لم يستهدف مقاتلو حزب الله ولم يسفكوا دمَ مدنيٍّ سوري في الحرب السورية. العبارة السابقة عبارة صائبة. ليست صائبةً لأننا نريدها أن تكون، بل لأنها حقيقةٌ، ولأن لا دليل ولا شاهد يجعلها مخالفةً للصّواب. وإن كان هنالك عكسٌ لذلك فببساطةٍ على المدّعي البيّنة. والأهمّ والبديهي، أنّ كونها صائبة لا يقتضي أن تكون عبارةٌ كـ«النظام السوري نظامٌ ديكتاتوري» عبارةً خاطئة، أو مثلها عبارةُ أنّ الحرب السورية استنفرت الهويّات والسرديّات الطائفية في المشرق، أو عبارةُ أنّ الثورة السورية مدعومةٌ ومموّلة من دول الخليج ودول حلف «الناتو». ما يجعل عبارةَ أنّ مقاومي حزب الله لم يسفكوا دمَ مدنيٍّ سوري عبارةً مخيفةً وجريئة وكأنك خالفت الواقع، رغم صوابيتها، سببان:
الأوّل، أنّ الحرب، والانقسامَ الأهلي الحادّ، يقوم على سرديّات فوضوية وصاخبة، كحزمةٍ واحدة وكاسيت يُعاد، وخطوطه تلك الطائفة والفئة أو الأخرى، وهذا سببٌ عرضي.
أمّا السبب الأساسي، فهو أنّ هذه التجنّي منطلقه سياسي، وهو استهداف مقاومة العدوّ الصهيوني ومِن خلفه الولايات المتحدة. بمعنى، أنّ أنجع وسيلةٍ لدول الخليج وحلف «الناتو» ومَن تبعهم، لاستهداف مشروع المقاومة، هو استهدافها معنوياً وكفكرة (وهذه سياسةٌ إمبريالية قديمة في الربط بين حركات التحرّر والجريمة والمخدرات)، على شكل ادّعاءٍ صارخ وكاذب أن مقاومي حزب الله دخلوا قريةً ما وقتلوا الأطفال والنساء وارتكبوا مجازر بحقّ المدنيين، وحاصروا المدن وقصفوا الآمنين، وأنهوا تطلّعات شعبٍ إلى الحرّية والكرامة.
المفارقة أنّ حاجة طرف الخليج و«الناتو» إلى هذا الادعاء هي السبب السياسي والاستراتيجي لدخول الحزب إلى سوريا. بمعنى، أنّ هنالك طرفاً آخر بمشروعٍ سياسي عسكري مدعوماً مِن أميركا (وأميركا مباشرةً) يهدف إلى القضاء على المقاومة كمشروع، عسكرياً ومعنوياً، بشكلٍ مستمرٍّ إلى يومنا هذا. إلا إذا كان استهداف سلاح الجوّ الإسرائيلي مقاومي الحزب ورفاقَهم في سوريا هو ضمن التدخّل الإنساني الإسرائيلي لحماية المدنيين، والدعم الأميركي والعقوبات الإجرامية هدفُها حقوقُ الإنسان والديموقراطية، وحزب الله أفشل هذا المشروع الديموقراطي! وهنا الخلاصة المنطقية: أنه لولا التضحيات ضدّ أهداف هذا المشروع لما كان «طوفان الأقصى»، ولما كانت البيئة الإقليمية اليوم تصنع بشكلٍ إعجازي توازناً استراتيجياً مع محور الإبادة الغربي.
مهما كانت سرديّتك عن الحرب السورية، تبقى الحقيقة واحدةً: أنّ هؤلاء الشباب هم البقيّة الباقية من شرف هذه الأمّة ضدّ إسرائيل


وهنا بديهيةٌ أخرى ضائعة: وجود مشروع غربي كهذا لا ينفي وجودَ صراعٍ داخلي بين المجتمعات العربية وتفكّكاً في الهوية، والاستبدادَ وحكمَ طغم الفساد والطائفية. بل إنّ المشروع الغربي قائمٌ على استغلال هذه الصراعات. وعليه، فإنّ جزءاً محورياً من مواجهته ليس نفي المشكلة الداخلية أو المشروع الغربي، بل مقاربتهما معاً. إلا إذا كان الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي بدون المشروع الغربي هو سمنٌ على عسل!
