منذ صغري، لم أستوعب تماماً معنى «أكل الهوا» إلى أن شاهدت نديم قطيش على الهوا. استوقفني صدفةً تعليقٌ عنه للفنان المثقف رودني حداد أخيراً، فوجدت نفسي أراجع كماً هائلاً من المواد عن نديم قطيش كمن يقع فريسة الحلقات المتتالية على «نتفليكس». فعلتُها بالترتيب العكسي: من حاضره على «سكاي نيوز» صهيونية، عفواً عربية، إلى إطلالات على مدار السنوات حتى برنامج «دي أن آي» ثم تلفزيون «المستقبل» المنتهي الصلاحية. هو «د أن آي» مرّيخي غير بشري دون مواربة. ربما ينقص حمضه النووي عدة كروموسومات محبة إنسانية، لكن من المؤكد أن نديم قطيش موضة ثرثرية دائمة الرواج لا تنفد، ظالم وغير منصف. أسلوبه اللامنطقي اللاذع مبني على قدح وذم وتشهير، يتخطى الفن الهجائي إلى حدود السخافة والرتابة في فكرٍ رفيع لا تمر عبره أيّ فكرة ولو نحيفة. «ليلتي مع نديم» عزّزت رأيي أن هذا «الصحافي» أقل أهمية من نشرة جوية عن هطول الأمطار في غابةٍ نائية. لدى الأفعال الناقصة أخواتها وخبرها كي يكتمل معنى الجملة، ولدى الصحافة العربية خوتانها كي تكتمل حفلة الهستيريا الدائمة فوق عش الكوكو الإيراني. رأساً يخطر على البال الكثيرون من أمثال مارسيل غانم، راغدة ضرغام، والمميز (للأسف) حازم صاغية بين عصبة الخوتان. لكن مدير عام «السكاي (بَلا) نيوز» يُحلّق في أعلى سكاي السابعة: نديم قطيش هو فؤاد عجمي الصحافة على عكازات صهيوعربية، بالرغم من بلاغة الراحل الأدبية وركاكة الأول.
يتربّع نديم قطيش على عرش أسوأ «صحافة» في أخطر منطقة في العالم بالنسبة إلى الصحافيين والناشطين الحقيقيين، والأكثر أماناً للصحافيين المزيّفين، إذ لا تزال المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (بيت «سكاي نيوز عربية») صامدتين في قاع مؤشر حرية الصحافة العالمي لسنة 2023 وما قبل، الذي تعدّه سنوياً منظمة «مراسلون بلا حدود». من الطبيعي أن ليس لدى قطيش، المكفول أمنياً في الحاشية الأميرية، ما يقوله عن تقطيع أوصال جمال خاشقجي مثلاً (أو الاحتجاز التعسفي وتعذيب الناشطين رائف البدوي، تركي الجاسر، علي أبو لحم، والناشط الإماراتي في حقوق الإنسان أحمد منصور على سبيل المثال ولا الحصر).
هو عقائدي ثابت ومتحجّر حتى الهذيان والكراهية في كل ما يتعلق بإيران (على صحة انتقاد وضعها الداخلي)، لكنه براغماتي دون المصداقية في كل ما يتعلق بأنظمة الخليج والسياسة الخارجية الأميركية. أمّا غرامه بإسرائيل، فعبارة عن نيوليبرالية نفعية واعتقاد مضلّل بفوقية مختبر فرانكشتاين الصهيوني، بتفَوق الحداثة البلاستيكية على الروحانيات الإنسانية، ودونية الثقافة في كل ما يقع على جنوب المتوسط وشرقه حتى الصين.
نديم قطيش، نجم «ميمري تيڤي» المستحدث، يعتبر «فلسطين والقدس شي عقائدي» (قصده شي خشبي)، وأن إسرائيل (معايرةً بنا) قدوة مثالية كونها «قوة علمية، قوة اقتصادية، قوة ثقافية وقوة عسكرية» كما يردّد. لكنه نسي أنها قاعدة عسكرية ضخمة ومجتمع مصطنع قائم على عظام وأوجاع أبناء جلدته، وعلى عكازات الشحاذة السنوية من جيوب المواطن الأميركي المعتر وكل ما توفره الدول الغربية والعربية من حماية ودعم سياسي، دبلوماسي، عسكري، تجاري، مالي، تكنولوجي وقانوني، مع غضّ النظر عن جرائم «شعب» إسرائيل اليومية. برأيي، لا يوجد أي تربيح جْميلة في مقولة «دعونا نستولي على كل ما لديكم وخذوا ما يدهش العالم» استفادةً من عقدة النازية/الفاشية الأوروبية وسلاح معاداة السامية. إذا أخذنا معايير قطيش على محمل الجدية، ما عذر أمراء وملوك دول الخليج إذاً في كون اقتصادهم مجرد محطات غاز وبنزين تلويثية ومولات استهلاكية للماركات العالمية والسيارات الفخمة، لا ينتجون أي قوة علمية ولا قوة ثقافية ولا قوة عسكرية ولا حتى قوة اقتصادية حقيقية غير مبنية على استخراج النفط (بغضّ النظر عن بعض الصناعات التحويلية الخفيفة وبالرغم من القدرات المالية الهائلة)؟ وما يفسر الشذوذ عند معايير قطيش كون إيران الفقيرة نسبياً والمحاصرة عالمياً هي قوة عسكرية، صناعية، إنتاجية، وعلمية، ترسل أقماراً اصطناعية إلى الفضاء وتصدّر تكنولوجيا عسكرية متطورة إلى بلدان تُعَد قوى عظمى؟ ربما يكمن السر في حاجة قطيش إلى راتبه الشهري. اششش.
