يتّخذ المشروع النقدي الاستشراقي أشكالاً عدة، فليس من السهل أن نلخّصه ونحلّل ما ورد فيه من آراء ونظريات. والسبب أن هذا النقد يستند إلى منابع فكرية متعدّدة، لعل أهمّها ما يلي:أولاً، نظريات في النقد طُبّقت بدءاً بالقرن التاسع عشر على العهدين القديم والجديد في الكتاب المقدّس (انظر الحلقة الأولى من هذه المقالة). وثانياً، نظريات في النقد الأدبي الغربي الحديث والمعاصر. أحاولُ في ما يلي أن أتطرّق إلى بعض النقاط الأساسية التي يثيرها هؤلاء النقّاد الغربيون، ثم أن أقيّمَ جدواها، فهي لم تحظَ بعد بما تستحقّ من دراسة وتحليل في الوسط الثقافي العربي

النقد الأدبي للمصادر: ألبرخت نوت
نلتفت هنا إلى منظومةٍ أخرى من النقد جديرة بالاهتمام، أي النقد الأدبي للمصادر، والتي كان أوّل من صاغها بدقةٍ وعمق هو المستشرق الألماني الراحل ألبرخت نوت (1937-1999) في كتابه الصادر عام 1994 في ترجمته الإنكليزية وبعنوان «التراث التأريخي الإسلامي المبكر: دراسة نقدية للمصادر». وخلّف هذا الكتاب الصغير الحجم تأثيراً واسعاً في الوسط الأكاديمي الاستشراقي لكنه لم ينل ما يستحقّه من تمحيص في أوساطنا العربية.
وقد نوجز حجّته الرئيسية في كتابه هذا كما يلي: يطرح المؤلّف أمامنا سلسلةً من العوائق التي تعيق كل من يحاول أن يبني تاريخاً للإسلام المبكر. هو لا يقول إن هذه المهمّة مستحيلة، بل يلفت الأنظار فقط إلى العقبات التي ينبغي على كل مؤرّخِ لتلك الفترة أن يتنبّه لها قبل البدء بعملية البناء التاريخي. ما هي هذه العقبات؟

«توبوس» و«سكيماتا»
لتلك العقبات شكلان رئيسيّان هما: الصورة النمطية (توبوس) والشكل البلاغي (سكيماتا). «توبوس» كلمة يونانية تعني المكان ثم تعني أيضاً موضع الاقتباس في كتاب ما. ثم تطوّر هذا المعنى فأضحى يدلّ على «ثيمة» تقليدية أو صورة نمطية في كتاب أدبي، أمّا الـ«سكيماتا» فتعني الشكل البلاغي العام. وكان أوّل من استخدمها لتحليل الأدب الأوروبي الأديبان أريك أورباخ (توفي 1957) وإرنست روبرت كورتيوس (توفي 1956). رحلت هذه النظرية إلى أميركا واستخدمها الناقد هايدن وايت (توفي 2018) لتحليل الكتابة التاريخية عموماً إلى أن وصلت أخيراً إلى الدراسات الإسلامية على يد ألبرخت نوت.
لنقف قليلاً عند هاتين اللفظتين كي نفهم ما عناه نوت بهما في كتابه. الـ«توبوس» كما يستخدمه صاحبنا يقترب في معناه إلى ما قد نسمّيه اليوم استعارة أو تشبيهاً أدبياً شائعاً ونمطياً يصل إلى درجة الابتذال، ولعلّ لفظة «كليشيه» في اللغات الأوروبية تقارب هي الأخرى هذا المعنى. وغنيٌّ عن القول أنّ استعمال هذه الاستعارات بكثافة في كتابة التاريخ من شأنه أن يحجب الحقائق تحت ستار من التعمية الأدبية كما سيرد أدناه. أمّا الـ«سكيماتا» فهي أيضاً كلمة يونانية في صيغة الجمع لكلمة «سكيما» وتعني الشكل أو الشكل الخاص لشيءٍ ما، أو الأسلوب والنمط الذي هو عليه. طوّر الفلاسفة الأوروبيون هذا المفهوم ليعني التركيب النظري المُتخَيّل لفهم الظواهر، ثم نقله الأدباء إلى ما يشبه الأسلوب أو الجو الأدبي السائد أو النفحة السائدة في نص أدبي ما. وقد أبدى علماء العرب في الماضي كعبدالله ابن المعتز (توفي 908 م.) وعبد القاهر الجرجاني (توفي 1081 م.) اهتماماً عميقاً بدراسة الاستعارات والأساليب الأدبية ولعل أقربها إلى «سكيماتا» ما سمّوه «مذاهب الكلام». فإذا افترضنا أنّ الجو السائد في نصٍّ تاريخي ما هو مثلاً جو ملحمي أو بطولي فهذا من شأنه أيضاً، كما الـ«توبوس»، أن يقحم الحقائق التاريخية كي تلائم وتتماشى مع هذا الجو فتعرقل الوصول إلى الحقيقة. لكنّ كلامنا هنا سوف ينحصر في الغالب بمفهوم «توبوس» كما استخدمه ألبرخت نوت.

