تلوم طائفة من المؤرخين الأتراك، كرشيد غوندوغدو، جماعة الاتحاد والترقي (القومية) على مسؤوليتها عن هزيمة العثمانيين في حروب البلقان (1912م – 1913م)، والتي مهدت لاحقاً للهزيمة النهائية للعثمانيين في الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م). يرى (دوغدو) أن الاتحاديين تعمدوا شن حملات مزايدة إعلامية تحريضية لئيمة على الحكومة المكونة من خصمهم حزب الحريةوالائتلاف (الليبرالي). جناية الليبراليين العثمانيين هنا وفق هذه الحملات كانت جبنهم، وخيانتهم، وتخاذلهم عن نصرة مسلمي البلقان على الكيانات القومية المتطرفة الصاعدة كألبانيا وبلغاريا وصربيا واليونان، ما دفع الليبراليين أخيراً وفق دوغدو للتورط في حرب لم تكن السلطنة مستعدة لها عسكرياً (غوندوغدو: حزيران 2012م). كانت نتيجة هذه الحرب كارثة جيوبوليتيكية وقومية للأتراك، قد تكون أفظع من خسارتنا لفلسطين، وبالتأكيد أشنع وأخزى من خسارة الإماراتيين جزر الطنبين وأبو موسى! فقد قدّرت خسارة السلطنة بما يقارب الـ 80% من ولاياتها المتبقية في البلقان، ومات ما يقارب الـ 1.5 مليون بلقاني مسلم، وتهجير 400 ألف مسلم إلى الأناضول (Hupchick: 2002, p321).
(انجل بوليغان ــ المكسيك)

في حينها صرح محمود مختار باشا وزير البحرية العثماني سنة 1912م، في مقابلة صحفية، أنه حاول إقناع طلعت باشا (اغتيل لاحقاً في برلين 1921م)، بالتعاون مع الحكومة الائتلافية ضد العدو المشترك والكف عن المزايدة التحريضية. فكان رد طلعت باشا ما يلي:
«قبل كل شيء نحن أنصار الحرب، ولن نتخلى عن هذا السلاح الفعال (قصد التحريض الحربي)». نظم بعدها طلعت باشا وثلة من الاتحاديين اجتماعاً حزبياً حضره طلبة جامعيون شباب، وقام طلعت ملوحاً بالعلم العثماني، صائحاً «الحرب، نريد الحرب!» شرح بعدها طلعت باشا أن الحرب وحدها هي ما يمكن أن يصون شرف الأمة ومصالحها، فتحمس الجمهور الغفير وهتف «الحرب، نريد الحرب، لنضرب بلوفديف، لنضرب صوفيا»(Kieser: 2018, p125). كان من الطبيعي أن يرى طلعت باشا في المزايدة السياسية ضد خصومهم في مجتمع عاطفي، مأزوم، مهزوم، متكالب عليه كالسلطنة وقتها، «السلاح الأمضى» بيد القوميين! طلعت باشا كان أحد زعماء الاتحاديين الكبار الثلاثة، والآخرون كانوا أنور باشا (قتل بتركستان السوفييتية عام 1922م) وجمال باشا (اغتيل بتبليسي السوفييتية عام 1922م). يتهمه المؤرخ السويسري هانز لوكاس كايزر بالمسؤولية عن مذابح الأرمن في الحرب العالمية الأولى (Kieser: 2018).
الوحيد من بين الاتحاديين الذي لم يؤيد هذا العرض الشعبوي الأرعن كان جاهد حسين (توفي 1957م)، الذي كان أحد أفصح القوميين خطابة، وأبلغهم بياناً، إذ اعتبر أنه من غير اللائق أن نطلب الحرب ولنا حكومة قائمة (Kieser: 2018, p125)! أي إن الرجل لم يكن فقط متحفظاً على الانخراط في الحرب على الأقل في حينها، إنما كان أيضاً معادياً لتورط السلطنة بتحالف عسكري مع ألمانيا، مفضلاً الاكتفاء بالتعاون الاقتصادي والثقافي معها، لتظل السلطنة محايدة. لست هنا لأبيّض صفحة جاهد حسين هذا، إنما لأظهر أن عقلاء الاتحاديين أنفسهم استنكفوا عن خطاب متطرفيهم.
