شكّلت ردود الفعل الغاضبة من قبل قادة الولايات المتحدة الأميركية على قرار مدّعي عام «المحكمة الجنائية الدولية» كريم خان، حلقة جديدة في مسلسل سقوط مزاعم الإمبراطورية الأميركية، بأنها «رائدة الديموقراطية» و«حقوق الإنسان» في «العالم الحر» و«المتحضّر». ما إن أعلن القاضي خان أنه طلب إلى الدائرة التمهيدية في المحكمة إصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، حتى صرخ رئيس «أعظم» دولة في العالم: قرار «مشين». أمّا وزير خارجيته أنتوني بلينكن، التلميذ الصهيوني النجيب والمواظب، فكان سبّاقاً في وصف الطلب بـ«المخزي». ولم يفته أن يشهر في وجه القرار الأولي حجَّة ممجوجة يشكل تكرارها فضيحة بحد ذاته؛ قال إنّ من شأن هذا التقرير «تقويض جهود التوصّل إلى اتفاق» لتحرير الرهائن و«لوقف إطلاق النار»! ونتذكّر كيف أن الوزير الأميركي الذي أشهر يهوديته فور وصوله إلى تل أبيب بعد «طوفان الأقصى»، قد استخدم تلك الذريعة للتصويت، مراراً، ضد مشروع قرار وقف إطلاق في مجلس الأمن. زعم سابقاً، ويكرّر الآن، أن وقف إطلاق النار يفسد صفقة وشيكة الحدوث لتبادل الأسرى.
ويكتمل المشهد الرسمي الأميركي بمسارعة السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام إلى وصف مشروع المذكّرة بأنه «قرار فاضح وفظيع». وهو تعهّد بالضغط من أجل إقرار «عقوبات صارمة» على «المحكمة الجنائية الدولية»! وعلى طريقة مرشّح حزبه دونالد ترامب الذي حاول فرض «صفقة القرن» لمصلحة الكيان الصهيوني واعترف بـ«يهودية الدولة» وقرّر نقل السفارة الأميركية إلى القدس وأيّد ضم الجولان السوري للكيان الصهيوني، غراهام هذا، سبق أن توعّد غزة بالسلاح النووي!
سيكون من قبيل تأكيد المؤكد القول بأن واشنطن هي راعية خطط تل أبيب العدوانية، وأنها الداعم الأكبر والدائم لها في كل الحقول بما فيها عملية الإبادة الجماعية! لكن لا بأس من التذكير، بأن لاحتقار عقول الناس حدوداً يصبح تخطيها ضرباً من العبث الهزلي، خصوصاً حين يكون المعني رئيساً لأكبر دولة في «العالم الحر»، وتكون إدارته أكثر الإدارات الأميركية إتجاراً بالشعارات التي تتصل بحقوق الإنسان وبالحريات وبالديموقراطية! نتذكَّر ونذكِّر في هذا الصدد فقط بما قاله الرئيس بايدن نفسه في 12 كانون الأول الماضي: «هناك مخاوف حقيقية، في مختلف أنحاء العالم، من أن تفقد أميركا مركزها الأخلاقي بسبب دعمنا لإسرائيل». ثم ألم يُقدِم الرئيس الأميركي، قبل أيام، على إعلان وقف تصدير قنابل ضخمة إلى إسرائيل بسبب استخدام مثيلاتها ضد المدنيين، وهي الأخطر في حمولتها التفجيرية والتدميرية في الترسانة الأميركية؟! قد يقول قائل، وعن حق، إن ذلك هو للاستهلاك الانتخابي، وإن بايدن قد استطرد، كما دأبه دائماً، بتأكيد حرصه على مواصلة تزويد إسرائيل بكل ما تحتاج إليه لـ«الدفاع عن نفسها». لا جدال في أن الأمر يتعلق بالإمعان في تلك المقاربات والمواقف الاستهلاكية المخادعة والمنافقة التي لا تقتصر على ممارسة ازدواجية مضلّلة، بل وعلى سقوط معنوي و«أخلاقي» (كما سمّاه الرئيس بايدن نفسه).
أي وزن تقيمه واشنطن للرياض نفسها حين تمون واشنطن عليها، وتقرّر ما تشاء باسمها من الاستعداد للتطبيع «الشامل» مع العدو الصهيوني؟


لم يكن لهذا الأمر أن يمر مرور الكرام، لا على مستوى العالم، ولا في الداخل الأميركي.
على المستوى الأول، تواجه واشنطن عزلة دولية غير مسبوقة: في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن. وهي خاضت وتخوض، نيابة عن تل أبيب أو معها، معارك متواصلة ضد المنظمات الدولية الأساسية: «الأونروا»، «محكمة العدل الدولية»، «المحكمة الجنائية الدولية»، كل وكالات الأمم المتحدة، القانونية والصحية، المتصلة بحقوق الإنسان. من نتائج تلك العزلة إعلانات الاعتراف المتواصلة بـ«دولة فلسطين»، وهي اعترافات موجّهة ضد واشنطن بالدرجة الأولى.
