ما إن انتشرت صور مقاتلي «كتائب القسام» وهي تجوب شوارع مستوطنات غلاف غزة، صبيحة السابع من أكتوبر، حتى كانت أذرع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة تتحرّك -حتى قبل الحكومة الإسرائيلية- لصياغة السردية وبث الرواية المشوّهة للأحداث والوقائع، بما مهّد الأرضية لتبرير الإبادة لاحقاً. إلا أنّ هذه اللوبيات، بمختلف مشاربها، لم تكن تتوقّع أن تضطر لاحقاً -على وقع مشاهد الإبادة- لخوض معركة غير مسبوقة في تاريخها مع جيل أميركي بأكمله. وبعد ساعات على استفاقة أميركا على خبر بدء عملية «طوفان الأقصى»، كانت أذرع «الليكود» في واشنطن تطلق حملة استباقية لحشد الرأي العام الأميركي والغربي، من باب أنّ هجوم «القسام» أخطر على الغرب من الهجوم الروسي على أوكرانيا. وفي هذا التكتيك، ظهر أنّ اللوبي الليكودي الأميركي عرف من أين تؤكل الكتف، ربطاً باهتمامات الإدارة والنخبة السياسية الديموقراطية التي تدير السياسة الخارجية؛ فالأولوية منذ عام 2022 هي أوكرانيا، وبالتالي كان على جماعة بنيامين نتنياهو في واشنطن أن يسعوا في تقديم ما من شأنه أن يقنع الرأي العام الأميركي بأنّ مصابهم في إسرائيل أعظم وأفدح من مصالحهم في أوكرانيا. ولاحقاً، تبيّن أنّ هواجس اللوبي الليكودي الأميركي المتعلّقة بأولوية الديموقراطيين في أوكرانيا ستشكّل معضلة عند محاولة انتزاع المصادقة على المساعدات المطلوبة لتمويل حرب نتنياهو على الشعب الفلسطيني في الكونغرس، من باب أنّ الديموقراطيين سيصرّون على تلازم المصادقة على صرف المساعدات لكلٍّ من إسرائيل وأوكرانيا بشكل متلازم، وهو ما سيعرقله الجمهوريون -وخاصة كتلة دونالد ترامب في مجلس النواب- لأسباب انتخابية.
هذه المشكلة التي ظهرت أمام اللوبي الصهوني اليميني في واشنطن، ابتداءً من الشهر التالي لاندلاع الحرب، لم تكن المعضلة الأبرز التي كانت اللوبيات الصهيونية على موعد معها. لقد ظهر لهم، بعد توالي انتشار مشاهد المجازر والإبادة، أنّهم على موعد مع معركة لم يسبق أن اضطروا لخوضها؛ فالإعلام الأميركي الطاغي، الذي لطالما كان في جيبهم، أثبت أنّه قاصر عن تقديم المطلوب هذه المرّة في ظل وجود إعلام بديل نجح في إشعال تمرّد ضد إسرائيل لدى الفئة العمرية من 18إلى 30 سنة. فشلت قنوات التلفزة الأساسية والصحف المهيمنة الأميركية في فرض السردية المعتادة عن «دفاع إسرائيل عن نفسها» ونفي تهم ارتكاب جرائم الحرب والانتهاكات بحق الفلسطينيين، وسرعان ما انتشر مصطلح «الإبادة» على ألسن شرائح واسعة في المجتمع الأميركي.
هذه الصدمة الصهيونية من التحوّل الحاصل لدى فئة الشباب الأميركيين، عبّر عنها جوناثان غرينبلات، المدير التنفيذي لـ«رابطة مكافحة التشهير»، رأس حربة اللوبي الصهيوني في عملية تكميم أفواه المتضامنين مع فلسطين في أميركا. فقد انتشرت تسريبات صوتية له في اجتماع مغلق يعرب فيه عن هلعه وصدمته من الشعارات التي يرفعها شباب أميركي قائلاً: «لم أكن أحلم بأن يهتف شباب أميركي بشعار: من النهر إلى البحر».