وهذه المقاربة الثنائية هي أكثر السبل إخلاصاً لكل التضحيات والدماء التي ارتقت في المشرق، ولبناء مستقبلٍ لا يستغلّه الغربيّون من جديد. ليس في هذه المقاربة ترف الاختيار، بل واجبٌ لمستقبل أجيال هذه الأمّة ومشروعها التحرّري، وأيضاً لأننا ننتمي إلى منظومةٍ أخلاقية وقيمية نستقي منها أيديولوجياتنا وشعاراتنا الثورية الكبرى. إلا إذا كانت الطائفية والطبقية والاستبداد وديمومة الشرخ الاجتماعي بين فقراء شعوبنا لا تندرج على جدول أعمال مشروع التحرّر، مشروع بناء إنسان «طوفان الأقصى»!
المفارقة اليوم، مع ارتقاء مئات المقاومين من حزب الله شهداء في أشرف جبهةٍ ضدّ العدوّ الصهيوني، أنّ التجنّي والكذب على هؤلاء الشباب، سواء بشكل مباشر بوسمهم بالقتلة، أو التبرير الجبان والوقح أنهم اليوم شهداء «رغم ما فعلوه في سوريا»، هو مصداقٌ وشاهدٌ لصلب التخندق السياسي النقيض على المستوى العربي. فلا مجال هنا للمناورة أو التنطّع بالسموّ الأخلاقي، فمهما كانت سرديّتك عن الحرب السورية، تبقى الحقيقة واحدةً: أنّ هؤلاء الشباب هم البقيّة الباقية من شرف هذه الأمّة ضدّ إسرائيل، لم تُدنَّس أيديهم بجريمةٍ بحقّ سوريين، وهم أشرف حتّى مِن أن يقفوا في موقع الدفاع عن تهمة كهذه. بل إنّ مَن على قفص الاتّهام هو من يتجنّى عليهم، بكذبٍ على رؤوس الأشهاد. التهمة، والعبارة الصائبة، اليوم، أنّ مَن يتجنّى على مقاتلي حزب الله بسفك دمٍ مدنيٍّ سوري بدون دليلٍ في الحرب السورية، وقف، ويقف، في خندق المشروع الغربي ويعتاش على ديمومة الانقسام الأهلي العربي. والأهم أنه، ونحن في منتصف حربنا المصيرية لهذا القرن، ليس حتى في خانة التخاذل عن نصرة فلسطين، بل هو متواطئٌ ضدّها.
ولذا، تراهم يستنفرون من مركزية القضية الفلسطينية، محاولين تحويلَ الوطن العربي إلى سلّة قضايا منفصلةٍ. لا لأنّ دم الفلسطيني مختلفٌ، أو أغلى، بل لأنّه يكشف أن تنطّعهم بالدم السوري والعراقي واليمني وغيره، هو لتبرير وقوفهم مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب. وأنّ هذا الدم الفلسطيني يكشف أنّ هذا الوقوف هو ضدّ مصلحة الدم السوري والعراقي واليمني، وأنّ المسألة أصلاً ليست حرصاً على دماء أحد في أولمبياد الدم العربي.
المسألة، ببساطة، هي مقارنةٌ بين مَن يريد أن يقول لنا إنّ دعمَ وأموال الاتحاد الأوروبي وأميركا هي مصلحةٌ لـ«قضايا» لا مركزيةَ فيها، فيلجأ إلى الكذب، وبين مقاتل حزب الله الذي بذل، ويبذل، دمَه، في سوريا وفي حدود فلسطين، لغايةٍ هي ذاتها، يقتله ويستهدفه لأجلها العدوّ الإسرائيلي من حلب إلى جنوب لبنان، ضمن قضيّةٍ واحدة، دليلها فعل إسرائيل نفسها. والأبلغ صدق وفعل هؤلاء الشهداء أنفسهم. قالوها وفعلوها في كل الساحات: لم يكن دمهم يوماً إلا على طريق القدس.

* كاتب عربي