أمثلة من الـ«توبوس» عند ألبرخت نوت
لنبدأ باستعراض مثالٍ بارز أتى به نوت لما سمّاه «توبوس». يقول إنه خلال عدة معارك بين الفاتحين المسلمين والبيزنطيين كما ترد في كُتُب الفتوحات نجد أن الجنود البيزنطيين كانوا مقيّدين بالسلاسل لمنعهم من الهرب. ويضيف نوت أن هذا الأمر لا يُصَدّق، إذ من المستحيل لأيّ قائد عسكري أن يفعل ذلك إذا كان في كامل قواه العقلية (ولأجل الصُّدف، وفي عام 1967 سمعنا ونحن في أميركا من أتى ليخبرنا الخبر ذاته عن الجنود الإسرائيليين المقيّدين بالسلاسل داخل دبّاباتهم). لذا، فإنّ أخباراً كهذه هي أساطير وليست حقائق تاريخية. ويضيف نوت أن المصادر تزخر بمثل تلك القصص النمطية وتعدادها أكثر بكثير مما ذكرها هو في كتابه. لذا فقد أضحى في متناول المؤرّخين اليوم مستودعٌ من الأسلحة النقدية للفصل بين الحقيقة والخيال من خلال تبيان هذه الصور المتكرّرة والمبتذلة.
وحين يصل القارئ إلى نهاية كتاب نوت وبعد أن استعرض مؤلّفه عدة أمثلة تُشبه مثل السلاسل ومنها مثلاً الفِيَلة التي استخدمتها جيوش الساسانيين ضد الفاتحين والتي تُذكر بتكرارٍ في المعارك كافّة. نعم، يقول نوت، استخدم الساسانيون الفيلة في بعض المعارك، لكنّ استخدامها في كل المعارك كما في كتب الفتوحات أمرٌ لا يُصدّق. وسرعان ما يجد القارئ أن نوت تخلّى عن بعض التفاؤل الذي أبداه سابقاً بصدد صحّة المصادر ليصبح ما سمّاه «عقبات تعترض طريق المؤرّخ المعاصر» أشبه بحقلٍ من الألغام الذي يغطّي تراثاً تأريخياً بأكمله، أي تراث كتب الفتوحات، إذ لا تكاد تخلو أيّ صفحة من كتابه في ما بعد من نعوت كمثل «من نسيج الخيال» أو «أسطوري» أو «غير جدير بالثقة والاعتماد» أو «خلط وبلبلة بالكامل» أو «تزوير سخيف» أو «لا علاقة له بالحقيقة» أو «خبرٌ تكتنفه الشكوك» وإلى ما هنالك من نعوت مشابهة. ويضيف نوت أن هذه الأخبار لربما كان لها في الماضي «لُبٌّ من الحقيقة» غير أن من نقل تلك الأخبار في اللاحق عَمَد إلى بَترِها عن منابتها التاريخية وجعلها تهيم على غير هدى، وألبسها ملابس الـ«توبوس» كي تلائم ما سمّاه صاحبنا «مزاج الأزمنة اللاحقة» أو حتى كي «تُسلّي الجمهور الذي يستمع إليها».
لا جدال في أن نوت قد حملنا على إعادة النظر في تاريخ الإسلام المبكر أو في بعض أجزائه، غير أن نظرياته لا يمكن التسليم بها على الشكل الذي ترد فيه في كتابه هذا. لنتفحص أوّلاً ما يسمّيه: «لُبٌّ من الحقيقة» في داخل تلك الـ«توبوي» (صيغة الجمع لـ«توبوس»). يدرك نوت جيداً أن هذا الأمر من شأنه أن يلقي بعض الظلال على نظريته، غير أنه يصرف النظر عنه في مستهلّ كتابه ولا يبحث فيه بشكل نظري جدي.

