إنّ سؤال هذه اللحظة المفصلية هو استراتيجية العمل ضد المشروع الصهيوني. استبق الراحل جوزيف سماحة هذه اللحظة، وأجاب أنه وبوجود الردع النووي الصهيوني فإنّ مسألة الحسم العسكري غير واردة، وسيناريو الضربة القاضية، مهما بلغنا من قوة عسكرية، ستؤدّي إلى كارثة وجريمة نوويتين. والصهاينة والأميركيون، بالجنون الديني والاستعماري، والثقة بقوة سردياتهم، ما يجعلها اليوم ورقة لا تغيب عن ألسنتهم وأذهانهم، بشكل لا يجب الاستهانة به.إلا أنّ سماحة يذكّرنا بأنّ الاتحاد السوفياتي كان كذلك قوة نووية إلا أنه تفكّك.
ما أراد المفكّر العربي اللبناني حسمه هو إغلاق الباب أمام تحويل الردع النووي إلى انهزامية. وبتعبيره: أن يؤدي البعد النووي إلى مساومتنا على جذرية الصراع، وأنه ونتيجة لهذا البعد النووي، فإنّ مسألة تفكيك المستعمرة لا بد أن تتمخّض عن عملية تاريخية وحضارية كبرى ذات أبعاد مختلفة؛ أن يستدعي الحسم العربي وتفكيك دولة إسرائيل تصوّراً يجمع بين الرغبة في حل جذري واستحالة أن يكون هذا الحل عسكرياً خالصاً.
يختم سماحة أطروحته بأن هدف إزالة إسرائيل يبدو بعيداً جداً وأسطورياً وخرافياً، غير أنه التحدّي الحضاري الأكبر أمامنا، وأنّ وحدها العروبة الحضارية المنسجمة مع تاريخها العربي والإسلامي والمنفتحة على الإنسانية مؤشّرٌ إلى طريق المستقبل، واضعاً خمس مهام أساسية أمامنا:
(أولاً) التوقّف عن التراجع، (ثانياً) تنظيم المقاومة، (ثالثاً) توازن الرعب، (رابعاً) البدء في الحصار والتضييق، و(خامساً) أن ننظّم الهجوم الحضاري العام على العدو.
ما دعا له جوزيف سماحة هو نموذج هجين في محاصرة المستعمرة، ومزيج بين عدة تجارب أفشلت مشاريع استعمارية استيطانية سابقة، عبر أولوية بُعد السلاح والضغط على الكيان بأبعاد أخرى جماهيرية ورأي عام وخطاب حضاري جذّاب وذكي وتكثيف التناقضات الداخلية لمجتمع المستوطنين.
وباختصار أكبر، فإنّ ما دعا له هو ما نعيشه اليوم في عالم ما بعد 7 أكتوبر. وهنا تحديداً تبدأ المسألة الأساسية، وهي سؤال ممارسة النظرية التي استشرفها؛ فمن السهل التغنّي بالوصول في عالم ما بعد أكتوبر، ولكن واجبنا الآن هو الخوض في الأسئلة الصعبة، لمس المحرمات، ووضع جميع الأسئلة، السياسية والفكرية والتنظيرية، في مخبر الاشتباك والمُحاجَّة والمُحاجَّة المقابلة.
الفارق بين التسعينيات واليوم، هو تحوّل الصراع إلى طابع المقاومات الشعبية، حيث تغيّرت طبيعة تخيّل واستشراف مآلات الصراع وحرب التحرير، ومن أهم هذه التغييرات هو انخفاض حساباتنا للبعد النووي للكيان، وهذا طبيعي، فشكل الصراع الذي نخوضه اليوم عبر جماعات غير-دولتية ولا تمثّل دولاً بأكملها، بل جزء من تموضع داخل الدولة العربية ومجتمعاتها وتناقضاتها. ثانياً، والأهم، أن أرض الصراع هي فلسطين نفسها. كل ذلك، خفّض من الأثر الردعي للسلاح النووي، وهذا بحد ذاته إنجاز، لكنه جعلنا نتحدّث عن حرب مفتوحة بأريحية واستسهال مفرطيْن.