تجنّد رأس المال الصهيوني في عموم الولايات لمحاولة استعادة المبادرة


وسعياً في محاولة قمع انتفاضة شرائح أميركية ضد إسرائيل وحربها الإجرامية على غزة، تجنّد رأس المال الصهيوني في عموم الولايات لمحاولة استعادة المبادرة وإثبات أنّه لا يزال يملك اليد لعليا. وقد كشف موقع «سيمافور»، في 12 تشرين الثاني، عن مبادرة نظّمها الملياردير الأميركي الصهيوني بيرني شتيرنلكت، لجمع تبرعات بعشرات ملايين الدولارات، وذلك لتحسين صورة إسرائيل ومواجهة المتضامنين مع الفلسطينيين وإظهارهم على أنهم أنصار لـ«حماس».
وقد أفيد عن اشتراك 50 رجل أعمال أميركياً يهودياً في المبادرة بمن فيهم مصرفيون ومالكو قنوات تلفزة ورائدون في عالم الترفيه. تمظهر استنفار اللوبيات واستشراسها في مواقف المموّلين والمانحين للجامعات الأميركية النخبوية، حيث توقّف تمويل لجامعات بسبب آراء أكاديميين وطلاب في حرم جامعة معينة، وجرى استدعاء رؤساء أهم ثلاث جامعات أخرى، وهي MIT وبنسيلفانيا وهارفرد، لجلسة استماع وأُجبر بعضهم على الاستقالة لاحقاً على خلفية التهمة بالتقاعس في منع مظاهر ما تسمى «معاداة السامية».
ولعل العصب الأساسي للعمل المؤثّر للوبيات الصهيونية في أميركا تمثّل في الحملة التي قادتها منظّمة «آيباك» التي تنشط بشكل دائم بقوة في مواسم الانتخابات. لكن موسم انتخابات هذا العام، على وقع الحرب المستمرة، شهد استنفاراً استثنائياً لمحاولة إسقاط كل المسؤولين المنتخبين ممن أعلنوا تضامنهم مع الفلسطينيين، بل وحتى من الذين دعوا لوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية.
وقد أطلقت «آيباك»، عبر ذراعها United Democracy Project، حملة لإسقاط المرشحين التقدميين أو الرافضين لاستمرار العدوان، ونجحوا -حتى الآن- في استبعاد بعضهم خلال الانتخابات التمهيدية، لكنهم فشلوا مع مرشحين آخرين. وقد أعلنت «آيباك» أنّها سخّرت، عبر United Democracy، مبلغ 35 مليون دولار لتنفيذ برنامجها السالف الذكر. هذا العمل العلني لـ«آيباك» دفع نحو 20 منظمة يسارية وتقدّمية إلى إطلاق حملة مضادة سمّتها «ارفضوا آيباك»، وقد دشّنت حملة معلومات سعت إلى إظهار الكيفية التي تهيمن عبرها المنظمة الصهيونية، وكيف توصل مرشحيها المرتشين الملتزمين بالانحياز إلى إسرائيل، وحجم الأموال التي تؤمّنها «آيباك» لكل مرشّحيها في كل الولايات.
بشكل عام، يمكن اعتبار الواقع الذي خلقه «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة الصهيونية، داخل الولايات المتحدة، أمراً غير معهود في تاريخ عمل اللوبيات الصهيونية هناك. ففي الحد الأدنى، أصبحت هذه اللوبيات مضطرة لبذل المزيد من الجهود للترويج لسرديات إسرائيل وأفعالها. هي أمام تحدّي إثبات قدرتها على الاستمرار في التأثير في صناعة قرار السياسة الخارجية الأميركية حيال منطقتنا بالوتيرة نفسها، وهذا بحدّ ذاته متغيّر في صالح القضية الفلسطينية، بمعزل عن النتائج التي قد لا تتحقّق في المستقبل القريب، بما يؤدّي إلى تغيّرات ملموسة في طبيعة العلاقات الأميركية-الإسرائيلية.