إذا كانت الحرب على سوريا قد أشعلت الحرب الباردة وأيقظت روسيا من سباتها العميق، فإن الحرب بينها وبين النظام الأوكراني وكالة عن الحلف الأطلسي، أعادت ما بات يسمى بـ«الجنوب الجماعي» إلى الواجهة حوالي سبعين عاماً بعد مؤتمر آسيا وأفريقيا المعروف بـ«مؤتمر باندونغ»، الذي عُقد في عاصمة مقاطعة جاوة الغربية في إندونيسيا ما بين 18 و25 نيسان 1955.انعقاد هذا المؤتمر بحد ذاته، عشر سنوات فقط بعد مؤتمر يالطا الذي قُسّم فيه النفوذ في العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كان حدثاً مزلزلاً في العلاقات الدولية. الولايات المتحدة والدول الغربية التي تسير في فلكها حاربته بقوة، ورأت فيه حصان طروادة للشيوعية العالمية قبل أن تسعى فيما بعد إلى نسفه من الداخل. أمّا الاتحاد السوفياتي، فنظر إليه بنوع من الارتياب قبل أن يغير سياسته الستالينية بعد عام 1956، ويعتبر أن الدول النامية وحركات التحرر الوطني هي حليفة موضوعية له في الصراع العالمي ضد بقايا الاستعمار والإمبريالية.
عناصر القوة في هذا التكتل الجديد في العلاقات الدولية هي أنه مثّل آنذاك أكثر من نصف سكان العالم، وضم دولاً متنوعة الاتجاهات أجمعت على قاسم مشترك هو رفض الهيمنة الخارجية بكل أشكالها وتصفية الاستعمار القديم. ولكن هذا التنوع تحول لاحقاً إلى نقطة ضعف مزّق صفوفها وشلّ دورها ولم يمنع وقوع حروب ضارية بين بعض الدول المؤسسة، مثل الحربين بين الهند وباكستان، أو مثل تحول إندونيسيا، الدولة المضيفة للمؤتمر، نحو المعسكر الغربي. وقد تم ذلك عقب انقلاب دبّرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 1967 أوصلت محمد سوهارتو، قائد الجيش، إلى سدة الحكم ففرض الإقامة الجبرية على أحمد سوكارنو، البطل القومي الذي قاد إندونيسيا نحو الاستقلال وكان لولب مؤتمر باندونغ. وأعقب ذلك ارتكاب مجازر جماعية بشعة خلّفت حوالي المليون قتيل معظمهم من الإندونيسيين الشيوعيين المتحدرين من أصول صينية.
ولم تكن الحالة الإندونيسية منعزلة عن الاستراتيجية الأميركية العامة آنذاك القائمة على نسف حركة عدم الانحياز التي انبثقت عن مؤتمر باندونغ وتدبير الانقلابات ضد كل الدول المتمسكة بسيادتها في العالم.
في المقابل، انتهج الاتحاد السوفياتي، كما يقول سمير أمين في كتابه «صحوة الجنوب»، استراتيجية «التعايش السلمي وتخفيف التوجهات العدوانية للولايات المتحدة وحلفائها التابعين في أوروبا واليابان»، وطلب من الأحزاب الشيوعية السائرة في فلكه أن «تهدئ من حماسها، وأن تمتنع عن التدخل في شؤون المستعمرات التي كانت القوى الإمبريالية تعتبرها من شؤونها الداخلية. بل إنّ حركات التحرر أيامها، بما فيها الثورة الصينية، لم تحظ إلا بتأييد محدود من الاتحاد السوفياتي، وفرضت نفسها بجهودها الذاتية. وفرض نجاح هذه الحركات، وبالدرجة الأولى بالطبع انتصار الثورة الصينية، تغيّراً في علاقات القوى الدولية».
ولم تقدّر موسكو، كما يقول سمير أمين، هذه التغييرات حقّ قدرها إلا بعد باندونغ، حيث أدّت مساعداتها للبلدان التي تناضل ضد الإمبريالية إلى كسر طوق العزلة حولها، وإلى تحولها إلى لاعب رئيسي في الشؤون العالمية. وهكذا يمكن القول من دون مبالغة، إنّ التحول الرئيسي في النظام العالمي قد جرى بفضل هذه «الصحوة الأولى للجنوب».