ما حصل بعد ذلك أن التحق محمود مختار باشا في الحرب، وقاد الفيلق الثالث وهُزم، بعد معركة سيئة الأداء وأصيب على إثرها الباشا إصابة شديدة، وفشل طبعاً في حماية بلدة كيرك كيليس العثمانية، التي هي اليوم لوزنغراد البلغارية، وهجّر أهلها المسلمون جميعاً نحو إسطنبول. المثير أنه رغم الخسائر الفادحة للقوات البلغارية والصربية المهاجمة (حوالى 50% نسبة الخسائر)، وهي نسبة هائلة، فإن وزير الحربية الفرنسي وقتها (الكسندر ميليراند) أثنى على الجيش البلغاري، قائلاً بما معناه أنه يفضل 100 ألف منهم على أي من جيوش أوروبا (Gabor: 1999, p6).

أدب الثرثرة الوطنجية
في ثقافتنا السياسية، كتب يوماً الأديب اللبناني أمين معلوف، الذي لا أتفق معه آيديولوجياً، ولست معجباً بماضيه السياسي - رغم أني أحب بعض رواياته - عن أن وباء المزايدة السياسية «متوطن في ثفاقتنا العربية»، والذي اعتبره الشاعر السوري نزار قباني (توفي 1998م)، الآفة التي قتل بها العرب جمال عبد الناصر (توفي 1970م)، بدفعه لخوض مواجهة حزيران 1967م ضد الكيان الصهيوني نعرف ما حصل بعدها، دُمر الطيران الحربي المصري، وهُزم المصريون، وضاع ما بقي لنا من فلسطين وسيناء والجولان! كتب قباني، «هوامش على دفتر النكبة»، ومنها
أنعي لكم... أنعي لكم، نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة
إذا خسرنا الحرب لا غرابه، لأننا ندخلها...
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة، لأننا ندخلها...
بمنطق الطبلة والربابة
لكن بعد وفاة عبد الناصر عام 1970م، عاد قباني وكتب قصيدة «قتلناك يا آخر الأنبياء»، لام العرب على رذيلة المزايدة هذه، إذ كان قد أسهم هو نفسه في المزايدة على عبد الناصر، بقصيدته السخيفة «هوامش على دفتر النكبة». فقال في مطلع قصيدته النائحة في رثاء عبد الناصر:
قتلناكَ... يا آخرَ الأنبياءْ
ليسَ جديداً علينا، اغتيال الصحابة والأولياءْ...
فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ، وأيامُنا كلُّها كربلاءْ...
■ ■ ■

القصيدة المنقولة هنا بتصرف، هي جزء من أدبيات «التوبة والندم السياسي»، وفي وسعك تتبّع جذور هذا الضرب من الأدب وصولاً إلى بكائيات عشتار على حبيبها تموز، إذ خذلته وضحّت به لكي تنجو من العالم السفلي، وما ورثناه من تراث أسلافنا كأمم إبراهيمية من ندم وحسرة على تركنا موسى يقاتل وحده، وعلي وأهل بيته، حين تثاقلنا، وجبنّا، وخرجنا عليهم لنعيش بعدهم شتاء تيه طويل. يلاحظ هنا أن إحدى أهم الحركات السياسية التي كوّنت ثقافتنا كانت حركة التوابين (القرن 7م)، التي ستنسلّ عنها عشرات الجماعات السوسيو-سياسية.

الثوار الكتبة...
