«بيروت فيك يسخرُ جسدُ الريحِ من الغبار، وفيك يسخرُ الغبارُ من جسدِ الريحِ» ـــ أدونيس
لبنان وطنٌ حائرٌ يبحثُ عن دربٍ للخلاص من فاسدين ينهشون دولتَه، وترتفعُ في ربوعه رايات الهويات المزركشة بشتّى الألوان، ورايات أنظمة عربية شمولية يسودها التعصب المذهبي واليافطات الشعبوية. «السياسي شَوَّهَ الهوية وحوَّلها إلى مجرَّدِ أداة أو آلة» (أدونيس، ها أنت أيها الوقت).
عام 1936، قدَّم أنطون سعادة كتابه «نشوء الأمم» كنموذجٍ علميٍّ اجتماعي عام لنشوء الأمم، قال فيه: «لا بشرٌ حيثُ لا أرض، ولا اجتماعٌ حيثُ لا بيئة، ولا تاريخٌ حيثُ لا اجتماع». وكَتَبَ سعادة في تعريفه للأمة: «الأمة أساس مادي يقوم عليه بناءٌ روحي». الأساس المادي يتكوَّنُ من: «مادة بشرية» و«مادة طبيعية»، وهذه «هي المحيط بجغرافيته وجوِّه وحدوده وكنوزه الطبيعية». أمّا البناء الروحي فيشملُ «حياتها وتقاليدها الاجتماعية التي هي نتيجة العمل العقلي ومجرى الفكر». وصِفَةُ الأمَّة «مستمدَّة بالأكثر من الأهلين ونوع أعمالهم... وبحسب المهنة التي يمتهنونها». و«البناء الروحي... غير منفصل عن الأساس المادي... فهناك رابطة عقلية تربطهم ببعض هي الشرائع والقوانين والتقاليد الاجتماعية»، وكذلك «اللغة والأدب والتربية»، و«كلُّها توحِّدُ رابطة النظام السياسي والشرعي التي تنظِّمُ العمل الاجتماعي...». هذا البناء الروحي للأمّة، يلتقي به محمود درويش: «الهويَّة هي ما نُوَرِّثُ لا ما نَرِثُ، ما نخترع لا ما نتذكَّرُ».
وفي مقال للدكتورة صفية أنطون سعادة («الأخبار»، 11 تمُّوز 2023) دعوة إلى «الدولة –الأمة»، كمفهوم واحد لا ينفصم، قائمٍ على «أرضٍ وبيئةٍ وإنتاجٍ حضاري...». وأرادته «كردٍّ على الصلة الإثنية أو الدينية، أي الصلة الشخصية». قالت إنَّ «الأمة لا تولدُ من نقاوة أصل». وحسب قواعد «Mendel» الوراثيَّة، نقاوة الأصل مستحيلة لأنَّها تقتضي انعزالاً جنسيّاً وانعزالاً جغرافيّاً بين الناس. فالإخصاب الزّوجي هو دمجٌ للموروثات (Genes) وتفاعلاتٌ بيولوجيَّة-وراثية تحدث عند الأبناء وما يتبعها من أجيال ضمن خطّ بياني صاعد للموروثات الجديدة، وخطّ بياني هابط للموروثات القديمة، وبينهما أجيالٌ مختلفة حسب نسبة الموروثات الجديدة والقديمة (مقال للكاتب "الأسس العلمية لإنشاء المجتمعية الإنسانية"، مجلة «الفينيق» الإلكترونية، العدد 19).
وبعد كتابه «نشوء الأمم»، خَصَّ سعادة الأمة السورية بمبادئ أساسية ثابتة لا تتغيَّر، الأساسية الثمانية، وبالتالي ربطها بالمبادئ الإصلاحية، كدستور لدولة لم تكن موجودة أعطى مهمة إنشائها إلى الحركه القومية الاجتماعية. و«النموذج الذي قَدَّمه سعادة لسوراقيا منتصرة على سايكس-بيكو ووعد بلفور الاستعماري لا يزال النموذج الأفضل لدولة وطنيَّة» (صفية أنطون سعادة). وحَدَّدَ لها سعادة مبادئَ خمسة، فنادى بـ«فصل الدين عن الدولة» وبـ«منع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء القوميين»، و«إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب». وقد نَبَّه إلى خطر التعصب الديني والويلات الناتجة عنه شاملاً الصهيونية في مقالٍ نشره في جريدة "الجريدة" البرازيليَّة عام 1921 (الآثار الكاملة، ج1، ص: 11). وكان والدُهُ الدكتور خليل سعادة قد سبقه قائلاً: «يجب علينا أن نهدمَ بيتَنا البالي إلى مستوى الأرض... لأنَّ الهدمَ في بلادٍ أكَلَ التعصبُ الديني قلبها... أوَّلُ خطواتِ البناء».