بعد سبعة عقود، لا تزال هذه المبادئ حيّة وتُلهم جميع الدول والقوى الرافضة للهيمنة الغربية التي تعاني منها اليوم غالبية دول العالم


وللتذكير، فإن مؤتمر باندونغ، أو «مؤتمر آسيا-أفريقيا»، الذي غابت عنه أميركا اللاتينية بينما حضرته يوغوسلافيا، كان أوّل تجمع لدول العالم الثالث التي كانت قد استقلت حديثاً في منتصف القرن العشرين، وشاركت فيه 29 دولة من أفريقيا وآسيا لمناقشة موضوع السلام، ودور دول العالم الثالث في الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي وعدم الاصطفاف مع أي منهما، إضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدان الأفريقية والآسيوية، وتصفية الاستعمار. وكان نواةً لحركة عدم الانحياز التي تأسست بعد 6 سنوات، وذلك خلال مؤتمر القمة الأول، الذي عُقد في العاصمة اليوغوسلافية بلغراد خلال الفترة الممتدة ما بين 1 و6 أيلول عام 1961.
كانت الدول المنظمة هي إندونيسيا وبورما والهند وباكستان وسيلان، أمّا الدول المدعوة فكانت أفغانستان وكمبوديا والصين ومصر وإثيوبيا وساحل الذهب (غانا حالياً) وإيران والعراق واليابان، وكذلك الأردن ولاوس ولبنان وليبيريا وليبيا ونيبال والفليبين، وأيضاً المملكة العربية السعودية والسودان، وسوريا وتايلند، إضافة إلى تركيا وجمهورية فيتنام الديموقراطية وجمهورية فيتنام الجنوبية واليمن. واستبعدت إسرائيل والكوريتان، بينما حضرت العديد من حركات التحرر وعلى رأسها جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
وقد تداول المؤتمرون لمدة 5 أيام قضايا متعددة كالسيادة الوطنية والعنصرية والقومية والنضال ضد الاستعمار والسلام العالمي والتعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدان المشاركة.
ومن المهم هنا التذكير أيضاً بالمبادئ الأساسية التي تبناها المؤتمر وهي، علاوة على تصفية الاستعمار:
1-احترام حقوق الإنسان الأساسية ومقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
2-احترام سيادة جميع الدول وسلامتها الإقليمية.
3-الاعتراف بالمساواة بين جميع الأعراق والمساواة بين جميع الأمم كبيرها وصغيرها.
4-الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لبلد آخر.
5-احترام حق كل أمة في الدفاع عن نفسها منفردة أو جماعية، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.
6-(أ) الامتناع عن استخدام ترتيبات الدفاع الجماعي لخدمة المصالح الخاصة لأي من القوى الكبرى.
7-(ب) يمنع على أي بلد ممارسة الضغوط على بلدان أخرى.
8-الامتناع عن أعمال العدوان أو التهديد باستخدامه أو استعماله ضد السلامة الإقليمية أو السياسية لأي بلد.
9-تسوية جميع المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، مثل التفاوض والتوافق والتحكيم والتسوية القضائية والوسائل السلمية الأخرى التي يختارها الطرفان، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.
10-تعزيز المصالح المتبادلة للدول والتعاون فيما بينها.
11-احترام العدالة والالتزامات الدولية.
بعد سبعة عقود، لا تزال هذه المبادئ حيّة وتلهم جميع الدول والقوى الرافضة للهيمنة الغربية التي تعاني منها اليوم غالبية دول العالم. وقد طوّرت هذه الهيمنة، بعد انهيار القطبية الثنائية، عام 1991، وحلول الأحادية القطبية الأميركية محلها، أدوات تدخل مالية واقتصادية وإعلامية جديدة أكثر استعباداً وفعالية وبربرية من الاستعمار المباشر القديم مثل العقوبات الأحادية، والحصار، والتدخل العسكري، وتنظيم الثورات الملونة...
التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا لمنع تمادي تمدد الحلف الأطلسي على حدودها، وما سبق ذلك من بيانات صينية-روسية، وتكتلات سياسية مثل «البريكس» و«منظمة شانغهاي» و«الاتحاد الأوراسي»، واصطفافات وتحالفات جديدة صادمة فاجأت الغرب الأطلسي الذي بات يدرك أنه دخل مرحلة الأفول وأنه لم يعد الآمر الناهي. ما نشهده الآن من تحولات هو، بشكل من الأشكال، انبعاث لروح باندونغ ومبادئه من أجل ولادة جديدة صعبة وأليمة لنظام دولي جديد قادم لا محالة.

* رئيس تحرير مجلة «2A magazine»