في الذكرى الـ35 لرحيل مفجّر الثورة الإسلامية في إيران، نستحضر رؤاه الفكرية والروحية والسياسية والجهادية والثورية بأبعادها كافة، ونستعيد تأريخها كفاعل مؤثّر في الحاضر والمستقبل. لقد قاد الإمام الخميني ثورةً فريدةً في التاريخ الحديث لا نظير لها بمواصفاتها القيادية وأهدافها الدينية ومبادئها الأصيلة السامية. استنبش قدرات شعبه الكامنة، فتفجّرت ثورة شعبية شعارها الأوحد «الشاه يجب أن يرحل» الذي كان كافياً وحافزاً لتوحيد ولمّ شمل الأطياف السياسية بكل تنوعاتها الإسلامية والقومية واليسارية والوطنية.تمكّنت هذه الشخصية الملكوتية والشجاعة والصلبة من أن توصل الثورة إلى النصر الحاسم رغم كل التحديات والتهديدات، وخاصة هيمنة «الثنائية القطبية» المتحكّمة بالعالم آنذاك، والتي تقاطعت على منع انتصار الثورة، الصعب جداً بحسب موازين القوى المادية. لذلك، وصفها الإمام الراحل بـ«المعجزة الإلهية» التي تحقّقت. وكان ذلك أول خروج على «الثنائية القطبية» للنظام العالمي، بل أول تمرد حصل لمصلحة خيار ثالث: «لا شرقية ولا غربية... جمهورية إسلامية».
وأمّا الشعار الأوّل بعد انتصار الثورة، فكان «اليوم إيران وغداً فلسطين»، وارتفع العلم الفلسطيني مكان العلم الصهيوني، وتحوّلت سفارة العدو إلى سفارة فلسطين، وعُيّن أوّل سفير لفلسطين المرحوم هاني الحسن. وتوقّف تصدير النفط إلى الكيان الصهيوني الذي كان الشاه يضخّه إليه وقُطعت العلاقات معه. وبعدها بأشهر، أعلن الإمام آخر يوم جمعة من شهر رمضان «يوم القدس العالمي»، وتحوّل «يوماً عالمياً» تحتفي به الشعوب في العالم بما له من رمزية وقداسة في الزمان والمكان.
أمّا الفعل الاستراتيجي، فهو عندما طلب الإمام إقامة استفتاء شعبي حول هوية النظام الذي يريده الشعب، وكان ذلك أواخر شهر آذار 1979 حيث كان التصويت بـ 98,2% نعم و1,8 % لا لصالح «جمهورية إسلامية». ومن ثم توجّه الإمام لبناء وهندسة نظام سياسي جديد جوهره الشريعة وبنيته نظام جمهوري، «مازجاً» بين الأصالة والحداثة، وعلى رأسه الولي الفقيه الضامن للعدالة والحقوق. تمّت صياغة دستور جديد للجمهورية، شكّل «ناظماً» لصلاحيات ومهام القيادة والمؤسسات الدستورية في ما بينها. وفي ما يتعلق بالسياسة الخارجية، أكّد على ثوابت الجمهورية التي لا يستطيع أحد الخروج عليها: فالمادة 152 تؤكد على الدفاع عن حقوق جميع المسلمين في العالم، والمادة 154 نصّت على أن الجمهورية الإسلامية لن تتخلى عن دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في كل بقعة من بقاع الأرض. وهذه المادة عابرة للإثنيات وللعرقيات وللقوميات وللطائفية والمذهبية لمصلحة الإنسانية جمعاء، فضلاً عن الاستقلال الكامل ورفض جميع أنواع التبعية وبناء العلاقات القائمة على الاحترام وحسن الجوار.
أمّا في ما يتعلّق بموضوع القضية الفلسطينية، فأقرّ مجلس الشورى الإسلامي عام 1989 «قانون مساندة الثورة الإسلامية ودعمها للشعب الفلسطيني»، وينصّ على أنّ أرض فلسطين هي للشعب الفلسطيني وستبقى كذلك، وأنها مغتصبة وأنّ على شعوب البشرية كافة الدفاع عن الحق، وخاصة المسلمين والشعب والحكومة في الجمهورية الإسلامية. إضافة إلى قانون آخر تحت اسم: «قانون وجوب الدعم الشامل من قبل الحكومة للشعب الفلسطيني في المجالات كافة».
ما تقدّم يشكّل تطبيقاً لتوجيهات الإمام الخميني الذي يقول: «نحن سنكون على الدوام حماةً للإخوة الفلسطينيين والعرب» ويقول أيضاً: «يجب علينا أن ننهض جميعاً للقضاء على إسرائيل وتحرير الشعب الفلسطيني».
ما تقدّم يؤكد طبيعة الصراع الجذري ما بين إيران، من جهة، والكيان الصهيوني وداعميه من جهة أخرى، وإدراك كل منهما أنه يشكل النقيض للطرف الآخر. فإيران ملتزمة دستورياً وأخلاقياً وشرعياً بدعم فلسطين والدفاع عنها ومساعدة شعبها لتحقيق أهدافها في التحرر والتحرير. والعدو الصهيوني يعتبر أن إيران هي التي تقف وراء كل التسليح والتدريب والأسلحة والتصنيع وجميع أشكال الدعم المعنوي والمادي ودعم الشعوب المستضعفة وحماية نهج المقاومة في العالم وغير ذلك.
