أن المعنى المجترح من الوجود وما بعده، يأخذ فعله وحيّزه في النفس إن كان إيجابياً بنّاءً يقرّب صاحبه من تمنّياته ويثبته على قناعاته، لكنه لن يكون ذلك صحيحاً إلا بمقدار ما يعبّر به صاحبه عن حريته الداخلية التي تترك لعقله حرية استخلاص دروس الوجود ومعرفة حجمه منه. إنه المعنى الراقي المساوق لكرامة إنسانية في معرفتها للوجود ومآلاته ولمسؤولياتها في جعل المجهول أمامها كأنه صفحة مقروءة وتحويل هذا المجهول بالمعنى القيمي النافع إلى حيوات متجددة.
إنه لأمر غريب أن يهجس الإنسان بالموت لو كان يربي المعنى في نفسه ويتعقّل دوره ومسؤولياته، وإن كان الخوف من طبيعة هذا الموت كشيء غير مسبوق بالتجربة للإنسان يبقى شيئاً قائماً وطبيعياً.
عن المعنى، إذا ما جئت لتلاحظه، فباعتقادي هو استجابة واعية لصوت الضمير الحيّ في الإنسان في مدى تفاعله مع حريته الداخلية في ضبط نفسه وتعقّله لما تمليه صحوته، بحيث ينفي عنه كل تشتّت فكري وذهني ويتمركز بالمعنى الإيماني العام حول محورية التوحيد التي تجعل منه إنساناً متوجّهاً نحو مركزية مطلقة تأخذ بيده نحو التكامل وتنقذه من كل سطحية ومحدودية ومقيّدات. هذه المحورية التي تجعل من الكيانات كياناً واحداً ترفده هذه الكيانات بكل معنى قيمي تبرز طاقاتها وتجعلها منضبطة ودافعة نحو الأصالة والترقّي.
الصحوة في الضمير والمواقف والمشاعر والأفكار وفي التربية والسياسة والدين والاجتماع، تنتظر من يُخرجها من دفاتر التناسي والتجاهل إلى فضاء التلاحم والتكافل والتعاون على البرّ وتقوية القرابة المعرفية والتوعوية المشتركة بين البشر، القائمة على الكلام النافع الذي يحيي الإنسان في محاكاته لكلمة الله التي تمنح الحياة في كل شيء.
الفرصة، رغم السوداوية الطاغية، لا تزال متاحة تنتظر أصحاب القرار والحرية والشجاعة وتنتظر من يتلاقون ويتعارفون ويتعاونون على رفض الخطيئة والغفلة وأهلهما، والعمل لإطلاق إمكانات الأمة كي تنتج رجالاً أحراراً يَقِظين يستحقون الخلود في كتاب الحياة وعالم الشهادة. فالخير في الأمة ليس في كثرة عددها غير المجدي، بل في فعلها التغييري المواجه للغفلة والخطيئة على مدى الزمن، وهنا التحدي الكبير للفرد والجماعة.
لكن ما لم نطوّر جميعُنا ممارساتنا السياسية وأنماطنا الإيمانية ونخرج من مذهبة السياسة والإمعان في الغيبوبة الطائفية سنتجمّد ونحيا ضمن سياجٍ عالٍ من نمط عقيدي يموت شيئاً فشيئاً، ما سيترك أثراً سيئاً على الواقع ككل ويجعل منه مساحة نسجّل فيها غفلتنا القاتلة، وهذا ما حصل ويحصل.
لا تأرجح ولا خضوع ولا عزلة، فكلها مفردات سلبية لا تتسلّل إلى ذاتيات المؤمن. فالمعنى هو عدم الغفلة، أي الصحوة التي تهدّئ من روع هذا المخلوق القلق. الصحوة في القول وفي الشعور وفي العمل من أجل دفع الظلم والقسوة عن العالم، وما أكثر أشكال هذا الظلم اليوم!
لست بحاجة إلى كثير عناء حتى تشاهد بعينيك وتسمع بأذنيك وتتلمّس بيديك ظلم العدو وغطرسته في حق شعب أعزل يمارس حرب القتل والتجويع والحصار والتعذيب. يتفنّن في كل ذلك لأنه متوحش، فقد كل معنى وعاش الموت والفراغ القيمي. نعم، هو من يخشى الموت ويحاول تعويض نقصه المرضي من خلال قتل الأبرياء والتشفّي البغيض منه. هو يخاف، كما أسياده، من المستعمرين الجدد من المعنى. إنها فعلاً حرب الأشرار الذين يزرعون اللامعنى رعباً وقذائف كتعبير عن أنانية مفرطة تخاف نور الحق وشمس الحقيقة.
هناك أمل في أناس يكبر في نفوسهم الضمير والمعنى قد التفتوا إلى هذا التوحش والظلم فاحتجّوا على ذلك المنظر المسيء للمعنى، ونأمل أن يكبر هذا الاحتجاج ولا يكون وليد لحظات ومواقف ومحطات. فقد نحتاج إلى كل هذا الاحتجاج الشعبي في كل ميادين الحياة، علّه يبعد الموت الذي يخنق حياتنا ويعمل من أجل عدالة اجتماعية أرضيّة مفقودة.
نعم، إذا ما استمر المعنى المضيء بالتمدّد، فلن يكون مستحيلاً أن نقف على أنقاض التوحش وأهله من عبَدة المال والسلطة الذين عاثوا فساداً في الأرض وزرعوا الموت الجسدي والمعنوي في ربوع الحياة، ولكنهم لن يسلبوا مهما فعلوا إرادة المعنى والحياة المنتزعة من قلب الخشية من الموت.
في اعتقادي، بإيمان كهذا سينغرس وجود الإنسان أكثر في قلب عالم مضطرب وسينبعث المعنى من عتَمة الخوف وسوداويّته، ويضيء الأمل بولادة متجدّدة على مرّ الزمن.

* كاتب وأكاديمي