فمن جهة أخرى، إنّ الدور المحوري لجمهورية إيران الإسلامية يعيد للردع النووي فاعليّته، بشكل يجب أن يحفّز إيران على تغيير عقيدتها النووية، ويحفّزنا نحن على التحرّر من أثر هذا الردع على جبهاتنا، أمناً لإيران من جنون النووية الصهيو-غربية، وأمناً لنا من أن يكون الردع باباً يمكّن الصهاينة من الفتك بنا وبأطفالنا وعوائلنا بلا مانع أو وازع، خصوصاً داخل فلسطين.
إنّ صراعنا، أو جوهر ما نرنو إليه، هو تفكيك وإزالة مجتمع مقابل، في بنيته العسكرية والسرديّة الاجتماعية والسياسية. وعليه، فإنّ ما علينا فعله هو حصاره والتضييق المستمر عليه، وتوجيه الضربات المستمرة له.
ولأنه مجتمع مقابل بموارد وداعمين بقوة أشبه بالقاهرة، فهو قادر على الاستيعاب. فلهذا العدو قدرة كبيرة على التأقلم أمام الضغط غير التصاعدي. إن أسّسَ الردع النووي لسقفٍ وجدار أمامنا يكبح التصاعد، فإنّ لهذا العدو فرصة كبيرة للتأقلم. وكذلك، من الخطأ الافتراض أنّ مجرد الحصار الجامد وخطاب التهديد سيؤدي إلى انتهاء صلاحية المشروع الصهيوني وعليه مغادرتهم بالحقائب صبيحة يوم ما. بل إنّ الأمر يستدعي العمل المستمر، خصوصاً اليوم، فالسماح للعدو بترميم نفسه، والسماح لحلفائه الغربيين بمواردهم الهائلة فعل ذلك، هما أكبر خسارة استراتيجية يمكن أن نقع فيها لهذا القرن.
تطلب عملية الضغط التصاعدي على المستعمرة مساهمة الكل الديموغرافي للأمّة العربية وعمقنا الإسلامي والعالمي، وإعادة نسج وترميم العلاقات داخل هذا الكل الديموغرافي ومخاطبته لبعضه، لإتمام نتيجة التضحيات الكبرى التي قُدّمت ضد المشاريع الغربية والنزاعات والحروب الأهلية العربية. وكل ذلك ضمن «اللاسقف»، أي إنه علينا التلمّس الدائم للجنون بالعمل، فهدف ثوري ومجنون كإزالة إسرائيل لا يمكن الوصول إليه بالعقلانية. لا يحدث شرط «اللاسقف» سوى بورقتنا الأساسية التي راكمناها عبر الشهداء لعقود، وهي شرعية ومشروعية سرديّة القضية الفلسطينية ذاتها، مركزيّتها والمراهنة بها وصفع أي أحد يتكلّم عن اعتبارات أخرى بالعملاق المسمّى فلسطين - أنها هي المحور.
إنّ الانتماء لهذه السرديّة هو اختيار، وكذلك الخروج منها، وعلينا الحرص في كل جبهة على عنوانها الفلسطيني؛ أنها ضمن الصراع العربي-الصهيوني وامتداد له. فمنذ النكبة عملنا عبر موتنا وقتالنا على صنع سرديّة في مقابل سرديّة العدو، والتفريط بهذا التراكم لكل عمل هو تفريط بالصراع نفسه. لقد أسّس لنا 7 أكتوبر المجيد، وذكاء وعبقرية وحضارية المقاومة الفلسطينية، خطاباً وممارسة، هي بوابة لمرحلة حساسة، لا سبيل فيها سوى عبر الانتقال من الحصار والتضييق إلى الهجوم الحضاري العام. ولا يكون ذلك إلا بما أخبرنا به سماحة: تبنّي أقصى حالات الضغط المتنوّع بلاسقف والمفتوح على أرحب الآفاق ضد العدو.

* كاتب عربي