الاحتفال باليوم العالمي للبيئة، هذه السنة، في 5 حزيران 2024، له نكهة مختلفة عن الأعوام السابقة، نظراً إلى ما يدور حولنا من حروب ومعارك طاحنة تجعل البيئة ونُظمها في مهبّ الريح، وصدقيّة المنظمات البيئية على المحك. ولا شك في أن حرب الإبادة الجماعية في غزة والتدمير المنهجي المتعمّد للأراضي الزراعية، ومصادر المياه، والبنى التحتية، والمؤسسات الصحية والتعليمية، بالإضافة إلى حرب التجويع، تجعل الحديث عن حماية البيئة نكتة سمجة وثقيلة الظل، وخصوصاً أن الدول المتنفّذة التي تتشدّق بالشعارات البيئية الطنّانة هي نفسها التي تصنع أسلحة الدمار الشامل، وتُصدّرها إلى القتَلة من حلفائها.ما يجري اليوم في غزة هو «إبادة بيئية» (Ecocide) حقيقية يقوم بها جيش الاحتلال على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه، بما في ذلك المنظمات البيئية الحكومية وغير الحكومية، فضلاً عن وسائط الإعلام المختلفة. هذه الإبادة البيئية متواصلة بإصرار منذ أوائل شهر تشرين الأول 2023، وتتزامن اليوم مع الاحتفالات العالمية باليوم العالمي للبيئة، والدعوات إلى استعادة النُّظم الإيكولوجية، والتعاون الإقليمي من أجل حماية البيئة من الأخطار التي تُهدّد الحياة البشرية. وتشمل النظم الإيكولوجية الغابات، والأنهار، والصحارى، بما في ذلك النبات، والماء، والهواء، والتربة، بالإضافة إلى الإنسان والحيوان.
وينبغي القول هنا إن الانتهاكات البشرية، وخصوصاً من الدول الكبرى المنتجة لأسلحة الدمار الشامل، وللمخلّفات الخطرة، والملوّثات، هي التي تُهدّد سلامة هذه النظم الإيكولوجية ووجود الإنسان على هذا الكوكب. ولعل الحروب المتنقلة، وما يرافقها من تخريب وتدمير وتهجير، هي أخطر ما يُهدّد البيئة الطبيعية وأنظمتها المتنوعة. ومن المقرّر أن تستضيف المملكة العربية السعودية فعاليات الاحتفال هذا العام، وسوف تقوم بكلّ الإجراءات والطقوس المصاحبة لهذا الاحتفال، من أجل تأكيد التزامها بدعم برامج الإصلاح البيئي والتنمية المستدامة، وتعزيز دورها في الحفاظ على البيئة العالمية وحماية مستقبل البشرية وكوكب الأرض. لكن السؤال الجوهري هنا: مَن هي الفئات البشرية التي تسعى الخُطط العالمية لحمايتها؟
فغير بعيد عن حدود الدولة المضيفة، تجري حرب إبادة بيئية حقيقية، فضلاً عن حرب الإبادة الجماعية الشاملة التي يقوم بها الكيان الصهيوني وشركاؤه في القتال مِن الدول التي تزوّده بالمال والسلاح، وتدّعي حرصها على النظام البيئي واستدامة نُظمه الإيكولوجية. وغير بعيد أيضاً عن الحدود الغربية للدولة المضيفة، تتمزّق دولة السودان إلى دويلات برعاية تلك الدول نفسها التي تدعم جرائم الحرب في غزة. والسودان الذي صنّفته المؤسسات الدولية كسلّة غذاء العالم العربي، نظراً إلى خصوبة أراضيه ووفرة مصادر المياه، أصبحت أراضيه اليوم قاحلة، ويتعرّض شعبه لمجاعة حقيقية بفعل حروب الإخوة المدمرة.
السؤال الجوهري هنا: مَن هي الفئات البشرية التي تسعى الخُطط العالمية لحمايتها؟


وإلى الجنوب أيضاً، تقوم الدول المشاركة بالعدوان على غزة بحرق الأراضي وقصف منشآت البنى التحتية في دولة اليمن الذي أنهكته الحروب، بسبب تضامنه مع الشعب الفلسطيني المظلوم في غزة ومساندته له. ولا بد من إضافة سوريا، وليبيا، والصومال، والعديد من الدول العربية إلى قائمة الدول التي جرى استهدافها واستنزاف مواردها الطبيعية، وتعريض بيئتها الطبيعية للتخريب والتدمير.