على مستوى الداخل الأميركي، انطلقت موجة احتجاجات مدهشة في الجامعات الأميركية التي استعادت في الشهرين الماضييْن مشهدية حصلت قبل أكثر من خمسين عاماً، حين اجتاحت أميركا حملة احتجاجات هائلة ضد حربها العدوانية على الشعب الفييتنامي الذي قاتلها ببطولة نادرة، ثم هزمها وفرض عليها انسحاباً ذليلاً، عاد ليتكرر، أخيراً، في أفغانستان، وقبلها في العراق، ولو في شروط وظروف مختلفة لجهة اللاعبين والنتائج.
هل نذكِّر، أيضاً، بأن إدارة واشنطن باتت موضع سخرية في نظر العالم، وهي تتناقض، وتكذب، وتتلقّى صفعات برابرة تل أبيب التي وصف حكومتها الرئيس الأميركي نفسه بأنها الأكثر «تطرّفاً» في كيان العدو. وماذا غيَّرت حكومة نتنياهو ورئيسها من مواقفهما إزاء الإلحاح الأميركي المنافق على مناقشة خطة لرفح وعدم اجتياح المدينة ومنطقتها إلا ضمن تفاهم مسبق مع واشنطن؟ ردّ نتنياهو بإيقاف صفقة التبادل في القاهرة، وبمباشرة العدوان على رفح، فلاقاه بايدن إلى منتصف الطريق: بمطالبة «حماس» بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين مقابل وقف إطلاق النار فقط.
لقد تركّزت «الوساطات» و«الضغوط» الأميركية، وكلها معلن، على: تحرير الأسرى لدى «حماس»، وعلى تصفية المقاومة، وعلى إحالة موضوع الدولة الفسطينية، حصرياً، إلى التفاوض مع الحكومة الإسرائلية. ليس هذا فقط، فمستشار الأمن القومي الأميركي الذي يقال إنه «عاد خائباً» بعد لقاءاته الأخيرة في تل أبيب، يواصل السعي لتحقيق أهداف واشنطن والحكومة الإسرائيلية، بوسائل أكثر خبثاً ومنها «عقلنة» موقف الحكومة الإسرائيلية لتخطي عثراتها وإخفاقاتها ميدانياً وتعاظم عزلتها. والأهداف تلك لا تقتصر على غزة وفلسطين فقط، بل هي تشمل كل منطقة الشرق الأوسط كالعادة.
ينبغي التوقف، والتساؤل بهذا الصدد: أي وزن تقيمه واشنطن للرياض نفسها حين تمون واشنطن عليها، وتقرّر ما تشاء باسمها من الاستعداد للتطبيع «الشامل» مع العدو الصهيوني؟ يتصل بذلك أيضاً، سؤال الخلل القائم في الوضع العربي الراهن والذي ظهّرته قمة البحرين الأخيرة التي اكتفت بتكريس العجز والتواطؤ حيال حرب الإبادة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني... إلى التساؤل الجوهري في هذا الصدد: هل، عبر هذا النوع من المواقف، سيشق الأمير محمد بن سلمان طريقه إلى «القيادة» العربية والشرق أوسطية التي باتت هوساً مرضياً في الإعلام السعودي؟!
أمّا نتنياهو، الفاجر والمجرم والفاشي، فقد عرف مكانه فتدلّل! يتكشّف، كل يوم، أنّ النفوذ الصهيوني ضخم جداً في واشنطن خصوصاً، وفي البلدان الغربيّة عموماً. في التبعات المترتّبة على ذلك، أن الولايات المتحدة الأميركية التي هي طرف معادٍ، أصلاً، بحكم كونها إمبراطورية إمبريالية عالمية للهيمنة والاستغلال والنهب والعدوان، لا يمكن أن تستمر في مواصلة دور الخصم والحكم في كل نزاعات المنطقة، وفي الصراع مع العدو الصهيوني خصوصاً. هذا عنوان كبير في عناوين تطوير المواجهة الضارية الراهنة.
أخيراً، وبعد أن تباهت المحامية اللبنانية «الدولية»، أمل علم الدين كلوني، بأنها ساهمت في إعداد تقرير المدعي العام كريم خان، لا بد من لفت النظر إلى أنها قد تبنّت الرواية الإسرائيلية بشأن «حماس» التي، حتى الرئيس بايدن، اعتذر عن تبنّي بعض بنودها! بذلك فاتها «تفصيل» صغير جداً: الصراع هو بين محتل قاتل، ومقاوم، لا «إرهابي»!

* كاتب وسياسي لبناني