الـ«توبوس» في كلامنا اليومي
كثيراً ما نستخدم الـ«توبوس» في كلامنا اليومي، لكن ألسنا نستخدمه بشكل مناسب وملائم بالضبط لأنه يمتلك لُبّاً من الحقيقة؟ وإذا عرّفنا الـ«توبوس» كما جاء أعلاه على أنه شكلٌ من أشكال البديع الأدبي كالتشبيه والاستعارة أو حتى التشبيه المبتذل (الـ«كليشيه») فقد يفيد المثال البسيط الآتي في توضيح الأمر؛ يأتي إليك صديقٌ ليخبرك أنه وقع في الحب من أوّل نظرة، وبدل أن يقول لك هذا حرفياً يلجأ الصديق إلى الاستشهاد ببيت أحمد شوقي الذائع الصيت: «نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ». لربما نكتشف لاحقاً أن الأمر لم يحصل بهذا الشكل على الإطلاق، غير أن الصديق قد استعمل الـ«توبوس» لوصف ما حصل له.
ماذا لو كانت لهذا الحب تداعيات تاريخية هامة تجعله جديراً بالتحليل من جانب المؤرّخين؟ أليس من واجب المؤرّخ أن ينبش داخل هذا الـ«توبوس» ليرى إذا كان فيه لُبٌّ من حقيقة، وهي أن ذاك الحب قد حدث لأوّل نظرة؟

الجنود المُقيّدون بالسلاسل
لكن دعنا نعدْ مجدّداً إلى الجنود المقيّدين بالسلاسل. ما هي وظيفة هذه القصة بالضبط؟ نعم، قد يُقال إن هذه القصة لا يمكن لنا أن نقبلها كما ترد حرفياً لأنها تنافي العقل وتشبه الأسطورة. لكن هل تنتهي وظيفة المؤرّخ عند هذه النقطة؟ هل ثمّة لُبٌّ من حقيقةٍ في تلك القصة؟ لا ريب في ذلك في رأيي. قد نقترح مثلاً أن هذه القصة لها علاقة وطيدة بنظرة تاريخية ما أو إدراكٍ ما، وهي أن العدو كان في نظر الفاتحين جباناً رعديداً، وهذا أمر لا يمكن للمؤرّخ أن يغُضَّ الطرف عنه. أمّا الفِيَلة التي يتكرّر ذكرها في كل المعارك فقد توحي بأن الفاتحين تغلّبوا ببطولةٍ عزّ نظيرها على الشدائد كافّة التي اعترضت طريقهم. من هنا فإنّ البحث عن اللبّ من الحقيقة في جميع أمثلة الـ«توبوس» التي ترد في كتاب نوت أمرٌ لا غنى عنه في التحليل التاريخي، ولا يمكن لنا أن نكتفي بِطَرحِهِ جانباً ووصفِهِ بأنه من نسيج الخيال.

بعض الأسئلة المتعلّقة بنقل تلك الأخبار
ولنا أن نتساءل: كيف جرت بالضبط هذه العملية التي قام بها أولئك الذين نقلوا ودوّنوا تلك الأخبار في الأجيال اللاحقة وأضافوا إليها هذا الكمّ الكبير من الـ«توبوي»؟ هل تواطؤوا على هذا الأمر مثلاً أم هل جلسوا في مجلس ما ثم قرّ رأيهم أن يزيّنوا أخبارهم بهذه الاستعارات البلاغية لإرضاء أذواق جمهورٍ جديد أو لجعله يطرب لسماعها؟ هل فعلوا هذا الأمر عن وعيٍ تام به أم عن غير وعيٍ، وبالصدفة؟ وهل نجد ما يشبه هذا الفاصل بين عصر «الخبر الفجّ» وعصر الـ«توبوس» في تواريخ الأمم الأخرى كبيزنطة والإغريق والرومان وغيرها، أم أنّ هذا الفاصل يختصّ بالتاريخ الإسلامي فقط، ولماذا؟ أمّا تلك الـ«توبوي»، فهل لها تسلسل هرمي ومرتبات متعدّدة، أم هي جميعها متساوية في ما يختصّ بامتلاكها لُبّاً من الحقيقة أو نسيجاً من خيال؟ وإذا وضعناها جميعها على المستوى ذاته، ألا يقلّل هذا من فائدتها التحليلية؟ وبالإضافة إلى هذا وذاك، فإنّ غياب أيّ محاولة لصاحبنا أن يصنّف تلك الـ«توبوي» أو يقدّر كمّية ورودها في المصادر يجعله يستخدم كلمات كمثل «في العديد من الأحيان» أو «مِراراً وتكراراً»، وهي كلمات تحجب حجم استخدامها في المصادر. يوحي صاحبنا بأن حجم هذه المشكلة كبيرٌ لدرجةٍ تحملنا قصراً على إلقاء كل هذه الأخبار المزيّنة بالـ«توبوي» في سلّة المهملات. بكلامٍ آخر، لا ينبغي لنا أن نهدم البيت على رؤوس أصحابه فقط لأن فيه بعض التصدّعات.