من الصعب أخذ نديم قطيش على محمل الجد أمام استنسابية المُحاجَّة لديه. مثلاً، أن تحلق المقاتلات الإسرائيلية يومياً فوق رؤوس اللبنانيين وأن تغير على أمنهم بلا قيد «هيدا غير موضوع» برأيه، كونه «يتعلق بالصراع الإيراني». لكن لم يلاحظ أخونا أن هذا العدوان حاصل منذ سنة 1948 حتى عندما كانت إيران وإسرائيل تتقاسمان الفراش ولم يوجد «أذرع لإيران» قبل سنة 1984. يقول «إننا بحاجة أن لا نكون أسرى التغطيات الإخبارية المتواصلة عن البنايات التي تسقط والقتلى والشهداء»، ربما فاتنا تعريف الوظيفة الصحافية خارج تغطيات آخر موضة ألوان النظارات والأزياء التي يرتديها نديم. يصارح علناً أنه مع ترامب ومع نتنياهو لأنهما ضد إيران، بالرغم من عنصرية الأول وإجرام الثاني، مؤكداً أن لا شأن له شخصياً أن يتدخل في السياسات الداخلية للبلدان (ما عدا إيران طبعاً). برأيه نتنياهو وإنكلترا وأميركا «هم المسؤولون عن عملية طوفان الأقصى» لأنهم نفّذوا استراتيجية رخوة «ضد حماس واليمن وأذرع إيران في المنطقة». ألا يخطر في باله أبداً أن سبب «طوفان الأقصى» الأساسي (وكل ما سبقه وسيلحقه من مقاومة) هو الاحتلال الإسرائيلي ونظام أبارتايد الفصل العنصري والغطرسة الصهيونية بكل مراحلها الحية منذ بداية القرن السابق إلى الحاضر؟
لكي أكون منصفاً بحقه، لاحظت تغييراً نوعياً، ولو غير جوهري، في أسلوب نديم قطيش بعد تبوّئه المنصب الإداري الجديد. هناك ارتفاع نسبي على مؤشر الموضوعية في أحاديثه، بالرغم من مثابرته على إيجاد كل السُّبُل لتجنب النضوج في فهمه لمنطق العاطفة الإنسانية. نديم أكثر وضوحاً وجهارة أخيراً، ربما هو تحت تأثير الإله توماس فريدمن. هو يتبنى علناً ثالوث «منظومة الطاقة في المنطقة» زائد «السلام مع إسرائيل» زائد «الاقتصاد الحديث»، «ومن يكون في هذا النادي سينجو ومن يكون خارجه سيعاني». هذا كلامٌ صحيح، وشعبا لبنان وسوريا في خانة المعاناة. لقد نجا نديم بريشه لأنه «لا يمكنني انتظار البلد» حتى تختفي إيران من الوجود، كما بشّر أمام الثنائي المَرِح ميدِيا قابيل ومُعِين هابيل، خصوصاً بعد أن سُحِقَ معلمه السابق سعد الحريري على يد دافعي راتبه الجدد. ذهب نديم مع الريح بقيادة وصفة جهنمية قديمة/جديدة للحل: «لن تستطيع نزع السلاح، يجب أن تنزع القضية»، أي، هدف نديم من محاباة إسرائيل هو إلغاء القضية الفلسطينية استسلاماً، أي محو الفلسطيني من الوجود في سلامٍ ما لا تريده إسرائيل أصلاً، أي الانتصار للعقيدة الصهيونية والعبرانية التاريخية، فقط للقضاء على المقاومة. مضى نديم على بياض عقود الاتفاق الإبراهيمي (المبرم بين حكومات لا تمثل الشعوب) وانضم إلى منظومة الطاقة مع جاكيت أنيقة ونظارات جديدة ولقطة كاريزماتية أمام أصابعه مجموعةً رأساً على رأس للبصم بالعشرة. نديم قطيش يلخص ميكروكوزم الوضع الذي تعاني منه كل الشعوب في العالم، بما فيه الشعب الأميركي: يا تستسلم، يا تقاوم. هو لم يكتفِ بالاستسلام فقط، بل انتدب نفسه مقاوماً ضد المقاوم.
