ما أذكره عن الحكومات اللبنانية التي تولت المسؤولية منذ ستينيات القرن الماضي، أنها كانت حكومات مأزومة أو عاجزة عن تحقيق الأهداف التي كانت ترسمها لنفسها، كما للرأي العام. وأذكر أيضاً أن ما من وزير في الحكومة، ومن بينهم رئيس مجلس الوزراء، إلا وكان يشكو، سرّاً أو علانية، من وجود «سلطة خفية» في الدولة والمجتمع تتدخل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لإحباط مشروع ما، أو فرض إجراء ما من وراء ظهر الحكومة، أو أحياناً بموافقة رئيسها وبعض المواقع فيها. على هذا النحو، أفشل كبار التجار خطوة الدكتور إميل بيطار، وزير الصحة في حكومة الرئيس صائب سلام عام 1970، التي هدفت إلى تخفيض أسعار الدواء وكسر احتكاره.هكذا أفشل كبار التجار أيضاً مبادرة د. إلياس سابا، وزير الاقتصاد الوطني، في الحكومة نفسها، لكبح الإنفاق وفرض رسوم على بعض المستوردات، وخاصة الكماليات منها. وهكذا أيضاً أفشلت الحكومة الخاضعة لسلطة كبار التجار ورجال الأعمال محاولة الوزير جورج افرام عام 1993 لإصلاح مؤسسة كهرباء لبنان وتحسين أدائها، بانتظار توفر الأموال لتطويرها كلياً في وقت لم يكن يملك فيه لبنان القدرة المالية على بناء المعامل المطلوبة إلا بالاستدانة.
وإذا دققنا في معظم الخطوات الإصلاحية التي تم القضاء عليها قبل أن تبرعم وتزهر، لوجدنا إنها تندرج في السياق نفسه، حيث إن الطبقة المهيمنة على القرارات - والمؤلفة من كبار التجار وكبار المصرفيين وكبار رجال الأعمال – كانت على الدوام ترفض أي تغيير، أو حتى تعديل، في التوجهات الاقتصادية العامة أو القطاعية، إلا إذا أتى من طرفها ومعبّراً عن نظرتها الليبرالية المتفلتة التي ترى مصلحة المجتمع مؤمنة ما دامت هي صاحبة القرار وإليها تنساب الأرباح.
وعندما كانت هذه الطبقة تُواجه بمقترح تغييري، تعتبره خطراً على مصالحها، كانت تتصدى له بشراسة حتى لو كان صادراً عن البيئة نفسها أو عن النظرية الاقتصادية نفسها التي تدّعي «عصمتها»، مدعية أنه لا يلبي مصلحة البلاد ولا ينسجم مع مرتكزات وديناميات الاقتصاد الوطني، مدركة في قرارة نفسها أنها تدافع عن الواقع القائم الذي يؤمن لها الأرباح والنفوذ والامتيازات. ولم تكن هذه المجموعة الحاكمة تدع فرصة تمرّ إلا وتمدح فيها النظام الاقتصادي الحر وتعزو إليه ازدهار لبنان وتميّزه. لكن هذه المجموعة نفسها سرعان ما كانت تتخلى عن نظرتها الليبرالية البدائية حينما كانت ترى حاجة لحماية مصالحها عبر إجراءات وتدخلات حكومية لا تتفق وحركة السوق وإبداعات «اليد الخفية».
ومن المسكوت عليه أن الاحتكارات القائمة تحت عناوين مختلفة اليوم، كما بالأمس، تسيطر على معظم الأسواق، ولا سيما الاسمنت، الطيران، الدواء، الغذاء، الوكالات الحصرية، التبغ، النفط والغاز، الاتصالات، المصارف، إلخ. وهذه السيطرة تعني التحكم بالأسعار والأرباح من دون العودة إلى السوق وعوامل العرض والطلب. وهذا الواقع الذي يشكل ضغوطاً هائلة على المواطن كما على الاقتصاد الوطني يدرّ أرباحاً غير منطقية وغير مبررة للمحتكرين الذين يبدّلون معتقداتهم الاقتصادية كلما دعت مصالحهم إلى ذلك.
