نشرت «الأخبار» في 11 تموز 2023، مقالة للدكتورة صفية أنطون سعادة، بعنوان «أنطون سعادة والمُتَّحَد القومي»، فحرّضت عندي تداعيَ الأفكار التالية: بدايةً، إنّ القومية العربية، كما تربّيتُ عليها وكما فهمتُها في بيتنا، فوالدي هو من مؤسّسي حزب البعث العربي، كذلك خالي إميل الشويري، رحمهما الله، تسعى إلى تحقيق الوحدة العربية، على طول الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج. وتالياً، فهي منطقة جغرافيّة وأرض ممتدّة يؤمن العروبيّ بالانتماء إليها. كما أنّ الأستاذ ميشيل عفلق حدّد أنّ هويتنا العربية تنبع من هذه الأرض الممتدّة في أرجاء الوطن العربي.
قبل عام 1916، كان تنقّل الناس حرّاً بين مدن الوطن العربي، فنرى أنّ بعض المغاربة قد استوطنوا دمشق والقدس، مثلاً، وأنّ بعض المشارقة، ومنهم من عائلتي، قد استوطنوا الجزائر وتونس!
كانت المدن مفتوحاً بعضُها على بعض في الوطن العربي ومرحِّبة بسكّان هذه البقعة من الأرض العربية!
وقد هدف الأستاذ ميشيل عفلق، في دعوته في «البعث العربي»، إلى وحدة الأمة العربية ضمن «الدولة – الأمة». كان ذلك طبعاً قبل عام 1948، أو قبل «النكبة». وكوْنُ هذه الدعوة لم تتحقّق إلى اليوم، فهذا لا يعني أنها دعوة غير واقعية.
لقد آمَنَ القوميون العرب بأهمية الدفاع عن الأرض كوجود لهم، فانضمّ ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار إلى جيش الإنقاذ في عام 1948، للدفاع عن فلسطين، وشجّعا البعثيين على فعل الشيء ذاته!
أنتقل إلى تعريف سعادة للأمة في كتابه «نشوء الأمم»: «الأمة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النفسية-المادية في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات»: صحيح أنه يتمايز عن تعريف ميشيل عفلق للأمة العربية التي تضمّ الشعب العربي الواحد الذي تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة والمصير المشترك، وهذه الأمة العربية الواحدة يجب أن تتوحّد في دولة – أمة، تمتدّ من المحيط إلى الخليج، إلا أنّ الغاية، برأيي، هي ذاتها!
فَهِمَ البعثيون الأوائل علاقة العروبة بالإسلام: فالعروبة جسد، والإسلام كثورة اجتماعية روحها. أوضح عفلق العلاقة بين العروبة والإسلام، في «ذكرى الرسول العربي»: «هذه التجربة [الثورة الاجتماعية] هي استعداد دائم في الأمة العربية - إذا فُهِمَ الإسلام على حقيقته- لكي تهبّ في كل وقت تسيطر فيها المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم على نفسها لتصل إلى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهي تجربة لتقوية أخلاقها كلما لانت».
أكّد عفلق، في كتابه «في سبيل البعث»، على إنسانية العروبة باحترامها لحرية الفكر وللتنوّع الاثني في الوطن العربي، والاعتراف بحقوق الاثنيات الثقافية بما يصون الأمن القومي في مواجهة أطماع الإمبريالية والصهيونية: «لا أحد يمنع الأكراد أن يتعلّموا لغتهم شريطة أن يكونوا خاضعين لقوانين الدولة ولا يشكّلوا خطراً على الدولة... فالعروبة هي إنسانية ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الإنسانية الصحيحة وبأنها تقديس لقوميات الآخرين، فنقدّس هذا الشعور عند كل شعب آخر». كما كتب تأكيداً على المواطنة والتساوي حقوقاً وواجباتٍ، بصرف النظر عن الدين والطائفة والمذهب والاثنية: «فأفراد الشعب من الأكراد ماذا يريدون وأي شيء يطمحون إليه أكثر من أن يعيشوا حياة كريمة سعيدة، وأن يكون لهم ما للجميع وعليهم ما على الجميع...».
وأكّد على المواطنة: «فنحن عندما ننادي بالمساواة الاقتصادية وبتكافؤ الفرص نعني أننا سلّمنا قضية البلاد لأصحابها الحقيقيين وهم أفراد الشعب. وهم في حقيقتهم شيء واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي وعربي وكردي وبربري...».
