في ما يتعلق، أولاً، بـ«الجمعنة» كمفردة، ليس المقصود بها غير ما يُقصد عادةً بعبارة «التنشئة الاجتماعية». ولكننا نؤثر استعمالها على استعمال هذه الأخيرة، لسببين: الأوّل أنها مختصرة، إذ قوامها كلمة واحدة بدلاً من عبارة مؤلفة من نعت ومنعوت؛ والثاني أنها، في الواقع، أكثر تجانساً مع الأصل الفرنسي، المتمثل بمفردة socialisation. وكلمة «جمعنة»، في الأساس، مشتقة من فعل «جَمَعَ»، باعتباره الجذر الذي منه كان اشتقاق كلمات المجتمع والاجتماع والاجتماعي، وما إليها جميعاً من مفردات العائلة نفسها. وقد تم نحتها على وزن «فَعلَنَة»، عملاً بقاعدة اشتقاقية لتعريب المفردات الفرنسية والإنكليزية سبق لصاحب المحاولة الحاضرة أن اعتمدها وشرح أصولها في مقدمته لتعريب وضعه لكتاب غاستون بشلار، العقلانية التطبيقية (Le rationalisme appliqué).أمّا في ما يتعلق بالجمعنة كمفهوم، فالمقصود بها هو ما يسمّيه عالم الاجتماع الفرنسي برنار لاهير، في تعريفين يطرحهما في موسوعة أونيفرسالس، كمتعادلين: إمّا «الحركة التي بواسطتها يقولب المجتمع الأفراد الذين يعيشون في داخله»، وإمّا «السيرورة التي بواسطتها يتم تحويل كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي خاص بمجتمع محدد». ذلك أن الأطفال، في كل مكان، يولدون متشابهين من حيث التكوين البيولوجي، بقطع النظر عن العرق واللون، وما إليهما من سمات مادية سطحية قد يتّسمون بها. لكنهم لا يلبثون أن يتمايزوا من مجتمع إلى آخر، بحيث يكتسب كل منهم خصائص ثقافة المجتمع الذي هو فيه، من قِيَم ومعتقدات وأنماط تفكير وشعور وتصرف، ويصبح بالنتيجة جزءاً لا ينجزئ من هذا الأخير. فمن أين، بالتالي، يأتيهم هذا التمايز؟
إنّ هذا تحديداً ما يوضحه تعريفا برنار لاهير: من سيرورة الجمعنة. فسيرورة الجمعنة هي في حقيقتها سيرورة تربوية مؤداها أن تقولب الفرد، بل بالأصح أن تقولب شخصيته، أي تزرع فيها قيم المجتمع المعني ومعتقداته وأنماط التفكير والشعور والتصرف الخاصة به، ليصبح، باستبطانه هذه العناصر، عضواً من أعضائه، مندمجاً فيه.
وغنيّ عن البيان أن لسيرورة الجمعنة هذه وسائط اجتماعية (agents sociaux) محددة تنهض بها؛ وفي طليعة هذه الوسائط العائلة، التي فيها ينشأ الطفل ويترعرع، ومعها المدرسة ووسائل الإعلام، ومجموعة الأتراب وحلقة الأقرباء والجيران، فضلاً عن الأندية والنقابات والتنظيمات المهنية، والأحزاب السياسية، والحركات الاجتماعية، والجماعات والمؤسسات الدينية، وحتى الدولة كدولة، بالنظر إلى ما تؤدّيه جميعاً من أدوار ناظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وما ترعى تطبيقه من قواعد وقوانين في المجتمع.
ولكن، من بين هذه الوسائط جميعاً، تبقى العائلة الواسطة الأكثر، على الإطلاق، حضوراً في حياة الفرد. وهي التي تبدأ رحلة جمعنتها له لحظةَ ولادته، ولا تكفّ عن متابعتها إلى ما بعد تخطّيه مرحلتَي الطفولة والمراهقة وبلوغه سن الرشد، وحتى ما بعدها جميعاً. لا بل ربما كان دور العائلة هذا فريداً في أهميّته وعمق تأثيره على الفرد، بالنظر إلى شموله، عادة بلا منافس له، كامل الحقبة التي يسمّيها علماء الاجتماع حقبة الجمعنة «الأولية». عنينا بها الحقبة الممتدة من لحظة الولادة إلى حدود السنة الثالثة من العمر، التي حينها تبدأ حقبة الجمعنة «الثانوية»، مع دخول وسائط أخرى للجمعنة على خط المنافسة أو التكامل - حسب المجتمعات، وفي داخل المجتمعات، حسب البيئات على اختلافها - مع العائلة، تأتي في عدادها خصوصاً المدرسة، ومجموعة الأتراب، فضلاً عن سائر الوسائط التي أتينا على ذكرها في الحلقات السابقة، والتي، للمناسبة، يندرج في عدادها مجمل المؤسسات والأجهزة التي رأينا الطوائف تتزوّد بها لتحقيق ما تتطلّع إليه، كلاً لنفسها، من تشكّل كمتحد عضوي.