إلى ذلك، فإن الذين ينادون بالشفافية والمحاسبة في المنتديات والمؤتمرات نجدهم في واقع الأمر أكثر الناس تهرباً من الالتزام بهذه المعايير والتدابير تحت ستار السرية المصرفية أو سواها من القوانين الملتبسة التي صيغت بتوجيهاتهم وتدخلاتهم مع السلطة التشريعية. وتنجو هذه المجموعة بممارساتها الملتوية كلّما هبّت التطورات الاقتصادية لمصلحتها، فتستفيد من تدفقات الرساميل، كما من التطورات السياسية المحيطة بنا، مثلما حدث بعد نكبة فلسطين وتحوّل خطوط التجارة والنفط والطيران الى لبنان الذي استفاد كثيراً من ذلك، كما من خبرات وأموال الفلسطينيين الذين هُجّروا من بلادهم بقوة السلاح الصهيوني، أو من خبرات وأموال السوريين الذين نزحوا إلى لبنان بعد التحولات السياسية التي شهدتها بلادهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
وبينما كانت هذه المجموعة تعارض أيّ تحوّل بنيوي في الاقتصاد اللبناني لدعم مرتكزاته وتثبيت مقوماته وتقوية قطاعاته الإنتاجية، كانت تهلّل للاقتصاد الريعي الذي أمّن لها الأرباح الطائلة، كما أمّن لها الفتات توزّعه على الطبقات الأخرى محاولةً احتواء أجواء الاحتقان الاجتماعي المنتشرة في البلاد، وخاصة في الأرياف وضواحي المدن. غير أن محاولات الاستيعاب تلك لم يحالفها النجاح بسبب جشع المجموعة نفسها التي كانت على الدوام ترفض التخلي عن نهجها الاستغلالي الاحتكاري ولو كان الثمن مزيداً من الأزمات الدورية للاقتصاد اللبناني ومزيداً من الإفقار والهجرة للبنانيين.
صحيح أن العامل الخارجي (دولياً وعربياً)، إضافة إلى الوجود الفلسطيني في لبنان، ساهما في تزخيم وتعقيد الأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد، إلا أنه يصح القول أيضاً إن لبنان، بسبب النهج المتخلف للحكم وقصور المنظومة الحاكمة، لم يتمكن من تحييد أو تخفيف أثر هذه العوامل على أوضاعه وتوازناته الداخلية، بل اندفع عبر العديد من مؤسساته السياسية المتخاصمة إلى محاولة الاستفادة من تلك العوامل وتوظيفها لمصلحته، غير عابئ بالنتائج المترتبة عن ذلك النهج الذي أفاد قيادات ودوائر وألحق أضراراً جسيمة في البلاد تعذّر تعويضها رغم الوعود الداخلية والخارجية.
ورغم التجارب المريرة التي خاضها لبنان، وشكلت عبرة يستفاد منها للتطلع إلى الأمام بسياسات حكيمة متوازنة، استمرت الجماعات الحاكمة في غيّها وعنادها ورفضها لأيّ إجراءات إصلاحية تحدّ من الاحتكارات والامتيازات التي «وهبتها» لنفسها على حساب البلاد وأهلها. وكانت هذه الجماعات في قراراتها العلنية أو المستترة تغدق الأموال والمنافع على أفرادها وجمعياتها وإن أخطأوا أو انحرفوا، وتفرض بالمقابل سيف الحرمان على الجماهير ومؤسساتها، سواء استحقت أو أصيبت بأضرار. وأبلغ مثل على ذلك ما حدث في عملية دمج المصارف والهندسات المالية حيث كوفئ المسؤولون عن الخسائر والاختلالات المصرفية بمئات ملايين الدولارات، بينما حرمت تعاونيات ونقابات من بضعة ملايين استحقوها لخلل وفساد في إدارة رسمية أساءت الأداء وأخفت المعلومات.
وإلى جانب الحروب التي كان الكيان الصهيوني يشنّها بلا هوادة على لبنان، وإلى جانب الانقسامات والصراعات الداخلية وما جلبته من ويلات على البلاد واقتصادها، كانت الإنذارات تتوالى مفصحة عن مخاطر وكوارث تتهدد البلاد فيما لو لم تُتخذ إجراءات جذرية لمعالجة الخلل البنيوي والممارسات الخاطئة في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية.