هكذا تكون طبيعة العروبة غير إقصائية، فتتمحور حول المشروع النهضوي: الوحدة والمشاركة الديموقراطية الشعبية والاستقلال الوطني والتنمية والعدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري: «لا يمكن لثقافة العروبة إلّا أن تكون ثقافة حوارية بعيدة عن ثقافة الإقصاء كما يؤمن العروبيون. لذلك لا مكان لأي نوع من التمييز ناهيك عن العنصرية» [د. زياد الحافظ، تشرين الأول 2016].
أمّا مفهوم عفلق للدين، فروحي ثقافي إنساني، ويبقى في الحيّز الخاص للفرد: «إنّ الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان...». كما كتب عن فَهْم المسيحيين من الجيل العربي الجديد للعروبة وعلاقتها بالإسلام: «وسوف يعرف المسيحيون العرب... أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبّعوا بها حتى يفهموها ويحبّوها».
وها هو منصور سلطان الأطرش، أحد مؤسّسي حزب البعث العربي، يكتب في كتابه «الإصلاح في سوريا» في الصفحتين 81 و83: «وقد تكون الظروف الموضوعية والواقعية مؤاتية لصبّ الجهود على قيام وحدة الهلال الخصيب أكثر منها على وادي النيل أو الجزيرة العربية مثلاً»؛ كما أنّه من المهمّ «وضع دستور للوطن العربي يقوم على الفيدرالية، يستهدف في المرحلة الأولى، وحدة الهلال الخصيب».
وقد قدّمتُ في مقالتي السابقة في «الأخبار» (نُشرت في 28 حزيران 2023 بعنوان «سلطان الأطرش، أنطون سعادة، ميشال عفلق: عن تحقيق العلمانية في بلادنا») شواهد على عَلمانية البعث العربي، منها: أقرّ المؤتمر القومي الرابع لحزب البعث (1960) أنّ «أفضل سبيل لتوضيح فكرتنا القومية، هو شرح وإبراز مفهومها التقدمي العَلماني... وسيكون نضالنا في هذه المرحلة مركَّزاً حول تأكيد عَلمانية حركتنا ومضمونها الاشتراكي، لاستقطاب قاعدة شعبية لا طائفية» [شبلي العيسمي، العَلمانية والدولة الدينية، 1986].
إنّ حرية المعتقد تُناقِض الإكراه في الدين أو في الأيديولوجيا؛ ومساواة الحقوق تتنافى مع إعطاء قيمة مميّزة لأي عقيدة. فالسلطة مشتركة للجميع، وعليها اتّخاذ الحياد، أمام العقائد، مبدأً لها. تتطلّب مساواة الحقوق إجراءات عادلة باتّخاذ القرارات على المستويات القانونية، للتأكيد على حيادية الدولة. هذا تعريف أوّليّ للعَلمانية، ويمكنها التحقّق في فضاء ديموقراطي [هنري بينا-رويث، ما هي العَلمانية، ترجمة د. ريم منصور الأطرش، دمشق، دار الأهالي، 2005].
لذلك، فلا يمكننا استخدام مصطلح «علمنة» في الاتحاد السوفياتي الشيوعي، كونه تصرّف رسمياً بشكل معاكس تماماً للعلمانية!
شخصياً، تعلّمتُ، في بيتنا القومي العربي، العَلماني، أن أبحث دائماً عمّا يجمعنا كقوميين، عرباً وسوريين، وأن أعتبر التمايز نوعاً من الغنى على طريق التكامل بالتنوّع، لا على طريق الافتراق.
أنطون سعادة يؤمن بالتطوّر، كذلك القوميون العرب، يؤمنون بالتطوّر، فلم يعودوا يبحثون، حالياً، عن تحقيق الوحدة الاندماجية، بل عن تحقيق التكامل بين أقطار الوطن العربي زراعياً وصناعياً وتجارياً وأمنياً وعسكرياً، بهدف بناء كتلة عَصيّة على التقسيم ينعم أبناؤها جميعهم بثرواتها وأمنها!
مخطئ من يظنّ أنّ العروبة عِرق، فقد كانت ولا تزال اندماجية تضمّ اثنيات متنوّعة، على مبدأ الرغبة بالانتماء إلى أرض الوطن العربي، بهدف تحقيق الأمن القومي العربي والتكامل في تكتّل، لو قام، سيكون من أكبر تكتّلات العالم الحديث، في سبيل تحرير الأرض والإنسان.

* أكاديمية سورية