العلمانية لا تعني رفض الدين. وهي، كدستورٍ للدولة الوطنية، إيمانٌ راسخٌ عند القوميين الاجتماعيين يمارسونه كل يوم، وكواقعٍ يعترفُ لهم به حتى أغلبُ خصومهم باستثناء بعض السلطات المخابراتيَّة المتحكّمة في دول المنطقة. فؤاد شهاب، مثلاً، عند الطائفيين، هو رئيس الدولة المثالي، إلّا أنه، كقائد للجيش، شارك في قتل سعادة، وكرئيس حارب القوميين في فكرهم بتشويه عقيدتهم، واتهامهم بالإلحاد، بعد انقلاب القوميين المجهَض، حين نسبَ إلى القوميين ملصقات على حيطان المعابد تقول: «من آمَنَ بالمسيح فهو كافر، ومن آمن بالإسلام فهو أكفر، ومن آمن بلبنان فهو ليس منّا». وسعادة آمن بالإسلام لله وأنبيائه، وفلسفتُه المدرحية نابعة من التجربة الروحية لإنسان الهلال الخصيب. فؤاد شهاب هو واحدٌ في سلسلة الحكام الإقليميين، الذين ما اختلفوا عنهم في السفاهة والازدواجية.
وقال سعادة بـ«تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج». لكنَّ الانهماك بالصراع على السلطة بعد تصفيته، أدّى إلى الابتعاد عن الاستثمار في العمل التعاوني بين القوميين. وبرغم محاولات بعض رفقائنا في السبعينيّات (الأمين الراحل علاء الدين حريب والرفيق الدكتور صفا رفقة وغيرهما)، فإنَّهم اصطدموا بالفردية التي وصفها رفيقنا الراحل الدكتور هشام شرابي، في كتابه «المثقفون العرب والغرب» الصادر عن «دار النهار» عام 1971: «إن انهماك ذوي الفكر والاختصاص (في بلادنا) لا يرتكز في العمل لأهدافٍ اجتماعية يَغْنى بها المجتمع، بل في السعي وراء الرزق والمصلحة الفردية...» وهذا ما سمّاهُ «عُبودية الارتزاق».
ثمَّ دعا سعادة إلى «إعداد جيشٍ قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن». ولا مجال للتوسع في هذا المجال؛ فالعهدُ، ويا للأسف، عهدُ ميليشيات تتغذّى بانتماءاتها الطائفيَّة.
على أنَّ للدولة مسؤولياتٍ أخرى أصبحت مناقشتها العقلية بين القوميين والنخبة الفكرية الاختصاصية من المحظورات، الأمر الذي أوقع حركة النهضة في جمود إداري وفكري، وإحباط وفقدان روح المبادرة، وانكفاء النخبة الفكريَّة في بيوتها، واستفراد خصوم حركة النهضة بتلك المسؤوليات واستثمارها في شعاراتهم الشعبويَّة وفي مشاريعهم الطائفية.
وأوَّل المحظورات كان الإدارة اللامركزية، التي خُطِفَتْ لتُكرَّس، اليوم، كمشروع انفصالي. وقد عرفناها بوجهها الإيجابي في حديث المؤرّخ فراس السواح عن وحدة الإمارات الآرامية، التي حققتها دمشق: «إنَّ ما صنعته دمشق كان إمبراطورية اسمية غير معلنة، أو لنقل نظاماً إقليميّاً سياسيّاً خاصاً يتَّفقُ مع المفهوم السوري للسلطة والحكم ومع نظام "دولة المدينة"... فقد رأى السوريون في دولة المدينة النظام السياسي الأمثل، الذي يُطلِقُ الإمكانات المبدعة للأفراد والجماعات، ويحافظُ على مشاركةٍ أكثرَ فعالية بين السلطة والشعب... لأنَّ السلطة في "دولة المدينة" تبقى قريبة من الناس قادرةً على التفاعل المباشر معهم، بعكس السلطة الإمبراطورية التي تفصلها عن أسوار العاصمة وأسوار القصور الملكية وأسوار الهرمية البيروقراطيَّة». ذلك النظام هو ما ندعوه اليوم بنظام البلديات أو «دولة المدينة». وهذا الأمر تعرَّضَ له المؤرّخ جيوفاني بيتيناتو في كتابه «سمورامات» (سميراميس). ثمّة فصولٌ طويلة حول أسباب انهيار الإمبراطورية الأشورية تعودُ إلى الحكم المركزي الصارم وإهمال الأطراف، وهذه تعاونت على القضاء على الإمبراطورية برغم جهود شيلمنصر الثالث (دام ملكه 30 سنة) وابنه «شمس أدد» وكِنَّته سميراميس، في سعيهم إلى اللامركزية.
وفي كتابه «تاريخ سورية» يقول المؤرّخ فيليب حتّي، تحت عنوان «دمشق في أوج عزِّها»، إنَّ الدولة الأموية في عهود عبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة: الوليد، وسليمان، ويزيد وهشام، كان لها إنجازاتٌ كبيرة، من بينها تقسيم الإمبراطورية إدارياً إلى تسع مناطق، لكلٍّ منها خراج (أمين صندوق). «كانت النفقات الإقليمية تُسَدَّدُ من الموارد المحلية، ولا يُرسَلُ إلى خزانة الخليفة إلّا الوفر الباقي على صورة رصيد» (ج2، ص: 87-88). و«إنَّ دمشق أبدعت بنظام رئاسة المدينة».
المحظور الثاني والمخطوف هو العروبة. ففي مواجهة الهجمة الاستعمارية الشرسة، جعل سعادة العروبة درعاً ذا بعد استراتيجيّ تتقوّى به الوحدات الطبيعية الأربع في العالم العربي في التنمية وفي صدِّ المطامع الخارجية، فقال: «إنَّ سورية (سوراقيا لاحقاً) هي إحدى أممِ العالم العربي...»، و«إننا لن نتنازل عن مركزنا في العالم العربيِّ، ولا عن رسالتنا إلى العالم العربيِّ...»، و«يرى الحزبُ سلك طريق المؤتمرات والمحادثات التي هي الطريقُ العملية الوحيدة لحصولِ تعاون الأمم العربية وإنشاء جبهةٍ عربيَّةٍ لها وزنٌ في السياسة الإنترسيونيَّة»... «فنحن سيف العالم العربي، ونحن ترسه، والمدافعون عن حياضه».
أمّا الآخرون، فبدلاً من جعل العروبة عنصر قوة، ربطوها تارةً بوجهة الصلاة، فـ«مفهوم الجماعة- الأمة، الديني يُستعاد لكن بلباسٍ سياسي –قومي» (أدونيس)، وتارة بوجهة مصدر الارتزاق.
المحظور الثالث هو: لبنان الكيان. حين طلب بشارة الخوري من سعادة، بواسطة وزير الداخلية جبرائيل المر، إعلان إيمانه بالكيان اللبناني، لم يكن همُّه الكيان، وإنما في سريرته المكر والحرج لأنطون سعادة. ولكنَّ سعادة أعلن عن قناعته بالكيان اللبناني ككيان سياسي. وحتماً، لم يكن ذلك الكيان ما ورثته السلالة «الجمِيليَّة» وما خرج من بطنها من متفرِّعاتٍ، ولا ما فرضته بهلوانيات ياسر عرفات. الذي آمن به سعادة هو كيان النخبة الفكرية لعصر النهضة التي انطبعت بكتاب «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي، أي الجيل الذي ثار على جيل «الأفندية العثمانيين» المرتزق ضمن «الدولة الوحيدة في تاريخ العالم التي لم تترك وراءَها تمدُّناً» (محمد حافظ يعقوب)، وتلاه جيل الثلاثينيات والأربعينيات (سعادة، ميشيل عفلق، جيل الغضب على الاستعمار والصهيونية وجيل المقاومة)، الذي آلى على نفسه «إعادة تركيب العالم الذي كانت أركانه تميد بوضوح يستقر في اليقين، وأن يؤسس لبدءٍ يكون صلباً لا يتزعزع من تحته، وراسخاً رسوخ القناعة بضرورته» (المصدر نفسه). تبعه جيلُ الخمسينيات، جيلُ الحداثة، وباني عصر بيروت الذهبي في الصحافة والأدب والشعر والفن بأنواعه من: رسمٍ ومسرحٍ وموسيقى وغناء ونحت، وصفَتْه الناقدة خالدة السعيد: «عشرون سنة من مغامرة الصدق وشجاعة قول الحق، ومعارضة كلِّ سُلْطَةٍ ظالمة، ومخالفة كلِّ ذي قضية؛ عشرون سنة هي العصرُ الذهبيُّ الخاطف لدولة الحلم، لدولةٍ تحققت في لبنان بموازاة دولة السلطة السياسية والأجهزة الإدارية، معارضةٍ لها وكاشفةٍ لتناقضاتها المزمنة؛ دولةٍ هي التي صنعت مجد لبنان الحديث، وفرضت هيبته؛ إنها دولة الثقافة، وركنُها القويّ الصحافة». كان فيه نخبة قومية اجتماعيَّة، و«كان يستمدُّ أصولَهُ من كتابٍ لم يكتبه، ويا للمفارقة، ناقدٌ أدبيٌّ، وإنما كتبه قائدٌ سياسيٌّ، فكريٌّ هو أنطون سعادة» (أدونيس، ها أنت أيها الوقت).