كل ما مرّ معنا من تأملات أمين معلوف، وأبيات نزار قباني، وفيديوهات عبد الباري عطوان وجوقة صاخبة من الاستعراضيين المسلين والمملين، يكشفون لك ألوان جلودهم كلما وقعت فينا واقعة. عبد الباري عطوان، وعزمي بشارة أحد هذه الأصوات المزايدة مؤخراً على المقاومة في جنوب لبنان تحديداً. خاصة بعد أن ألقى السيد حسن نصر الله خطابه الأول بعد غزوة تشرين العام الماضي في غلاف غزة، فبدا الرجلان يطلقان الخطاب الديماغوجي نفسه.
لكن هذا الخطاب لم يعجب الأخ عبد الباري، أظنه كان يريد خطاباً يشبه خطابات صدام و«بوزاته»، التي يهواها بعض المراهقين العرب، شيباً وشبّاناً. حتى إن أحد فيديوهات عبد الباري عطوان المرفوعة على اليوتيوب، يحمل عنوان «يحيى السنوار صدام جديد»! لا أعرف إن كان عطوان مسؤولاً عن تحميل هذا الفيديو أم لا، إلا أنه ذكر شيئاً في الفيديو عن مقارنة السنوار بصدام، أو أنّ هذا عمل أحد جماهيره، ممن ما زالوا يحنّون إلى هزائم صدام ومخازيه العسكرية والعائلية!
السنوار لا يشبه صدام، السنوار ابن مدرسة المقاومة، التي أرسى فلسفتها عماد مغنية (استشهد 2008م) وقاسم سليماني (استشهد 2020م)، والسيد حسن نصرالله. هذه المدرسة، لم تقم على التهريج، ولا على استعراض فائض القوة المتوهم كما كان يفعل صدام وغيره، ثم يهزم هزائم تُدرّس لفجاعتها. السنوار سار وفقاً لمسار طويل، صبور، معقد، صعب، يعتمد التخطيط السليم، الهادئ، والصامت، هذا كفاح يعتمد المباغتة والتحضير، ولا يعتمد العشوائية والانفعال كما كان نظام صدام الذي أورثنا – نحن العراقيين - التهلكة والإذلال.
لذا إن حزب الله ومن خلفه الإيرانيين كانوا مع مقاومة غزة قبل غزوة تشرين، فهم إذاً منخرطون في قلب هذه المعركة، وحياة كل فرد فيهم مهددة، وبعضهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. من المعيب عليك المزايدة على هؤلاء، وأنا أستغرب أن الأخ عطوان لم يستوعب حتى الآن فلسفة عمل هؤلاء القوم.
«في وسعك تتبّع جذور أدبيات «التوبة والندم السياسي» إلى بكائيات عشتار على حبيبها تموز، إذ خذلته وضحّت به لكي تنجو من العالم السفلي، وما ورثناه من تراث أسلافنا كأمم إبراهيمية من ندم وحسرة على تركنا موسى يقاتل وحده، وعلي وأهل بيته»


المقاومة ليست مهمتها أن تسجل موقفاً لترضي غرورنا وجهلنا وعقدنا، مهمة المقاومة تحرير الأرض، وهذا يتطلب قتالاً هو ما بين الصلابة والمرونة، وبين كر وفر، وهم من يقررون ذلك. لذا علينا احترام قرارهم ما بين قرار الحرب المفتوحة الشاملة، وتلك المحسوبة، وهنا لا أدري لمَ عليّ أن أتحدث عن البديهيات مع متابع لشؤوننا السياسية كعطوان؟
هناك أسلوب آخر اعتمده عطوان وهو الزعيق بشجاعة اليمنيين، وهم أشجع سكان المنطقة من دون شهادة من أحد. لكني أرى أن عطوان ما كان يمتدح شجاعة اليمنيين وتضحيتهم لوجه الله فحسب، بل ليغمز من قناة مقاومة حزب الله! أي إنه لا يذكر أشجع العرب تقديراً لمواقفهم، بل ليشنّع على مقاومة حزب الله، التي لم تفتح حرباً شاملة ماحقة كما كان يريد الأخ عطوان. خاصة بعد خطاب نصر الله الأول الذي لم يعجب ثلة من الكتبة ذوي النياشين الحربية في الإعلام العربي! الذين امتهنوا مهنة توثيق هزائمنا وكوارثنا ونقلها، ولم يكسب غالبيتهم بحياته عركة.