في ظلّ هذا الوضع البيئي المتردّي، في هذه المنطقة من العالم، ما هو الخطاب المُقْنع لشعوب المنطقة عن الإصلاح البيئي ووقف تدهور النظم الإيكولوجية، ومكافحة التصحّر. وما هي النظم التي تحتاج فعلاً إلى ترميم وإصلاح؟ ومن يختار ذلك؟ من يستطيع كسر الحصار عن غزة، ويُدخل الغذاء وشاحنات المساعدات لوقف المجاعة؟ أسئلة لا تنتهي ولا تجد إجابات جدّية.
تتضمّن برامج الاحتفال هذا العام، كما جرت العادة في كل عام منذ عام 1972، عقد اجتماعات موسعة تناقش فيها الوفود المشاركة من حول العالم قضايا مهمّة، من الناحية النظرية، مثل طبيعة النُّظم الإيكولوجية الأساسية على الكوكب، وتوفير الغذاء، وتوفير المياه النقيّة الصالحة للاستهلاك البشري، والحدّ من الانبعاثات الكربونية، وقضايا التغيّر المناخي. لكن من المُستبعد أن يُناقش المجتمعون الأسبابَ المباشرة للتدهور البيئي وتدمير الموائل الطبيعية في السودان وسوريا واليمن، على سبيل المثال، أو يناقشوا موضوع تجريف الأراضي الزراعية في قطاع غزة الذي تقوم به جرافات جيش الاحتلال. ومن المؤكد أنهم لن يتطرّقوا إلى النتائج الكارثية الناجمة عن إحكام الحصار على قطاع غزة ومنع الماء والغذاء والدواء، وترك السكان يواجهون مجاعة مروّعة. كما أن من المستبعد أن يناقشوا الآثار الناجمة عن ضخ مياه البحر المالحة إلى الطبقات الحاملة للمياه الجوفية، وتهديد مصادر المياه العذبة، المستنزفة أصلاً، بالتلوث، بحجة إغراق الأنفاق التي تستعملها المقاومة. أو إذا ما كانت الانبعاثات الكربونية الناجمة عن إلقاء آلاف الأطنان من القنابل الثقيلة أو الفوسفورية، أو قنابل اليورانيوم المنضّب تلوّث الهواء وتساهم في التغيّر المناخي.
وبالرغم من أن الأضرار البيئية في معظم الحالات تنتقل من منطقة إلى المناطق المحيطة، فمن المستبعد أن تلتفت فعاليات اليوم العالمي للبيئة إلى هذه القضايا الملحّة. وعليه، فإن الأهداف التي تُنادي بها الأمم المتحدة وبعض الجمعيات البيئية تبدو أهدافاً نبيلة وبرّاقة لا يستطيع عاقل أن يرفضها أو أن يعارضها، إلا أن الممارسات التي تقوم بها الدول الكبرى التي تصنع الأسلحة وتدير الحروب المتنقلة، تشير إلى عمق التناقض بين الشعارات المرفوعة والممارسات على الأرض. وهكذا، فإنّ البيئة الطبيعية والنظم الإيكولوجية المتنوّعة تظلّ هي الضحية الدائمة لتلك الحروب والممارسات، بينما تبقى الدول الفقيرة والمجتمعات المهمّشة هي من يدفع الثمن الباهظ والفاتورة الكبرى.
إذاً، ما هي التحدّيات التي ينبغي مواجهتها للحفاظ على البيئة وتنميتها بما يتلاءم مع مصلحة البشرية؟ ما هي الحلول المقترحة لوقف التدهور البيئي؟ هل يمكن وقف الصناعات العسكرية وفي مقدّمها أسلحة الدمار الشامل؟ هل يمكن وقف الحروب وإعطاء الدول الفقيرة حقوقها وحماية ثرواتها ومواردها الطبيعية؟ أسئلة كثيرة تتردّد في الأذهان بمناسبة اليوم العالمي للبيئة. لكنّ السؤال الملحّ والأكثر أهمية هنا: هل تستطيع الدولة المضيفة إثارة هذه القضايا الصعبة المحيطة بها؟
ينبغي القول إن المملكة العربية السعودية تبذل جهوداً كبيرة من أجل حلّ المشاكل البيئية من خلال مبادرات عالمية وإقليمية، تهدف إلى الحدّ من تآكل التربة، وحماية التنوّع البيولوجي، والتخفيف من آثار تغيّر المناخ والحفاظ على مصادر المياه. غير أن هذه المبادرات تبقى حبراً على ورق ما لم تؤثّر هذه الجهود في وقف حروب الإبادة المستعرة في محيط المملكة. ولذلك، لا ينبغي أن تكون ديبلوماسية الحفاظ على البيئة الطبيعية مناسبة لحماية الكيان الصهيوني ومكافأته على المجازر التي يرتكبها في غزة ضد السكان وضد البيئة الطبيعية.

* كاتب فلسطيني