هل نجد ما يشبه هذا الفاصل بين عصر «الخبر الفجّ» وعصر الـ«توبوس» في تواريخ الأمم الأخرى كبيزنطة والإغريق والرومان وغيرها، أم أنّ هذا الفاصل يختصّ بالتاريخ الإسلامي فقط، ولماذا؟


نظريات هايدن وايت وانتشارها
نلتفت الآن إلى منظومةٍ من النقد التي أشرنا إليها بإيجازٍ أعلاه، وهي منظومةٌ ترد إلينا مباشرة من مدرسةٍ في النقد الأدبي. ولعلّ هايدن وايت من أبرز من صاغها وبعمق لتنسحب عنده أوّلاً على كتابة التاريخ الأوروبي في القرن التاسع عشر، ثم لاحقاً على الكتابة التاريخية بمجملها. وخلّفت نظرياته أصداء تُسمع بوضوح في الدراسات الإسلامية التي تتّصل بالكتابة التاريخية في الإسلام، كما سيرد أدناه.
ننتقل عند هايدن وايت من الـ«توبوس» إلى الـ«تروب» أي إلى ما سمّيناه أعلاه «مذاهب الكلام» عند قدامى النقّاد المسلمين. ما هي مَسحةُ هذا النصّ التاريخي؟ هل هي مسحةٌ ملحميةٌ أم تراجيدية أم أخلاقية أم لاهوتية أم تبريريّة أم ساخرة أم تشكيكية أم وَعظيّة... أم ماذا؟
دعنا نستشهد بنصٍّ يرد في كتاب وايت الأشهر والذي هو بعنوان «مذاهب الخطاب: مقالات في النقد الثقافي» الصادر عام 1978، والذي قد نتّخذه، مع بعض التبسيط، شعاراً لمدرسة وايت. وجاء في النص ما يلي:
«رغم أن المؤرّخين والروائيين لهم ربما اهتمامات مختلفة في ما يختصّ بالحوادث والوقائع [وهو يعني بالطبع الواقعي والمتخيّل] غير أن شكل الخطاب والهدف من وراء الكتابة كثيراً ما يكون واحداً». ولعلّ من المناسب أن نشكره لأنه استخدم لفظة «كثيراً ما»!
تبيّن لنا إذاً ليس فقط ما قد نسمّيه «التشابه العائلي» بين التاريخ والرواية، وهو أمرٌ نعرفه منذ مئات السنين فالقصة هي القاسم المشترك بين التاريخ والرواية، بل يقال لنا الآن إن التمييز بين الأمرين «كثيراً ما» يكون مستحيلاً. بكلامٍ آخر، تحوّل التاريخ على يد هايدن وايت إلى التأريخ، أي من مضمون ومحتويات التاريخ ونصيبه من الحقيقة إلى كيفيّة كتابته. وهذا يعني بالتالي إخضاع النصّ التاريخي لمقاييس النقد الأدبي، أي ما يسمّيه وايت «التخطيط» أو الشكل الإبداعي الذي حُبِك فيه، إلى مسحة النص: تراجيدية، ملحمية، أخلاقية... وإلى ما هنالك. وهذه المسحة ليست فقط الرداء الخارجي الذي يرتديه النص بل هي تتسرّب إلى مستوياته ومحتوياته كافّة. ونصل في نهاية المطاف إلى ما يشبه التشكيك الجذري في المصادر الذي وصل إليه ألبرخت نوت من خلال استخدام منهجية الـ«توبوس».

