عندما يصف بعض اللبنانيين أنفسهم بـ«السياديين»، يطرح مباشرة السؤال: عن أيّ سيادة يتكلّم هؤلاء «السياديون»؟ فإذا لم يكن لبنان قد مارس سيادته، كما يفترض أن يمارسها كبلد مستقل، منذ فجر الاستقلال، لا في الشق السياسي بما يعني جميع الاستحقاقات، من انتخاب رؤساء جمهورية، إلى تعيين رؤساء حكومات، إلى انتخابات نيابية... إلخ، ولا أيضاً في الشق العسكري الأمني حيث لطالما انتهك العدو الإسرائيلي الجنوب اللبناني واخترق الأجواء اللبنانية، فعن أيّ سيادة يتكلّم هؤلاء السياديون، وأين كانوا يومها، علماً أن بعضهم (حزب الكتائب) كان على مدى تاريخه مشاركاً أساسياً في السلطة، وبعضهم عايش تاريخ لبنان، أقلّه منذ بداية الثمانينيات، وآخرون منهم لا شك قرأوا ودرسوا تاريخ لبنان، فلماذا دبّت الحميّة «السيادية» الآن؟ يبدو أن السيادة الوطنية في مفهوم هؤلاء السياديين تعني شيئاً واحداً: نزع سلاح حزب الله. وأتحدّى، من موقع المراقب المحايد، أن ينفي أيّ من هؤلاء هذا الأمر. ليس ما سأورده هنا ينطلق من موقف دفاعي عن حزب الله وسلاحه، فهو ليس بحاجة إلى ذلك، ولست أنا مؤهّلاً في أيّ حال لهذا الأمر. وربما كان لديّ ملاحظات عديدة على أداء حزب الله، فضلاً عن موقفي من كونه محدوداً في طائفة بعينها. لكن هذا ليس موضوعنا. أيضاً، ليس في ما سأقوله موقف عقائدي مسبق من هؤلاء السياديين أو بعضهم. وهذا ليس أيضاً موضوعنا في هذه المداخلة التي محورها سؤال واحد فقط: ما هو مفهوم السيادة، وكيف تتم مقاربته عند هؤلاء السياديين؟
بداية، السيادة الوطنية هي كلّ لا يتجزأ. وهي نابعة من مفهوم الوطن. الوطن هو مساحة من الأرض تقطنها جماعة من الناس يشتركون في دورة الحياة الواحدة وفي المصالح والمصير نفسهما. طبعاً، هناك اللغة الواحدة، ولو اختلفت اللهجات، وهناك عادات وتقاليد متشابهة أو متقاربة ولكن ليست متطابقة، بل تتميّز ببعض الخصوصيات التي تنتج من التمايز بين المناطق. ولكنه تمايز ضمن الوحدة. أو هي التعدّدية ضمن الوحدة والتي لا تنتقص منها، بل من شأنها أن تزيدها ثراءً وغنى.
أتكلّم هنا عن بلد سويّ. عن بلد استكمل جميع العناصر التي تؤهّله لمرتبة الوطن. لأن البلد لا يصبح وطناً بمجرّد أن ينال استقلاله عن السلطة الاستعمارية أو السلطة المنتدبة. فمن أهم عناصر الوطن، أن يشعر قاطنوه (الجماعة من البشر التي يطلق عليها اسم شعب) بأنهم فعلاً لا قولاً يتساوون أمام القانون، ولا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات. فالوطن يضمّ مواطنين وليس رعايا أو أرقاماً. والمواطن إنسان كامل الحقوق على قدم المساواة مع غيره من المواطنين. لننظر إلى الوضع في لبنان على ضوء هذا المنطق:
لبنان هو بلد مكوّن من مجموعات طائفية مذهبية. والحقوق، والحالة هذه، هي حقوق الطائفة والمذهب وليست حقوق المواطن. والإنسان في لبنان ليس له حقوق إلا بكونه منتسباً إلى إحدى هذه الطوائف أو المذاهب. ولا تتعرّف الدولة عليه، إن كان بسلطتها التشريعية، من خلال الانتخابات النيابية وقوانينها، أو عبر سلطتها التنفيذية، كوزارات أو كدوائر رسمية، إلا بوصفه رقماً في طائفة أو مذهب. فخارج هذين المكوّنين لا وجود لمواطن، فكيف يكون ثمة وجود لوطن؟!
انطلاقاً من هذا التوصيف الذي يستلهم الواقع كما هو دون عمليات تجميل للبشاعة المسيطرة على جميع مناحي حياتنا، نرى أن جميع التعابير الملحقة بلبنان كـ«وطن»، من مثل السيادة الوطنية والحقوق الوطنية وما إليها، لا تستقيم لأن المضاف إليه الذي هو هنا «الوطن» المفترض غير موجود إلا في أدبيات جماعة الاستقلاليين السياديين الذي يتعامون قصداً عن الواقع الهش للبلد، الذي هو كناية عن جماعات طائفية مذهبية. ولأن لا مضاف إلا إذا وجد مضاف إليه، فليس هناك سيادة وطنية أو حقوق وطنية أو أيّ شيء وطني. هناك سيادة واستقلال وحقوق لهذه الطائفة أو تلك وعلى قياسها. ولذلك، فما هو سيادي لفئة هو غير سيادي لفئة. فكيف لبلد ليس هناك من اتفاق بين قاطنيه (لم يكتسبوا تبعاً لما قلناه أعلاه صفة الشعب، لأن الشعب مكوّن من مواطنين) على مفردات ومصطلحات أساسية وجوهرية، أن يكون بلداً سويّاً؟
وإذا عدنا إلى تاريخ لبنان الحديث منذ فجر الاستقلال، نرى ثمة مفارقة واضحة وصارخة مفادها أن أطراف هذه الدولة، في أقصى الشمال وأقصى البقاع وفي الجنوب المحاذي لفلسطين المحتلة، هي كناية عن كمّ مهمل لا تصله الدولة، لا خدماتياً ولا أمنياً، في شبه اعتراف ضمني بأن هذه الأطراف البعيدة عن المركز هي خارج اهتمام الدولة بحكوماتها المتعاقبة.
ومن تجارب شخصية نرى أن الجنوب تحديداً كان إلى وقت طويل خارج اهتمامات الدولة إلى الحدّ الذي نما فيه شعور لدى الجنوبيين بأن الدولة قد تخلّت عنهم.
ماذا يعني هذا إن لم يكن ترك الجنوبيين لمصيرهم. ومصيرهم معروف في ظل وجود عدوّ رابض على الحدود ولديه أطماع تاريخية مثبتة ولا تحتاج إلى أيّ برهان. فماذا تبقّى لابن الجنوب والحالة هذه؟!
لا شك أن هذه كانت الخلاصة التي توصّل إليها نفر من الشباب الذين عانوا ما عانوه من إهمال الدولة، من جهة، ومن وجود عدوّ وجودي مجرم على الحدود، من جهة ثانية. وكان أن تشكّلت المقاومات الشعبية، من دون تنظيم حزبي بداية، لأن التنظيم أتى لاحقاً. إذاً، الحاجة إلى ردّ الاعتداءات في ظلّ تقاعس الدولة هي المحرّك الأوّل للمقاومة. هذا كان في البدايات. ثم توالت الأحداث ودخلت الأحزاب الوطنية على خط الصراع مشكّلة المقاومة الوطنية التي نفّذت العديد من العمليات النوعية ضد جيش الاحتلال. وبعدها، تحديداً في عام 82 ولد تنظيم حزب الله من رحم حركة أمل التي أسّسها الإمام موسى الصدر عام 74 تحت اسم «حركة المحرومين» كحزب سياسي لبناني، أعضاؤه من الطائفة الشيعية. وبعد اختفاء الإمام، وقيام الثورة الإسلامية في إيران، انشقت مجموعة عن الحركة لتؤسس حزب الله الذي حظي منذ البدء بدعم الثورة الإسلامية بقيادة الخميني. واشتمل الدعم على المستويات العسكرية والمالية كافة. في المقابل، تبنى الحزب عقيدة الثورة المتمثّلة في ولاية الفقيه. وتزامنت نشأة الحزب مع تردّي الوضع في الجنوب، فنشطت لذلك عمليات المقاومة التي سمّيت من وقتها «المقاومة الإسلامية». فكون الجمهور الشيعي يشكّل الغالبية العظمى من أبناء الجنوب، وكون جميع قيادات وكوادر وأعضاء الحزب هم من الطائفة الشيعية، كان طبيعياً أن توصف هذه المقاومة بـ«الإسلامية» لتمييزها عن «المقاومة الوطنية» التي تشكّلت من الأحزاب العلمانية كـ«القومي» و«الشيوعي».
فإذا عطفنا وضع الجنوب على إهمال الدولة له وعلى أطماع العدو الصهيوني فيه وعلى نضوج الظروف الإقليمية إثر صعود نجم الخمينية ودعمها اللامحدود، لتوصّلنا إلى الإحاطة الكاملة بظروف نشأة الحزب وبكامل مسيرته التي تعاظمت إثر إجبار «إسرائيل» على الانسحاب من جنوب لبنان في الـ 2000، ليسجّل ذلك سابقة في تاريخ الصراع في المنطقة. ثم كانت حرب الـ 2006 لترسّخ مفهوم المقاومة من جهة، ولتؤكد قوة الحزب المتنامية والتي سنشهد مزيداً من تجلّياتها في تدخل الحزب العسكري مدافعاً عن الشام في الحرب التي شنّت عليها من عدد من الدول في ما دعي «الربيع العربي» وهي التسمية التي أطلقت على مجموع التحركات «الثورية» التي عمّت العالم العربي في مشرقه ومغربه.
نرجع إلى لبنان وإلى الساحة السياسية فيه تحديداً. لماذا يطالب «السياديون» بنزع سلاح الحزب وحجتهم في ذلك سيادة الدولة على كامل التراب الوطني وضرورة حصر السلاح بالدولة اللبنانية والجيش اللبناني، وأن يكون إعلان الحرب والسلم بيد الدولة اللبنانية حصراً.
في بلد سويّ استكملَ عناصر قوته واستقلاله وحصّن هذا الاستقلال بتأسيس دولة مواطنة وقانون تعامل الأفراد كمواطنين في دولة وليس كرعايا في طوائف، وأسّس جيشاً قوياً يحمي حدوده ضد أي اعتداء خارجي، في بلد كهذا تصبح مطالب السيادة الكاملة أكثر من محقة، ويصبح المساس بها جريمة وخيانة وطنية.
ولكننا لسنا في بلد سويّ. نحن في بلد ترك قسم من شعبه في قسم من أرضه لمصيره. وعندما قرّر أن يقف ويدافع عن نفسه أولاً، وعن كل البلد تالياً، تصدّينا له بحجة الاعتداء على السيادة. إنه المنطق المقلوب أو اللامنطق. أتخلّى عنك وأتركك لمصيرك، فإذا قرّرت أن تقف وتدافع عن نفسك وتأخذ مصيرك بيدك أجابهك بمعزوفة السيادة والبلد السيد وبضرورة أن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة حصراً.
مهلاً يا سادة وعلى رسلكم! أرأيتم كوميديا سوداء تضارع هذا المشهد بهزليته المرّة؟ دولة عاجزة عن اتخاذ قرار في شؤون حياتية بسيطة، كالنفايات والماء والكهرباء، نطلب أن يكون قرار بحجم قرار الحرب والسلم في يدها. أو أنكم تستغبوننا أو تتغابون أو تقلّدون النعامة.
أنا لن أتّهمكم بالعمالة للعدو ولن أستعمل معكم هذه اللغة، ولكني أسألكم سؤالاً وحيداً، أرجو أن تفكروا فيه مليّاً: أهي محض صدفة أن يكون موقفكم من السلاح ومن المقاومة هو نفسه موقف أميركا والعدو الإسرائيلي؟ وإن لم يكن كذلك، فكيف تفسّرونه بغير التقاء المصالح؟
نعرف كلنا مصلحة «إسرائيل» ومن ورائها أميركا. ولكن ما لا نعرفه ونتحرّق لمعرفته حتى لا نبقى في دائرة الشك بمواطنين لنا نتشارك معهم حياة واحدة ومصيراً واحداً: ما هي مصلحتكم أيّها السادة السياديّون؟ حبّذا لو نعرف فنرتاح وترتاحون ويرتاح البلد!