إنّ الفرح باعتراف ثلاث دول أوروبيّة بدولة فلسطين قد يكون مبرّراً أمام الإبادة الجماعيّة التي يمارسها كيان الاحتلال الصهيونيّ. ولكنّ المتابع لأوضاعنا عليه أن يميّز دائماً بين كلام الحكومات في أوروبا وشمال أميركا وبين أفعالها، تماماً كما هو يفعل بالنسبة إلى حكومات بلدانه، فلا يصدّق الكلام، بل الأفعال. إن كانت شعوب العالم مناهضة للإبادة اليوم في غزّة، وباتت أكثر وعياً للطبيعة الاستعمارية الإجرامية لكيان الاحتلال الصهيوني، فإنّ حكوماتها مشاركة في المجازر بالدفاع عن الكيان الاستعماري ورفده بالحماية. ما من ضرر بأن يرى الإنسان في منطقتنا في موقف الدول الأوروبية التي اعترفت بفلسطين هذه شيئاً إيجابيّاً، على أن يضع الأمور في نصابها. فهذه الحكومات حتى اليوم لم تقم بخطوات حكومية لمعاقبة كيان الاحتلال على جرائمه، أو للعمل على عزله سياسياً، أو لملاحقة وزرائه الحاليّين المسؤولين عن الإبادة في غزّة والتنكيل والقتل في الضفّة، أو لمقاطعته اقتصادياً. إنّ الاعتراف بدولة فلسطين ليس بالأمر الجديد، فما نزال نذكر اعتراف معظم دول العالم بدولة فلسطين عام 1988، والاعتراف بقي حبراً على ورق لعشرات السنوات. المهم قيام دولة فلسطين على أرض الواقع، وهذا لا يمكن أن يحدث إلّا بهزيمة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري يمزّق فلسطين، ويهدّد محيطها إمّا بالاحتلال والتدمير، أو بالإخضاع. كعرب وكفلسطينيين، لسنا نستجدي وجودنا من أحد، وبالأخصّ دول الاستعمار الناعم. الدولة الاستعمارية لن تعترف بدولة حقيقية لفلسطين إلّا إذا نحن هزمنا المشروع الصهيوني، أي إنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا يجلب الدولة وإنّما هزيمة المشروع الصهيوني هي ما يجلبها، وعندها يقدّمون الاعتراف وهم صاغرون. فلنذكر أنّه للأمس القريب كانت حكومات الاستعمار الناعم ووسائل إعلامه نائمة بينما غزّة تختنق في حصار قاتل، وكانت تغضّ الطرف والفلسطينيون يُقنصون يوميّاً خلال مسيرات العودة السلمية (2018-2019)، وكانت تحتفل باضمحلال القضية الفلسطينية في ثنايا اتّفاقات أبراهام، وما زالت اليوم صامتة عمليّاً (وليس كلاميّاً) عن وجود ثلاثة أرباع مليون مستوطن صهيوني في الضفّة الغربية، وعن التنكيل والقتل اليوميَّين في الضفّة، وعن الإبادة الجماعية القائمة في غزّة، وما زالت هذه الدول تحتال على قوانينها لقمع أبسط أشكال حرّية التعبير لإخراس أي صوت ناقد لكيان الاستعمار الإبادي الصهيوني.
اعترفت دول أوروبية بفلسطين؟ أهلاً وسهلاً. ولكن علينا أن نعي بأنّها أُجبرت على الاعتراف بسبب قوّة المقاومة، بسبب عدم هزيمة المقاومة


لولا المقاومة في لبنان وقدراتها لكنّا رأينا جيش الاحتلال على الأرض اللبنانيّة، ولما كان خرج أصلاً، هذا أمر بديهي لا يتغافل عنه وينكره إلّا غبي، أو مُستعمَر داخليّاً في نفسه وعقله، أو عميل للاستعمار. دون مقاومة لوحشيّة العدو، سيتوحّش أكثر، ويُستَلَبُ الشعب، ويضمحلّ حقّه. هناك من شعبنا، ومن شعوب العالم، مَن يقاومون بالوسائل السلميّة كالتظاهرات والعرائض والمقاطعة (الاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة)، وهناك من شعبنا في أرضنا مَن يقاوم بالسلاح، بخاصّة حين يتّضح لكلّ ذي عقل عدم جدوى الطرق السلمية؛ فلا قرارات الأمم المتّحدة نفعت في تحرير جنوب لبنان، ولا اتّفاق أوسلو نفع في الدفاع عن حياة الشعب الفلسطيني وفي تحقيق قيام دولته. إنّ عدم الجدوى هذا كان حتميّاً لأنّ الأطراف الواقعة تحت الاحتلال لم تكن تمتلك قوّة للدفاع عن نفسها (حالة لبنان) أو تنازلت عن مكامن القوّة لديها (حالة قيادات أوسلو). لا يرتدع ظالم بالوعظ بل بالقوّة، والقوّة يمكنها أن تكون سلميّة ويمكنها أن تكون مسلّحة، والأخيرة مشروعة وضروريّة لشعب يقع تحت الاحتلال. اعترفت دول أوروبية بفلسطين؟ أهلاً وسهلاً. ولكن علينا أن نعي بأنّها أُجبرت على الاعتراف بسبب قوّة المقاومة، بسبب عدم هزيمة المقاومة.
العدو لا يريد حل الدولتين ويعلنها صراحة بالأقوال وبالأفعال، أكانت الأفعال استعماراً متواصلاً، أو تنكيلاً يوميّاً، أو مجازرَ إباديّة. المطلب الوحيد الممكن والمنطقي والعادل، المطلب الوحيد الذي ينبغي أن يترسّخ كقناعة وبداهة في وسطنا، هو فلسطين حرّة من البحر إلى النهر، يسكنها مَنْ يتمسّك بالحرية والمساواة بين البشر، ويحكمها المتمسّكون بالعدالة والحق.
نحن لا نستجدي اعترافاً بوجودنا، لا نستجدي اعترافاً بحقّنا على أرضنا، ولا نستجدي اعترافاً بدولة فلسطين. الحرية لا تُعطى وإنّما تُنتَزَعُ انتزاعاً، ومن فم الوحش.

* كاتب وأستاذ جامعي