نظريات هايدن وايت كما استُخدِمت في الدراسات الإسلامية
وجدت نظريات هايدن وايت وغيره ممن جاء ذكره أعلاه أنصاراً لها في الدراسات العربية الإسلامية، وتلقّفها الاستشراق الإسرائيلي بشغفٍ خاص، ولأسباب سياسية واضحة. فالمشروع الصهيوني منذ بداياته كان يرمي إلى طمس جغرافيا وتاريخ وحضارة فلسطين العربية وها هو الآن يتسلّح بنظريات تتيح له «تفكيك» التاريخ العربي المبكر بأسره. ومن بين هؤلاء المستشرقين مثلاً الإسرائيلي أوري روبن وكتابه عن السيرة النبوية الذي صدر عام 1995 بعنوان «عين المشاهد: حياة محمد كما شاهدها المسلمون الأوائل». فهو كتاب يزخر بالتعميمات كمثل «النظرة التاريخية السائدة عند المسلمين» و«ما كان ينبغي للمسلمين أن يعرفوه عن حياة نبيّهم» و«كي يصبح الأمر مقبولاً لدى العلماء كافّة» و«كان المسلمون يسعون إلى تثبيت حياته بواسطة القرآن» و«بذا تفوّقت مكّة على المدينة» و«أضحى الاستشهاد المباشر من التوراة والإنجيل أمراً لا يحبّذه المسلمون» وعددٌ آخر لا يُحصى من تعميمات كهذه. لا يتناول روبين السيرة ككل بل يحصر اهتمامه ببضع حوادث من السيرة التي يشبعها درساً وتمحيصاً ليستنتج في نهاية الأمر أنها جميعها محاولات تكتنفها الرموز الأدبية لجعل السيرة تتماشى مع القرآن ومع محيط جزيرة العرب (الذي يذكره بدون تفصيل) ومع الكتاب المقدّس والتوراة بوجه خاص. وللقارئ أن يستنتج أن السيرة لا قيمة تاريخية لها، بل هي بمثابة مشروع رمزي يهدف إلى إعادة صياغتها لتبدو وكأنها تكمّل رسالة أنبياء التوراة.
وفي عام 2004 طلع علينا مستشرق إسرائيلي آخر اسمه بوعاز شوشان بكتابٍ بعنوان «شعريّة (ربما هو الأفضل بلاغة) كتابة التاريخ في الإسلام: تفكيك تاريخ الطبري». وهذا الكتاب يستمدّ نظرياته مباشرةً وبالتخصيص من هايدن وايت، ليقول إن البلاغة تلعب دوراً هاماً «في سعي المؤرّخ لتحقيق أهدافه، وليس أقلّها شأناً الإقناع». فهو لا يكترث لما في التاريخ من صدقيّةٍ أو واقعيّة، بل يكشف عن الأساليب البلاغية التي يغلّف فيها المؤرّخ ما يسرده من وقائع وحوادث لإقناع القارئ أنّ هذه الحوادث قد وقعت حقّاً. لا يفسح المجال هنا للحديث عن الأساليب البلاغية كافّة التي ترد في هذا الكتاب، بل نكتفي بمثالٍ واحد هو موقعة كربلاء عند الطبري التي يصفها شوشان بعد التمحيص بأنها مغلّفة بالكامل بالبلاغة «التراجيدية».
ولا يكتفي المؤلف بـ«تفكيك» الطبري بل يعمّم هذه «الشعريّة» على العديد من مؤرّخي الإسلام الأوائل كاليعقوبي والمسعودي ومسكويه وغيرهم، فكتابة التاريخ في الإسلام تمثّل أكبر كتلةٍ من «الأدب الدراماتيكي الذي أنتجته الحضارة الإسلامية».

أسئلة ذات صلة
نلتفت إلى مؤرّخين أوائل كاليعقوبي والبلاذري والطبري والمسعودي والمطهّر بن طاهر المقدسي وغيرهم ونسأل: هل يمكن لنا أن نضعهم من حيث التخطيط والتصميم البلاغيّيْن على درجة واحدة وفي صفٍّ واحد؟ وهل ألقى هذا التخطيط البلاغي بثقله على كل ما أوردوه من حوادث ووقائع وقعت بالفعل في اعتقادهم؟ وهل كانوا فعلاً لا يميّزون بين الواقع والمرتجى؟ وهل يمكن لنا أن نطلق التعميمات على مؤرّخين يختلفون اختلافاً بيّناً في الأساليب والأهداف والمشارف والأزمنة؟
أجل، كان هؤلاء المؤرّخون يسعون إلى تسلية القارئ وجعله يقرأ ما كتبوه بشغفٍ، كما وإلى الوعظ الأخلاقي وإلى استخدام الأساليب البلاغية في الإقناع والاستعبار وإلى ما هنالك. لكن هل كان ذلك كلّ ما في جعبتهم من نيّات؟ ألم يقولوا لنا بأنهم بذلوا أقصى ما في وسعهم للوصول إلى حقيقة الأمور؟
وبعد كل هذا وذاك، هل هؤلاء المؤرّخون العرب يختلفون عمّا يفعله أي مؤرّخ عادي اليوم في مشارق الأرض أو مغاربها؟ ألسنا نُثني عليه ليس فقط للدقة في التمحيص، واستجواب المصادر وشموليتها، وترجيحه لبعض الروايات على البعض الآخر، أي ما يفعله أي مؤرّخ ثقة، بل نُثني عليه أيضاً للرشاقة في الأسلوب والبساطة والجمال في التعبير والسهولة في قراءة النصّ؟ وإذا قيل لنا إن الوصول إلى الحقيقة مستحيل بسبب هذه «الشاعريّة» بالذات فعلينا أن نرمي ليس فقط بكتابة التاريخ في الإسلام، بل بالكتابة التاريخية برمّتها، شرقاً وغرباً، ماضياً وحاضراً، في القمامة.