لا أفهم في أي شيء قصّر معنا حزب الله؟ هل يجب أن يباد ويفنى كل جبل عامل، ولبنان ومعه سوريا ليرضى عنهم العرب؟ لكن يبدو لي أن مشكلة عطوان مركبة، فهي عروبية طائفية، ليس بالمعنى المذهبي، ولكنها طائفية سياسية، تتمنى إعادة إحياء المارد العربي، لتوجّسه من إيران. ما زال عطوان يراهن على النظام الرسمي العربي الرميم، ومعه مجموعة من القوميين بأشكالهم!
من هنا لربما تأتي أهمية الترحم السياسي على صدام وعهده، حتى لو كان العراقيون في حينها قد لامسوا الحضيض، يسميه بقايا البعثيين بالعراق «الزمن الجميل» أو جيل الطيبين! حيث كنا دولة بوليسية، شوفينية، يتجسس الكل على الكل، ويبذل «الطيبون» منهم أرواحهم، لمحاربة الإيرانيين، وهم التجربة الجدية الفعالة الوحيدة في تاريخنا في مقارعة الصهيونية.
لكن هناك ثقافة إبطان العداوة لإيران، وإظهار المحبة لها، والتعامل معها كسند مؤقت، حتى ينهض الرميم الرسمي العربي، لنعيد وضع إيران عند حدها على طريقة صدام «وجيل الطيبين»! المسألة هنا أنه في ما يخص قضيتنا المركزية، أن كل النظم العروبية فشلت في مقارعة إسرائيل، وانتصرت هذه المقاومة الإسلامية. التي شاءت أقدار التاريخ أن يكون معظمهم شيعة، ولاؤهم لمرشد إيراني! فما العمل يا قوم؟ هل نزايد عليها؟ أم نتآمر عليها كما فعل عزمي بشارة؟ هل أدمنّا الهزائم؟ أم آن أن نتعلم كيف ننتصر، بداية بألا يفتي قاعد منا لمجاهد!
أنا شخصياً تشاءمت من تأييد عبد الباري عطوان في السنوات الأخيرة لحركات المقاومة في الإقليم، باعتبار أنه لم يقف مع طرف محلي واجه الغرب في العقود الماضية (من صدام إلى بن لادن إلى غيرهما) إلا وانتهى إلى النكسة والهزيمة. هذا رغم أنني للأمانة أستظرفه، ويسليني أداؤه المسرحي في استعراض مصائبنا، حتى في عز أيام تمجيده صدام حسين (شنق 2006م)، وأسامة بن لادن (قُتل 2011م)، هذا فضلاً عن الفصائل العراقية التي أيدها، والتي فشلت في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لذا قد يكون من المفيد أن نطلب من السيد عطوان، لمصلحة المقاومة، أن يترك المزايدة أولاً، ويترك اليمن وشأنه، والمقاومة في حالها، بل أن يبتعد عنها مسيرة ألف عام – فهي لا تحتاج النحس – هذا إن كان يريد رؤية النصر في فلسطين!
أما عزمي بشارة، فموقفه أشد غلاظة، وأكثر استهجاناً للمنطق، خاصة عندما خرج علينا مرتين على ما أذكر يستظرف ويتمنطق، ساخراً من مبدأ وحدة الساحات الذي رفعته المقاومة وطبقته. حيث لمح أن هذا المبدأ لا يشمل فلسطين، لأنها ليست شيعية، ككفريا والفوعة والساحل السوري العلوي الطابع. المثير هنا أن المقاومة الإسلامية في لبنان، التي يطالبها بشارة اليوم بالفزعة لغزة، هي نفسها المقاومة التي سعى بشارة سعيه، ونصب جهده لخنقها! حين تزعم التنظير لمصلحة معارضة سلفية تكفيرية وحشية تسعى إلى إسقاط النظام في سورية! البلد الذي كان رئة المقاومة الوحيدة في الوطن العربي، وجسر الإمداد البري اليتيم الذي يربطها بالعراق وإيران، لا يمكنك أن تتآمر على طرف وتحاربه بهذا الشكل، ثم تقيّم أداءه أو تلومه على قلة حيلته.