تنجو هذه المجموعة بممارساتها الملتوية كلما هبّت التطورات الاقتصادية لمصلحتها، فتستفيد من تدفقات الرساميل، كما من التطورات السياسية المحيطة بنا


لكن تلك الإنذارات التي تم التنبيه لها من قبل العديد من المطّلعين الموضوعيين لم تلق آذاناً صاغية من الجماعات الحاكمة، وإنما جوبهت بالرفض والتعنّت والاستهتار، لأن هذه الجماعات لم تكن راغبة، أو بالأحرى لم تكن قادرة، على اتخاذ إجراءات إصلاحية أو بناء احتياطات نستخدمها وقت الحاجة، على اعتبار أن ذلك يؤثر على سطوتها وسمعتها ويمسّ بأرباحها. فآثرت الإنكار والاستمرار في نهجها الأناني، معتمدة في بلاطها على «اليد الخفية» المدعومة والتطورات السياسية المؤاتية لحل المشاكل الكبرى التي كانت تتعقد وتتفاعل مع مرور الوقت، وفي مقدمها الاختلالات التي بدأت تظهر بقوة على السطح كالعجز في ميزان المدفوعات الذي أطل في عام 2011 وتابع صعوده حتى الانفجار الأول في 17 تشرين الأول عام 2019، باستثناء سنة 2016 التي تذرع بها حاكم البنك المركزي السيد رياض سلامة لتأكيد سلامة الأوضاع المالية والنقدية، فيما كانت تلك السنة، ولأسباب عارضة، الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
وإلى جانب الاختلال المتعاظم في ميزان المدفوعات الذي أشّر بوضوح إلى تناقص خطير في تدفق الرساميل إلى لبنان، بالتزامن مع ازدياد مطّرد في حجم الدين العام وارتفاع في سعر الفائدة، كانت عجوزات الموازنة العامة قد بلغت مستوى لا سابق له، فيما كانت المصارف تعاني أزمة مستفحلة تعالج بالإنكار وخداع المودعين ورفع الفوائد – المرتفعة أصلاً – وانتظار العون من البنك المركزي. أمّا هذا البنك، فكان، بدوره، يشكو من تفاقم الأزمات التي شارك في صنعها من خلال الإذعان للطبقة السياسية وإسرافها في الإنفاق، أو من خلال سياسة تثبيت سعر القطع التي اعتمدها متغنّياً بفوائدها، أو من خلال الهندسات المالية التي اضطرّ إلى تعميمها على كل البنوك بعدما كان الأمر مقتصراً على بنوك من الفئة الأولى، حيث نال كل منها ما يقارب المليار دولار لسداد ديون تكبدها في الخارج بسبب استثمارات خاسرة اعتمدها البنك، أو أحد أصحابه المغامرين، مستخدماً أموال المودع اللبناني.
والحق يقال إن حاكم البنك المركزي كان «كريماً» للغاية مع هذه المصارف، وخاصة بنك عوده، بنك البحر المتوسط، بلوم بنك، كما كان «كريماً» مع أركان الطبقة السياسية ووجوه دينية وإعلامية أغدق عليها قروضاً ميسّرة وتسهيلات لا يستطيع الإفصاح عنها لضخامتها وافتقارها إلى التغطية القانونية اللازمة. شأنها شأن حسابات البنك المركزي التي طالما طلبتها الحكومة اللبنانية ومعها شركة «الفاريز إند مارسال» المكلفة بالتحقيق الجنائي لحسابات البنك المركزي، من دون أن ننسى بالطبع صندوق النقد الدولي الذي طالب مراراً وتكراراً بهذه الحسابات كي يبنى عليها الكثير من المواقف والسياسات. وحتى اليوم، أي بعد مرور 16 شهراً على موعد تسليم التقرير من جانب الشركة المكلفة، فإنها لم تتمكن من ذلك بسبب مماطلة البنك المركزي وامتناعه العملي عن التعاون، ما أثار ويثير الكثير من التساؤلات المشروعة حول صدقية الحاكم.
إنّ الكارثة الاقتصادية - الاجتماعية التي تفتك بلبنان اليوم وتضطر العديد من اللبنانيين إلى الاستغناء عن الدواء، أو الاكتفاء بوجبة واحدة، أو الهجرة، لم تأت من فراغ، وإنما أتت من طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني القائم على الريع والاحتكارات والامتيازات، كما من جشع المنظومة الحاكمة التي تستخدم نفوذها حتى اللحظة لمراكمة أرباح أسطورية غير مشروعة تقتطعها قهراً وزوراً من مدّخرات اللبنانيين ومداخيلهم، كما من أموال الدولة وثرواتها وأصولها.
والأدهى أن ذلك يجري بتواطؤ بين الأطراف الثلاثة (المنظومة السياسية، الجماعة المصرفية وحاكم البنك المركزي) التي ترفض توزيع الخسائر في ما بينها بشكل عادل ومتوازن، وتناهض أي خطة للتعافي الاقتصادي تعيد النظر بالكثير من بديهيات الاقتصاد اللبناني، ولا سيما دور المصارف والقطاع العام ودعم القطاعات المنتجة.
إنّ هذه الأطراف الثلاثة تتمادى اليوم في غيّها وتعمد إلى التخلص من ديونها الضخمة من خلال طبع العملة ورفع مستوى الرسوم والضرائب وإلغاء الدعم، ما يمزّق العائلة اللبنانية ويفاقم من حركة الهجرة ويضرب في الصميم أي محاولة لإنقاذ الاقتصاد في المرحلة الحالية.