ذكرتُ ذلك لأقول إنّ قدر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بما تملك من موقع استراتيجي في الجغرافيا السياسية وشعب مؤمن وواثق بنظامها السياسي وبقيادته الفذّة، في زمن الإمام الراحل أو خليفته الذي تمكّن، باقتدار وشجاعة وحكمة، أن يقود السفينة بعد الارتحال لأعظم شخصية في التاريخ المعاصر، رغم الأمواج المتلاطمة والتهديدات والتحديات التي واجهتها إيران منذ لحظة الانتصار... قدرها هو الدفاع عن المظلومين ودعم المستضعفين، ونصرة الفقراء والمحرومين، والانتصار لفلسطين وشعبها ودعمه بكل ما تستطيع.
شكّلت القضية الفلسطينية في وجدان الشعب الإيراني والقيادة السياسية والعسكرية والأمنية جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية والإيمانية، وشكّلت أولوية قصوى في الأجندة السياسية والسياسة الخارجية، كما تقدّم، دستورياً وقانونياً، فضلاً عن المبادئ الأخلاقية والإنسانية التي حكمت مسار أداء الإمام الخميني في توجيه الأمّة وتنبيهها، لتحمّل مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، وهو الذي يقول: «إنّ مسألة القدس ليست مسألة شخصية وليست خاصة ببلد ما ولا هي مسألة خاصة بالمسلمين في هذا العصر الحاضر بل هي قضية الموحّدين والمؤمنين في العالم السالفين منهم والمعاصرين واللاحقين».
هذا يؤكد على عمق رؤية الإمام الخميني حول شمولية القضية الفلسطينية في فكره ووجدانه وعقيدته، وبهذا النص يريد أن يثبت أنّ القدس هي قضية عالمية لا تتقدّم عليها أي قضية أخرى، ويضع الجميع أمام مسؤولياتهم وواجباتهم الدينية والأخلاقية مسيحيين ومسلمين، وأنها من مسؤولية الدول العربية والإسلامية والدول المستضعفة الحرة كما مسؤولية القوى السياسية والأحزاب والمؤسسات الدولية والعربية. كما يضع البشرية كلّها أمام واجباتها الأخلاقية والإنسانية لأنها تمثّل الحق في مواجهة الباطل. كذلك هو يؤكد أن «إسرائيل غدة سرطانية يجب استئصالها من الوجود»، لأن الخلية السرطانية تفتك بالإنسان لتضرب كل خلاياه السليمة وتؤدي إلى موته، كما أن وجود إسرائيل اليوم يشكّل مانعاً لوحدة الأمّة العربية والإسلامية ومانعاً لنهضتها ويعمل على تفكّكها وتقسيمها وإشغالها وإلهائها بالفتن والدسائس حتى تصبح أمة ميتة، لا حياة فيها ولا دور لها ولا مكان على المسرح الدولي. وواقعها اليوم خير دليل على ذلك، حيث وقفت الأنظمة السياسية صامتة بين ساكت عن الحق وخائف ومتآمر ومتماهٍ مع العدو.
تبقى المنطقة في حالة حرب جدية مع العدو الصهيوني جغرافيتها هي ارض فلسطين المحتلة ومفاعيلها تتجاوزها لتشمل مصالح الغرب وهيمنته وتسلطه، لذلك فالعرب وايران ومحور المقاومة والغرب والكيان الصهيوني هم اقدار متصادمة في المنطقة، وما يجري اليوم في غزة من جرائم ابادة جماعية وقتل مجاني للابرياء يؤكد ان العدو الصهيوني الذي صوّت سنة 2018 على قانون يهودية الدولة يرفض الهويات الاخرى كلها. وبما ان الرجعية اشترت بقاءها واستمرارها بضياع فلسطين وببقاء اسرائيل فلا امكانية لمشروع النهضة العربية في الوحدة والتنمية، ولا مكان ايضاً لتوحد الامة الاسلامية الذي هو شرط موضوعي لتطورها وتقدمها. ان الخط البياني لميزان قوى الصراع اليوم يميل لمصلحة المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة وجبهات الاسناد الجديدة. وما بين طوفان الاقصى 7 تشرين وبين ١٤ نيسان الرد الايراني اصبح الكيان بين تزلزل وجودي ووهن وضعف لما بقي من هيبة الجيش الذي لا يقهر واجهزته الامنية والعسكرية التي اصيبت بمقتل وانعدام الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية والامنية. وهذا يؤكد ان نهج الامام الخميني مازال حيا ومستمرا، وان فلسطين والقدس هما جزء من العقيدة والهوية والايمان، والتزام دستوري وقانوني وسياسي وعسكري لا يستطيع احد ان يحيد عنه على الاطلاق. وستبقى ايران عمقا استراتيجيا للعرب وقاعدة للاحرار حتى تحرير فلسطين.
* عضو كتلة الوفاء للمقاومة في البرلمان اللبناني