برر عزمي بشارة في الماضي وحشية الرعاع الطائفي والظلامي في الثورات العربية، ومنها سوريا، عبر القول الشهير أيامها إنه في الثورات تندلق علينا أحشاء المجتمع! فهذه الحركات الإبادية هي إذاً، ببساطة، «الجزء القبيح» الذي لا نراه عادة من مجتمعنا. كأنه يحدثنا عن «فلكور شعبي» طفح علينا ويجب أن نتقبله: دم ورعب وظلامية. فهذا، في المنطق التبريري/التآمري، هو شكل شعبنا الذي سحقته وأذلته وجوّعته الديكتاتورية، وهذه هي طريقته في التعبير عن نفسه، وعلينا أن نفهمها ونؤيدها. حين تخرج من شعبك حركات طائفية، وعنصرية، دموية، تخريبية، وغرائزية حاقدة، فذلك كله ليس نتاج عوامل تاريخية وإقليمية وعولمية، بل هو ذنب الديكتاتورية فقط، وما عليك إلا أن تنتظر الديمقراطية لتصلح نفسها بنفسها، فتنتهي مشاهد الفرهود المنفلتة تلك.
الهند ديمقراطية منذ أكثر من سبعة عقود، وما زال ملايين منهم يحملون هذه الصفات، فماذا سنفعل إن حكمتنا نخبة انتهازية عميلة باسمهم؟ وكلما انتظمنا لنقاوم، أطلقوا علينا غوغائيتهم العمياء الظلامية، أو ببساطة طبقت قوانينهم القروسطية علينا باسم الديمقراطية. المثير للسخرية أنه من الناحية السياسية، لم يعرف المجتمع الشيعي في بلاد الشام، مفكراً مؤلباً عليهم منذ الشيخ ابن تيمية (توفي 1328م)، كالدكتور عزمي بشارة، هداه الله.
لن أعيد على مسامع عزمي ما سبق وقلناه لعبد الباري، فهو لبيب يفهم بلا إشارة، أو نشرج دور جبهة المقاومة في الإقليم في تهيئة البنية التحتية العسكرية للمجاهدين في غزة. من أنفاق، وورش أسلحة، ومخازن ذخيرة، فضلاً عن تدريبات يخضع لها شباب فلسطين، إلى جانب الإيرانيين واللبنانيين واليمنيين، والعراقيين، على تركيب المسيرات، وإطلاقها، وإطلاق الصواريخ بأضرابها، منذ عقود.
من يطعن المقاومة في ظهرها، يطعن فلسطين عملياً، ويعرقل تحريرها، ومن تسبب في خراب سوريا وليبيا وتونس والسودان سوف يبيع فلسطين بسهولة، لذا إن مظفر النواب (توفي 2022م)، خاطبهم يوماً وهو لم يسمع بغالبيتهم لكثرتهم إذ قال:
من باع فلسطين وأثرى بالله
سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام
ومائدة الدول الكبرى؟
...
