لعلّ المدخل الأمثل إلى إعادة قراءة تجربة الانتفاضات العربية منذ ٢٠١١ وفحص عوامل فشلها هو تتبّع ودراسة تفاعلات المقولة النظرية التي اكتسحت الفضاء الاحتجاجي العربي ودار عليها سجال المتحمسين ومعارضيهم: «الانتقال الديموقراطي». فتمركز الخطاب حول الوعد السياسي هذا كاشفٌ عن استقالة المنظرين العرب من مهمّة اجتراح النظرية استخلاصاً من خصائص حقل الواقع أو مراعاة لخصوصياته، لذا، سلك كثيرون الطريق السهلة وهي تلقّف مفاهيم وأدوات «التغيير» عند الغرب، الموضوعة خصيصاً لتوسيع هيمنته أواخر الحرب الباردة وما بعدها.فضلاً عن عطب الخطاب الليبرالي العربي هذا، من وجه اعتباطية اللحاق بالمفاهيم والآليات السياسية للغرب وتجاهل تاريخيّتها، فإنّ جوهر إشكالية الخيار إيّاه تتمثّل في تجاهله النقاش الكلاسيكي حول النظرية والممارسة. من هنا نراه يصبّ جهده على البحث عن ارهاصات حلم التغيير عربياً متنكّباً عن «الجماهير» و«الميدان» محاولاً، مثلاً، إعادة الاعتبار لما يفترضه «حركة تنوير» عربية عادت تستعيد نشاطها منذ التسعينيات صعوداً حتى عشية الانفجار في ٢٠١١.
المسألة في عمقها، إذاً، في الاعتناق لواقع وموجبات الهيمنة. إلا أن التسليم الأمين هذا بالهيمنة ولها، كان يعوزه الإبداع، فهو بدا بليداً حد انحداره إلى تقمّص مقتضيات مقولة «نهاية التاريخ» وتقلّد أيديولوجيتها، كما يتجلّى في الخطاب وفي حال وأحوال طبقات الليبراليين العرب: «الناشط»، «المثقف»، وما بينهما.
هذا ما يستدعي إلى التداول، عند كل مناسبة، مصفوفات معجم الديموقراطيات الليبرالية كمسلمات من دون مساءلة، كقيم قائمة بذاتها، ويكون الاستدعاء في عملية اشتباك مدّعاة مع «السلطات» و«البنى السلطوية» والحال أنّ مختصر الخبر أنّ في الأمر تبنّياً لما هو سائد ومهيمن وأقل كلفة وأوسع سلطة، لا تمرّداً موهوماً كما يقول العنوان/الشعار.
أين بالإمكان -إذاً- القبض على المعنى والجدوى في الفعل السياسي خارج مربع الرغبة، أو النقد التنويري من لدن النخب البرجوازية، أو موقع الليبرالي المتوسّل اليوم للنضال في ركاب «الناشط العالمي» وتحت راية أولوياته ومعجمه؟ لا يبدو أن ثمّة بعد إجابة أكثر بلاغة من مقولة كارل ماركس الشهيرة: «حتى الآن، قام الفلاسفة بتفسير العالم بطرق مختلفة، بينما الهدف هو تغييره». الفكرة الأهم وراء الدعوة الدائمة من الثوريين الجذريين إلى إعادة الاعتبار للممارسة، أو «البراكسيس»، كما فعل غرامشي على هدي مقولة ماركس أعلاه، هو في التبصّر في هذه الممارسة: من أين يبدأ الفعل السياسي لينتج معنىً ويولّد جدوى؟
يرى جيل دولوز، وفق ما يشرح آلان باديو مستكشفاً «السياسة» في فكر الأوّل، أنه «إذا لم تكن السياسة شيئاً آخر سوى الإدارة التنفيذية للقضايا، وحكم المدينة، فهي، إذاً، من التاريخ، وتكون جزءاً من التاريخ»، وتلك إشارة إلى اشتراط دولوز «خلق الجديد» على الفعل السياسي ضمن التفريق بين ما هو «صيرورة» وما هو «تاريخ» فحسب: حيث يظهر الفعل خالقاً الجديد، مداهماً «التاريخ» (أو «الصيرورة المحضة»)، قاطعاً معه، رافضاً لـ«السائد»، يكون الفعل السياسي.
حين «ينتهي التاريخ» مطلع التسعينيات ويتوّج «نهايته» بهيمنة خيار أوسلو التصفوي، وحين، من ثم، يجتمع «العالم» (وعالمية «العالم»، كما لاحظ أنور عبد الملك، اختراع استعماري) في شرم الشيخ ويقرر تصفية حركات المقاومة الثلاث: حماس والجهاد وحزب الله، يكون «السياسي» الفعلي، وربما الحقيقي الوحيد، هو التمرّد العملي والسير عكس السائد المهيمن.
إذا كانت البيئة الإقليمية الدولية اليوم، بفعل التحولات، مواتية للمقاومة أكثر من أي وقت مضى، فالجدارة في فعلها، بعد أصالتها، أنها تتابع مراكمة تصاعد بدأته في عقد التسعينيات ذاك، يوم بدا تحدّي السائد المهيمن لدى كثيرين أقرب إلى العبثي. هذا ما يسعفنا للعثور على فهم للجدوى والمعنى من تضحيات مقاومين كخضر عدنان وطارق عز الدين ورفاقهما، ومن كل طلقة تناطح التفوق التكنولوجي للاحتلال وموقعه من «العالم»، وفي إجابات عن أسئلة: ماذا يعني «الفعل» أو «الحدث» على أرض فلسطين، أو بالأحرى ماذا يعني «الموت» في سياق مقاومة كهذه.

* من أسرة «الأخبار»