فالطبري وأقرانه لا يمكن وصفهم بأنهم حَكَواتيّة أو قُصّاص إذ كانوا جميعهم واعين لأهمّية الوصول إلى الحقيقة مهما كانت الصعاب، بل كان المسعودي من بينهم يرى أن التاريخ هو أصل العلوم الإنسانية كافّة: «إذ كان كلُّ علمٍ فمن الأخبار يُستخرج وكل حكمة منها تُستنبط والفقه منها يُستثار والفصاحة منها تستفاد... ومعرفة الناس منها تؤخذ وآداب سياسة الملك والحرب منها تُلتمس... ومكارم الأخلاق منها تُقتبس» وهلمّ جراً. أمّا غرض التسلية فيأتي في نهاية هذه السلسلة الطويلة من فوائد التاريخ وعَظَمته وجلالة قدره.

خلاصة
لعلّ من المفيد أن نذكّر بأن هذه النظريّات التي تلقي ظلالاً من الشكّ، قاتمة أكانت أم لطيفة، على التاريخ عموماً، كما في كتابات هايدن وايت، أم على تاريخ الإسلام المبكر، كما في الكتابات أعلاه، لم تنجح في خلق مناهج جديدة في كتابة التاريخ. فكُتُب التاريخ، بما فيها كتب السير، ما زالت حتى يومنا هذا تحظى بإقبالٍ جماهيري واسع وما زالت تُكتب بأسلوبٍ قد يصنّفه التشكيكيّون أعلاه بأنّه «تقليدي» أو «بلاغي» أو ما شابه. أمّا النقد الجذري للطبري وأقرانه فلا يبدو لي أنه ترك أثراً يُذكر على كتابة تاريخ الإسلام المبكر الذي لا يزال يستند إلى الطبري وغيره لصياغة تواريخ معتبرة تصدر عاماً بعد عام في يومنا هذا. ولعلّ هذا التشكيك الجذري في المصادر والقول باستحالة الوصول إلى الحقيقة فيه شيء من العبثيّة والعدميّة بل وحتى من الاستثارة أو من العنصريّة كما في الاستشراق الإسرائيلي.
لكن هل هذه النظريّات عديمة الفائدة بالكامل؟ حين يسعى المؤرّخ إلى تنسيق مادّته ووضعها في إطار تسلسلي؛ حين يرجّح بين الروايات؛ حين يتطرّق إلى الأسباب والمسبّبات؛ حين يبحث عن بدايات الأمور وتطوّرها؛ حين يصف الاستمرار والانقطاع؛ حين يرى في سيرة إنسان ما مقياساً مفيداً لقياس هموم عصره؛ حين يستعين المؤرّخ بعلوم عصره لإلقاء المزيد من الضوء على تاريخه؛ حين يؤرّخ للسياسة أو المجتمع أو الفن أو الموسيقى؛ حين يرنو إلى أسلوبٍ أدبي يراه أقرب إلى مزاج القرّاء واستلطافهم....حين يفعل مثل هذه الأمور وغيرها، هل تفيده مثل تلك النظريّات؟
يقيني أن بعض هذه النظريّات تشكّل أدوات معرفية تنبّه المؤرّخ عند تمحيص النصوص وتقييمها. لكن لا ينبغي لنا أن نيأس من الوصول إلى الحقيقة مهما اكتنفها من مصاعب ومهما كانت تصدّعاتها. التاريخ في جوهره تدريبٌ للعقل وجدالٌ لا ينقطع ورحلةٌ لا تنتهي بين الظلال.
* أكاديمي فلسطيني