من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة؟
أقسمت بأعناق أباريق الخمر وما في الكأس من السم
وهذا الثوري المتخم بالصدف البحري ببيروت
تكرش حتى عاد بلا رقبة

«تلطيخ سمعة المقاومة يهدف بالدرجة الأولى إلى محاصرتها شعبياً في محيطها العربي. سمعة المقاومة ووطنيتها تشبهان بمعنى ما سمعة القبائل العربية في البادية. فأنت هنا لن ينجيك إلا الله، وحسن تدبيرك، وسلاحك، وتماسك القبيلة، ثم صبرك وحسن سمعتك»


المقاومة صيت وسمعة

تلطيخ سمعة المقاومة، بالتهاون والتخاذل، والتقصير، والطائفية، وتصفية الحسابات معها (بسبب هزيمتها للمشاريع المشبوهة لقطر وغيرها في سوريا والعراق والإقليم)، يهدف بالدرجة الأولى إلى محاصرتها شعبياً في محيطها العربي. سمعة المقاومة ووطنيتها تشبه بمعنى ما سمعة القبائل العربية في البادية. فأنت هنا محاط بالموت من كل ناحية، ولن ينجيك إلا الله، وحسن تدبيرك، وسلاحك، وتماسك القبيلة، ثم صبرك وحسن سمعتك! السمعة الحسنة، هي الرأسمال الرمزي للعشائر العربية (الصيت والسمعة)، وهي ليست مسألة نافلة كما يخبرنا علي الوردي.
أذكر حكاية رواها الوردي في أحد كتبه، يقول إن شيخاً كريماً، ذائع الصيت بفضل سخائه وفزعته للملهوف، قد توفي، فضرب الأرض قحط، فجاعت بناته، وسمع العرب بذلك، فجاؤوهن من كل المضارب، لينجدوهن، بالزاد، والأمان، والملفى، والقِرَان إكراماً لصيت أبيهم وذكراه. ذلك أنك، في البادية إن أنت أكرمت الناس جذبت لنفسك الأتباع والأنصار، وبهم تقود قومك، وكذلك هي المقاومة. يعبّر عن ذلك بيت شعري لحاتم الطائي يخاطب زوجته ماوية فيقول:
أماوي! إن المال غادٍ ورائح،
ويبقى من المرء الأحاديث والذكر،
..
أَماوِيُّ ما يُغني الثَراءُ عَنِ الفَتى
إِذا حَشرَجَت نَفسٌ وَضاقَ بِها الصَدرُ

أماوي إني لا أقول لسائل
إذا جاء يوماً: حل بمالنا نزر

لباحث الآثار العراقي نائل حنون كتاب قديم، أصدره في السبعينيات، يشرح لنا فيه مركزية مبدأ الخلود لدى السومريين، الذين ستكون عقائدهم وآدابهم، الأساس الذي ستعتمده كل الحضارات التي مرت في بلاد الرافدين (وبشكل ما حتى يومنا هذا). يعاني المرء في عرف السومريين مما يشبه عذاب القبر لدينا بعد موته، إن ضاع ذكره، ولم يدعُ له بنوه وأهله ومحبوه بعد موته، ولم يطعموا الآلهة في الأعياد وما شابه.
لذا شجّعت هذه العقيدة مبدأ «إكمال الدين»، بأن نتزوج وننجب الأطفال، ونحسن تربيتهم، حتى يحيوا ذكرنا بعد وفاتنا. هناك حكمة عملية هنا، فأنت قد شجعت الناس على حسن التربية والخلق، حتى ينالوا الذكر الطيب، فالذكر الطيب سينفعك في قبرك وفقاً لهذه العقيدة السومرية. ومن هنا تكمن فكرة وراء نسج ملحمة كلكامش، وهي ملحمة بطل يبحث عن معنى الحياة والخلود.
الآشوريون والبابليون كانوا عملياً «سومريي العقيدة والآداب»، وظلت اللغة السومرية تدرّس لديهم كاللاتينية بين الأوروبيين اليوم. لذا هناك لعنة آشورية شعبية مشهورة تقول
«عسى أن يُمحى اسمك، وتُمحى ذريتك،
وذرية أولادك وبناتك من الأرض كبغل عقيم»
هذا المبدأ سيرثه اليهود الذين أسسوا عقيدتهم في بابل، وسيرثون مركزية مبدأ طيب السمعة، وخلود الذكر بين الناس، وسينتجون نسختهم من اللعنة الآشورية بانقطاع نسل العدو! لذا من يحلل نصوص التلمود، سيلاحظ أن هناك نزعة لدى بعض كتبته بأن يفنوا أبناء أعدائهم، حتى يفنى ذكرهم! المزمور مثلاً يقول:
«يا بنت بابل المخربة، طوبى لمن يجازيكِ جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك، ويضرب بهم الصخرة»(المزمور 137/8-9).