قيل إنّ كيان لبنان في العالم العربي مُمَيَّزٌ، وفي الوقت نفسه خَطِرٌ، ولكنَّ تَمَيُّزه ليس بتعدُّد طوائفه، «فلم تُفْسِدْ هيمنةُ السياسيِّ هاجِسَ التمايزِ وحسب، وإنما أفسدَت التمايزَ ذاتَهُ، وطمست الثقافيَّ، لا في جانبه الحواري وحده، وإنَّما في جانبه الإبداعي كذلك» (أدونيس، ها أنت أيها الهواء). خطرُهُ في تمايز شعبه في الحرِّية، والرؤية والمبادرة والابتكار، وفي هذا، هو الخائفُ والمُخيف. «بلدٌ كثيرُ الحرية والفكر، بلدٌ مولودٌ في عصر النهضة، وعاصمةٌ تطبعُ من الكتب أكثرَ مما تطبعُ القاهرة». وهو «كثيرٌ على السور العربي، ولا يُطاق... كان يجبُ كَسْرُ لبنان لأن عدواه خطيرة...».
والكيانُ، فعليّاً، هو بيروت، وبيروتُ هي الكيان بما أنجزته تاريخياً. الكيان هو الذي قال عنه محمد الماغوط «إذا صرعوك يا لبنان سأطلق النار على حنجرتي»، وقال فيه محمود درويش بعد التحرير: «قطرة من أرض الندى كانت كافية لانفتاح الشهية العاطفية وربما الفكرية على فرحٍ جماعيٍّ وَحَّدَ فينا وعي الهزيمة القابلة لأن تتكسَّر ووعي المقاومة القادرة على أن تنتصر». وقال نزار قباني عن بيروت «العودة إلى بيروت فرحةٌ أكبرُ من مساحة قلبي». ولأدونيس في كتابه «بيروت ثديٌ للضوء» كلمات: «ينتمي صنينُ / إلى عائلة الأفق» و«بيروت أفقٌ / لا شيء يقدر أن يُغلِقَ الأفق». و«في بيروت اليوم / يبدأ الفجرُ بالشرق تماماً في الرؤية عندما يهبطُ الليل». «أظنني موجةً / تسافر منذ أيّام جلجامش / نحو بيروت والعرب / لكنها لم تصل بعد». «إن الفجرَ يرسمُ قناديلَه، بعيداً، في أمكنة أخرى، وعلى دروبٍ أخرى، فجأةً، مدَّ لي الضوء ذراعيه»، فـ«الضوء لا يدافع / الضوء يهاجمُ أبداً». «لا أجدُ وطناً أكثر نعمةً من الريح» و«ما لهذا الزمن لا يكفُّ عن جَدَلِ الأفق بحبال اللهب»، «للغيمِ أفكارٌ / يُمليها البرقُ / ويُبَلِّغُها الرعدُ».
«أعرفك بيروت / في رأسك ذهولُ البحرِ الذي تنطبعُ على جسده قدما الشمس وخطواتها، ذهاباً وإياباً - شروقاً وغروباً / فيه فجيعة الضوء الذي انبثقَ للمرة الأولى من كوكبِ أبجديتِكِ / وفيه كذلك فكرُ التاريخِ، ومكرُ الأزمنة والأماكن / مع ذلك / رأسكِ منذورٌ للأعالي / هو ذا موجُ التاريخ يلتطِمُ بصدركِ / وأعرفُ أنَّ نهديك / ليلُ البحرِ ونهارُه / أعرِفُكِ، بيروت / وأثقُ بفجرِكِ».
«نحنُ الذين نسهرُ في حضانة الموج، لن نترككِ تنامين أيتها الشواطئ»، «وما أكثرَ الكمائن التي تُنصبُ للحبر / لكن، ما أفصَحَ البراكين / وما أجملَ شهوة الانفجار».
نحنُ على الدرب الوعرة وغبارُ أقدامنا صاعدٌ، و«الغضبُ الساطعُ آتٍ».

* كاتب وطبيب