وإذ ترفض هذه المجموعة إعادة الأموال التي سلبتها من الدولة والمودعين، متمسكة بأفكارها المتحجرة وعاداتها المتفلتة، فإنها تضع البلاد أمام منعطف خطير، ولا سيما أن كل ذلك يجري بالتزامن مع أزمة سياسية بالغة الخطورة على حاضر البلاد ومستقبلها، ويتجلّى ذلك كله بالوقائع الآتية:
أولاً: تعطيل السلطة التنفيذية (شغور الرئاسة، شلل الحكومة)، ما يساعد المجموعة على تأجيل الاستحقاقات المالية وتجنّب اتخاذ قرارات حيوية للنهوض بالاقتصاد، على اعتبار أن أيّ قرارات ناجعة تتطلب محاسبة اللصوص والفاسدين ووقف السطو على المال العام والخاص، مثلما تتطلّب زيادة رساميل المصارف «الناجية» واستعادة الأموال المنهوبة والمحوّلة إلى الخارج بصورة غير قانونية.
ثانياً: الإمعان في شل القضاء والسعي إلى إلغاء صلاحياته حيال المصارف التي يطالب العديد منها بوقف عجلة العدالة وتجميد القوانين والدستور بقرارات إدارية أو تعميمات صادرة عن حاكم البنك المركزي.
ثالثاً: ضرب فعالية مجلس النواب وتقليص رقابته على المؤسسات وحمله على إصدار قوانين ملتبسة مغايرة للنهج الإصلاحي الذي يحدّ من هيمنة الرأسمال الاحتكاري.
رابعاً: التسبب بشلل الإدارات والمؤسسات الحكومية التي تعاني من تدنّي الاعتمادات المالية وهجرة الموظفين والإضرابات العائدة للتضخم المالي وارتفاع الأسعار وانخفاض الرواتب وعدم القدرة على دفع تكاليف الغذاء والدواء والمدارس والمواصلات.
خامساً: تضليل المواطنين والسعي إلى إرباكهم وإفقارهم عبر المنصات المختلفة وتعدد أسعار الصرف وبث المعلومات المتناقضة وتزييف الحقائق، ما يؤثر على قدرتهم على التنظيم والتخطيط والمبادرة إلى دكّ حصون الاحتكار والهدر والفساد.
وهنا لا بد من التوقف أمام تصريح مهم جداً لرئيس بعثة صندوق النقد الدولي الذي أكد أمام الإعلام في بيروت بتاريخ 24/ آذار/ 2023 أن «لبنان في وضع خطير للغاية... ومن دون إصلاحات سريعة سيكون غارقاً في أزمة لا تنتهي أبداً». ومعنى ذلك أن السلطات الغاشمة لم تبادر خلال السنوات الثلاث الماضية إلى أي خطوة إيجابية لرأب الصدع المتعاظم، وإنما توغلت في استهتارها وإهمالها لتثبت عجزها عن سلوك طريق الحل أو عدم رغبتها في ذلك.
وفي كلا الحالين، يجد الشعب اللبناني نفسه أمام خيارين: إمّا انتظار الموت البطيء الزاحف إلى كل بيت أو تصحيح الأمور بيده عبر كل الوسائل الديموقراطية المتاحة، بعيداً عن أي تدخل خارجي منحاز أو منزلق طائفي قاتل.
وفي الختام، لا بد من الاعتراف بأن كل السياسيين الذين شاركوا في المسؤولية الحكومية أو النيابية خلال العقود الماضية، وأنا منهم، يتحمّلون مسؤولية الأوضاع الكارثية التي نعيشها وإن بدرجات متفاوتة، حيث قام العديد من هؤلاء بنقد الممارسات المتّبعة أو الإجراءات المتخذة ومعارضتها، من دون أن يتمكنوا من تغيير المسيرة الليبرالية المتوحشة التي كانت تحوز موافقة الأكثرية المنبثقة من قانون انتخابي متخلّف يعزز المذهبية ويعيد إنتاج النظام.
وكانت تلك المعارضة بارزة في المجلس النيابي، وإن كانت محدودة. كما أنها كانت موجودة دائماً في مجلس الوزراء، وإن حُبست في أروقته بمساعدة الإعلام الذي توزع بمعظمه على مكونات السلطة نفسها.
ولقد اكتشفت خلال مسيرتي السياسية، المليئة بالنكسات والعثرات كما بالأخطاء والنجاحات، أن أفضل ما يمكن أن يقوم به السياسي الملتزم هو المساهمة في كشف الحقائق ومحاربة التضليل الذي تمارسه الفئات الحاكمة بالاعتماد على سلطتها ومالها وأبواقها، فمعرفة الحقيقة والالتزام بها هما الخطوة الأولى على طريق التغيير والإصلاح.

* كاتب ووزير سابق