هذا طبعاً لا يعني بأي شكل من الأشكال أن كل اليهود اليوم يؤمنون بذلك ويطبقونه حرفياً، فهم مثل المسلمين وغيرهم، لن يأخذوا كل النصوص المقدسة حرفياً، لأن غالبية الناس، من حسن طالعنا أو سوئه، انتقائيون في تعاملهم مع وصايا الرب وكتبه. ولكن ما هو واضح لنا هو تداول هذا الموروث العريق الذي لبد في منطقتنا، وتسلّل إلى تراثنا العربي المجيد.
السيدة زينب (توفيت 682م)، خاطبت يزيد بن معاوية (توفي 683م)، حين كاد يبيد سلالة النبي بعد موقعة كربلاء (680م)، فقالت «فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك، فوالله لن تمحو ذكرنا ولن تميت وحينا»، المثير هنا أن السيدة زينب، لم تفضح فقط نية يزيد الدفينة، إنما خُلّدت هي نفسها بموقفها وما قالت. ما زال الشيعة أوفياء لتقاليدهم الرافدينية العريقة بإحياء ذكرى آبائهم الكرام علي وبنيه! والشيعة جماعة تشكلت تاريخياً ضمن الدائرة الثقافية المذكورة نفسها ما بين الكوفة والمدينة. حقيقة أنا أرى أننا لن نفهم ثقافتنا العربية الإسلامية بعمق، إن لم نفهم أحد أهم جذورها التاريخية وأعني بها هنا الثقافة الرافدينية.

هل من ناصر؟
يمسي يوم العاشر خده تريب
الله الله يا حبيب بهالغريب
كلمات للشاعر البحراني حسين بن الملا حسن سهوان، كتبها للمنبر الحسيني اسمها (راية المظلوم)، بصوت الرادود البحراني غازي العابد، أُعيد إنتاجها أخيراً بصوت البحراني إبراهيم مكي. هذه الكلمات كنا ننشدها، أيام مراهقتي، بصحبة فتية بحارنة، وعراقيين، ويمني لم أقابل أشجع منه، ومصري ظريف اسمه عرفة! كان ينشد معنا، ولست متأكداً اليوم إن كان يعرف من هو الحبيب في القصيدة، لعله ظنّ أنه الحبيب المصطفى! أما أنا، فكنت أتنقل بقراءتي وقتها ما بين الماركسيات وعلي شريعتي، ولكن كلنا كان مع كاتيوشا المقاومة، وهي تدكّ الجنوب المحتل!
منذ صغرنا ألهمتنا شخصية حبيب بن مظاهر الأسدي (توفي 680م)، وهو الشيخ المسن، فزع لنصرة الحسين، وقاتل معه بكربلاء حتى استشهد، وقُطع رأسه وطيف به في الكوفة! الغرض من تخليد هذه الحادثة، لجمهرة المثقفين العرب، هو أن نفهم لحظة كربلاء، التي تأتي كل ساعة ويوم، ويختار فيها المرء أن يكون حبيباً فيقف مع الحق، بلا مزايدة وخبث. لكن ما أراه حولنا هو أقوام من المرتشين، والمهرّجين، الحاقدين، والمأزومين، يسري عليهم نقيض ما قاله أبو حيان التوحيدي (توفي 1023م) في الصداقة، حيث يظهرون للمقاوم كقوم، لا عدة في شدة، ولا زينة في رخاء!
* كاتب عراقي