لِصحافة اليوم نجومها الهوليووديون. رأيي المشمئِز بهم من رأي عمود الكهرباء بكل من يُطَيِّر في أسفله. أن تتواجد نبتة أو زهرة في الحديقة لا يُكسِبها دكتوراه في الزراعة، وكفاءة نديم، العضو المستحدث في نادي «العمالقة»، مبنية فقط على تَسَوّل رضى الأعضاء المتأسرلين كشرط عضوية. ذلك بالإضافة إلى كثرة التشدّق بهم كالممثلة ناتلي بورتمن (الجندية الإسرائيلية)، الكاذب تاكر كارلسون («فوكس» سابقاً)، عارض الأزياء أندرسن كوبر (سي أن أن)، ولئيم الصهيونية توماس فريدمن (نيويورك تايمز) الذي يركع له نديم وُصولياً، «شكراً تومفريدمن على الفرصة العظيمة» (كما صدحَ في 25 كانون الثاني 2024). جميع هؤلاء يتلاعبون بالوقائع تعاوناً مع مصالح الشركات الإعلامية والجهات الفاعلة سياسياً في بلدانهم ومصالح إسرائيل وكل ما يشرّعه جوناثان غرينبلاط رئيس مؤسسة التعصب «آي-دي-أل». في الحالة العربية توجد حملات تضليل ممنهجة على أوسع نطاق، انطلاقاً من طمس الفرق بين الصواب والخطأ، الحقيقي والمصطنع، الحق والباطل، بمساعدة قدرات تكنولوجية ورقمية ودعائية غير مسبوقة للتلاعب بالمحتوى. النتيجة إضعاف وتقويض كل ما يجسّد الصحافة الجيدة، فتندثر فرق عملة في الوعي الجماعي.
يكمن انحطاط الصحافة العصرية في التحول المهني من مبدأ وقضية إنسانية إلى صراعات مصطنعة ومُدَولرة، من تقصّي الحقائق إلى التعليب التدويري، من الابتكار الخلاق إلى التكرار الببغائي، من المهنية إلى الوظائفية، ومن الاستقلالية الفردية إلى الزبائنية الربحية. تحوّلت الصحافة من همزة تصل الناس بالوقائع إلى محطة ضخ معلومات مُرَكّبة وتشويشية. في تلك النقلة النوعية من اجتراح الكلمة إلى الهندسة السردية، أقلع قطار الصحافة خالياً من المعنى وبقي الناس مهمّشين في محطة النسيان. إنه الفراغ المفزع. الصحافي أصبح ممثلاً سينمائياً، إذ هو بحد ذاته المادة الإخبارية وهو هدف العمل الصحافي بدلاً عن أساسية الوقائع والأخبار، يتعامل مع الناس على أنهم جمهور يهتف ويصفّق.
للبترودولار العربي بالذات صدى بروباغاندي وتسويق مفضوح وفاجر يختزلان الصحافة. تحضير النشرة عبارة عن عبء يقضيه فريق العمل لصياغة هوا على الورق؛ تقديم النشرة عبارة عن قراءة ورق على الهوا؛ والنتيجة عبارة عن تعدّ على المعنى كمفهوم أدبي، لغوي، وإنساني. حتى هوية أو طائفة الصحافي/النجم، عند لزوم الأمر، سلاح ممكن استعماله للتصويب على أفراد جنسيته أو طائفته. كلها تُقَدَّم في قالب ترفيهي من وميض وأضواء، ماركات، فقاعات، فلاشات، مكياج، وتنوع شكلي وبلاستيكي فقط للدلالة التسويقية على ليبرالية مزيّفة، حرية استعراضية، وفصاحة الدُّمْية في يد المُقامِق.
ما سر مالكي محطات البترودولار؟ شو قصة نزعتهم الدائمة إلى ترقية من لا يصلح أو لا يستحق المراتب العالية؟ ترقية مطابقة لقصة مينيجوب السبعينيات تماماً كتنّورة معلمتي السوبر قصيرة في المدرسة. من النادر في تاريخ الصحافة/الأزياء أن يرتقي أحمق/ثوب إلى الأعلى للكشف عن الكثير مما بجب كتمانه خجلاً (على جمال المنظر الثاني وقلة الأول). نجحوا في تشويه المنظار الفكري ونظر العامة. إن روبوتات القنص الإعلامي تحاصرنا من كل الاتجاهات. ربما العمل الجبهوي الأكثر فعالية على الأثير العربي هو الاختباء داخل رأس نديم قطيش وأمثاله. لأنه فقط من داخل تلك المايكرومستوطنة الصهيونية من الممكن فكفكة براغي الاستشراق على دِقة إدوار سعيد.

* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية