ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً بقضية إحياء الفنانة التونسية آمال المثلوثي حفلاً فنيّاً في القدس والضفة الغربية، بالإضافة إلى نيّتها إقامة حفل في حيفا داخل الأراضي المحتلة عام 1948، قبل أن تتراجع (شكليّاً) عن قرارها بعد ضغط الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني. وبعد أيّام على واقعة التطبيع، خرجت حملة المقاطعة «بي دي أس» ببيان تدافع فيه عن المثلوثي مؤكّدةً أنّ «الدخول إلى الضفة الغربية بتصريح من العدو ليس تطبيعاً» وداعيةً إلى وقف «حملات التخوين». رغم الأسى الذي تخلّفه الكلمات والأفكار لتأكيد البديهيات في صراعنا، لا بدّ من مواجهة صريحة لهذا البيان وللحجج التي يسوّقها مبرّرو التطبيع في فلسطين وخارجها.
بدايةً، لا بدّ من مراجعة مفهوم «المقاطعة» وأهدافها البديهية. إنّ المقاطعة فعلٌ يهدف إلى حصار العدو، مادياً وسياسياً وحتى معنوياً، وفي أدبيات حربنا للتحرّر، فإنّ المقاطعة هي بعينها فعلٌ عنفيٌّ لا بدّ أن يوازي عنف العدوّ الماديّ والسياسي والمعنوي. فإذا كان مشروع العدو هو مشروع إبادة للشعب الفلسطيني واستعبادٍ للشعوب العربية، فإنّ واجب المقاطعة أن تكون شاملة لا لبس فيها، وذلك لترسّخ بالفعل، لا بالقول، مبدأ عدم الاعتراف بسيادة العدوّ ومحاولة حصاره قدر الإمكان.
وفي هذا السياق، نعود إلى بيان «بي دي أس» الذي يفرّق بين «التصريح» و«الختم» مُعتبراً الأخير فعلاً تطبيعياً، أمّا الأول فهو، بنظر «حملة المقاطعة»، فعلٌ وطنيّ! وهنا يطرح السؤال البديهي نفسه: ما الفرق بين «التصريح» و«الختم»؟ أليست الجهة نفسها التي تختم جوازات السفر هي التي تمنح الموافقة عبر التصريح لدخول الأراضي المحتلة؟ إذا كان رفض الختم هدفه عدم الاعتراف بسيادة العدو، فهل انتظار إصدار تصريح الدخول من العدوّ يشكّل عدم اعترافٍ بهذه السيادة؟! هل أصبح التطبيع سخيفاً لدرجة التلاعب بالمصطلحات والالتفاف على المبادئ ممن يدعون «صون» هذه المبادئ؟!
بعيداً عن البهلوانيات اللفظية، فإنّ مبدأ التطبيع هو الخضوع الإراديّ لهيمنة العدوّ والاعتراف بسيادته على الأرض العربية، سواء جاء ذلك بختمٍ على جواز السفر أم بتصريح عبور أم حتى بموافقة لفظيّة. وهنا تقع الخطيئة الأولى لبيان الحملة ولكلّ مبرّري التطبيع داخل فلسطين وخارجها. ماذا لو تمّ تعميم هذا الفعل واعتباره أمراً عادياً، لا بل والتشجيع عليه في الأوساط العربية باعتباره «دعماً» لصمود الشعب الفلسطيني؟ ماذا سيبقى من مفهوم المقاطعة ومفهوم رفض الإذعان لسيادة العدو حين يذهب العربي بإرادته لتلقّي موافقة المحتلّ لـ«السياحة» في فلسطين؟ إنّ التطبيع بجوهره فعلُ محاصرة لمحتلّ علاقتنا به علاقةٌ وجوديّة، فلا شيء يربطنا بوجوده ولا شيء يربطه بوجودنا إلا الحرب.

القضية ما بين العام والخاص
يقول الشهيد وديع حداد: «أنا بلدي اسمه صفد... لا أقبل إن عُرضت علينا كلّ فلسطين باستثناء صفد. وأرفضها إذا عُرضت مع صفد واستُثنيَ منها بيتي. وأرفضها إذا عُرضت مع صفد وبيتي واستُثنيَ منها شبرٌ واحد». في هذه المقولة، يلخّص وديع حداد جوهر حربنا للتحرّر وحدود الذاتيّ في التوجه الوطني العام. فالقضية الفلسطينية ليست خلافاً عقاريّاً بين اليهود والعرب، بل هي مواجهةٌ لمشروعٍ استعماريٍّ إحلاليّ، والانتصار في هذه القضية لا يكون إلا بكسر هيمنة العدو على أرضنا ومواردنا وواقعنا. فكيف يكون «التصريح» الذي يقدّمه لنا العدو كسراً لهيمنته؟ ولماذا تدعو حملات المقاطعة إلى مقاطعة الشركات والبضائع إذا كان مسموحاً للإنسان العربي القبول بشروط العدو على أرضه والدخول إليها بالطريقة والوقت الذي يسمح به العدو؟ إنّ تبرير التبطيع بحجة «زيار ة الفلسطينيين» هي «الشبر» الذي رفضه وديع حداد ودفع ثمنه غالياً لأنّه تمسّك بالحقّ كاملاً، أمّا ربع الحقّ ونصفه، فكلاهما باطلٌ متستّر برداء الحق. وهنا يتضح لنا التدمير الذاتي الذي تمارسه حملة المقاطعة ضدّ مفهوم المقاطعة حين تشرّع الأبواب لتبرير التطبيع بهذه الأساليب. وهو التدمير نفسه الذي تمارسه الحملة حين تدعو إلى «عدم التخوين»، وهنا لا بدّ لنا من وقفة.
إنّ الحملة تدّعي رفعها معايير التطبيع من عدمه. وإذا ما استشهدنا بكلام الرئيس التونسي قيس سعيّد، فإنّ التطبيع خيانة. وإذا كانت الحملة تضع معايير التطبيع وتحاكم مَن تنطبق عليه المعايير، فهي عملياً تحدّد الخائن من الوطنيّ بعملها وجهودها. بمعنى آخر، إنّ هدف الحملة الأساسي هو التشهير بمَن يخون مبادئ المقاطعة وبالتالي يخون القضية الفلسطينية. فكيف لحملة جوهر غايتها التشهير بالخونة الدعوة إلى «عدم التخوين»؟ أليس التخوين ضرورياً في أيّ حرب تقع فيها الخيانة؟ أم أنّ التخوين سيفٌ خاص بالحملة دون سواها؟ وهي تقرّر متى ترفعه ومتى تغمده بحسب الشخص المقدم على فعل التطبيع. هنا أيضاً، ماذا تبقّى من معايير ومصداقية مناهضة التطبيع عند مدّعيه؟

في الخاص
بما أنّ التطبيع هو في جوهره رضوخٌ إرادي لهيمنة العدو وسيادته على الأرض العربية، كيف يسمح المطبّعون لأنفسهم بالدوس على ملايين الفلسطينيين والعرب وغير العرب الذين يرفضون هذا التنازل ويصرّون على تحرير البلاد؟ سيقولون «هدفنا دعم الشعب الفلسطيني». وهل كان الشعب الفلسطيني قبل اتفاقيات أوسلو وما تلاها من تطبيع عربيّ تائهاً لا يعرف قضيته ولا يناضل لأجلها؟ لماذا لم يذهب فنانو مصر وسوريا وكل الوطن العربي إلى الأراضي المحتلة لدعم الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 حتى عام 1993؟ حتى لو بموافقة العدو وتسهيله، أليست النيّة صافية؟ وماذا عن ملايين الفلسطينيين اللاجئين الممنوعين من العودة إلى أراضيهم وقُراهم؟ هل يحرّرهم دخول فنانٍ عربيّ إلى الأراضي المحتلة برضى العدو؟
وإن سلّمنا جدلاً بوطنية هذا الفعل، فلماذا سيسعى الإنسان العربي وسواه من المتضرّرين إلى قتال المشروع الصهيوني إذا كان قادراً على الصلاة في الأقصى والاستجمام في حيفا ويافا بموافقة العدو؟! لماذا يُجبر الفلسطينيون على الذهاب إلى أقصى بقاع الأرض للّقاء والتعارف، ولماذا يُحرم جدٌّ في الأرض المحتلة من رؤية حفيدته التي لا تبعد أكثر من عشرات الكيلومترات خلف الحدود مع لبنان؟! هل ستقنعهم الحملة والمدافعون عن التطبيع بطلب تصاريح من «إسرائيل» لتحقيق أبسط حقوقهم في الحياة؟ أمّ أنّ مأساتنا كفلسطينيين وعرب هي في وجود هذا الكيان، وبالتالي فإنّ الشيء الوحيد الذي يحفظ كرامتنا هو القضاء عليه.
إنّ «إسرائيل»، بوجودها، تشكّل عائقاً ديموغرافياً-سياسياً-زمنيّاً بوجه الحياة الطبيعية للشعب العربي، وتجاوز هذا العائق لا يكون بالخضوع لشروطه، وبالتأكيد لا يكون بتجاهله وتسطيح أثره على حياتنا ووجودنا. إنّ الشعب العربي، وعلى رأسه الشعب الفلسطيني، يعيش مأساةً اسمها «المشروع الصهيوني»، والتجسيد المادي لهذا المشروع هو «إسرائيل». فمن يشاء التخلّي عن كرامته لقاء تحقيق «مكسب» آنيّ، لا شيء سيمنعه في ضعفنا، لكنّ المسّ بثوابتنا وتطويع مبادئنا لتبرير التنازل هو ما سنرفضه وسنظلّ نوصمه بحقيقته: خيانةٌ موصوفة.
ومقابل كلّ هذا العبث الذي أظهرته «بي دي أس» وعدد من «المثقفين» الفلسطينيين المدافعين عن التطبيع بتصريح، نجد نموذجاً سياسياً جذرياً من قلب تونس لا يزال ثابتاً على مبادئ الصراع، وهو «الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني». إنّ ثبات هذه الحملة وجهود أعضائها يرسّخ مبدأً جوهرياً يُعمل على تغييبه في صراعنا للتحرّر: أنّ الفعل العربي الصحيح لا تحدّه الهويات القُطرية، بل شرطه الوعي لحقيقة الحرب المفروضة علينا كعرب وعلى مبادئ المواجهة ضد هذا العدو.
إنّ القضية الفلسطينية هي قضية عربية بامتياز، وهذا ما ثبت في قضية آمال المثلوثي. ولا فضل لعربيٍّ على عربيّ إلا بالمقاومة.

* كاتب فلسطيني