فعلام بالتالي ينطوي دور العائلة الفريد هذا؟ بل، بكلام أوضح، من هي، بدايةً، العائلة بالنسبة إلى الفرد الذي ينشأ ويترعرع في كنفها؟ وما الذي تمثّله له، في تلك الحقبة المبكرة من حياته؟

العائلة ودورها في جمعنة الفرد
إنّ العائلة للفرد آنذاك، بكل بساطة، العالم (أو المجتمع، لا فرق) بكليته، بجميع الانقسامات الأفقية والعمودية التي تخترقه، وبجميع عناصر ثقافته، بقيمه ومعاييره، بمحلّلاته ومحرّماته، بقواعد بنائه وأنماط سلوكه المعيارية، فضلاً عن تناقضاته، وذلك، طبعاً، بصورة مصغرة. ذلك أنها هي، بحد ذاتها، في الأساس تنتمي إلى بلد معين، وفي الوقت نفسه، إلى واحدة أو أكثر من الجماعات العرقية أو الإتنية أو اللغوية أو الدينية أو المذهبية أو القبلية، إلخ، التي قد تكون مشتملة عليها بنية البلد السكانية والمجتمعية، كما إلى هذه الطبقة أو تلك من الطبقات الاجتماعية المتشكّلة داخل هذه البنية، فضلاً عن كونها إمّا ريفية وإمّا مدينية التموضع، وكونها إمّا متعلمة وإمّا أميّة، وإمّا من هذه الفئة المهنية وإمّا من تلك، إلخ. ناهيك بأن الزوجين اللذين هما في أساسها قد يكونان في المنشأ على اختلاف ما بينهما في واحد أو أكثر من الأبعاد المذكورة.
وهي، إلى ذلك، إذ تمدّ ولدها عادةً بالدعم العاطفي، وتعلّمه كيف يدير أحاسيسه وانفعالاته، إنما تجهد أيضاً في تعليمه قواعد الحياة اليومية، أي كيف يتغذّى، وكيف يكتسي، وكيف يحافظ على نظافته، ويتجنب المخاطر التي قد تؤذي سلامته أو صحته، إلخ. وهي تعلّمه أيضاً الانقسامات الاجتماعية، الطبقية منها والفئوية القائمة من حوله على أنواعها، العرقية والإتنية واللغوية والدينية والمذهبية والمناطقية، وما إليها، وتلقّنه أيضاً وأيضاً مفاهيم الذكورة والأنوثة، والأبوّة والبنوّة والأخوّة، والقرابة والغرابة، والمحبة والبغضاء، والطمأنينة والقلق، والحرية والعبودية، والاستقلالية والتبعية، واحترام الآخر واحتقاره، واحترام حريته وتقبّل اختلافه أو عدمهما، فضلاً عن تباين الأدوار وتوزيعها عملاً بمبدأ المساواة أو، بالعكس، اللامساواة بين الرجال والنساء، بين الآباء والأمهات، بين الذكور والإناث بصورة عامة، إلخ.
صورة العالم تلك، المتكوّنة لدى الفرد بمحصّلة جمعنته الأوليّة في حضن العائلة، مصيرها ليس البتّة الامِّحاء


وهي، للمناسبة، تعلّمه ذلك كله لا دائماً، ولا حتى في أكثر الأحيان، بالكرازة والموعظة المباشرة، بل في الغالب الأعمّ، بطرائق تعاملها اليومي معه، وبما تشكله بالنسبة إليه - على حدّ مقولةٍ تشكل الأساس في أبحاث عمانوئيل تود، أحد كبار علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المعاصرين، حول الأنظمة العائلية وتأثيرها على الأنظمة السياسية والاقتصادية - من مثال وقدوة في تعامل أعضائها بعضاً مع بعض، كما مع الآخرين.
فالعائلة - على سبيل المثال لتوضيح هذه الصورة، لا الحصر - حين تكون العلاقات في داخلها مبنيّة على قاعدة المساواة بين جميع أعضائها، ذكوراً وإناثاً (الأب والأم، كما البنت والابن، والأخ والأخت، إلخ)، إنما تعلِّم ضمناً ولدها، الذي هو جزء من تركيبتها، وبحكم بنية التركيبة هذه وحسب، أن الناس عموماً متساوون. أمّا في حال كانت العلاقات في داخلها قائمة، بالعكس، على قاعدة اللامساواة، فهي، عملاً بالإوالية نفسها، تعلّمه أن الناس غير متساوين. وقس على ذلك. فالقاعدة هي هي في تعليم العائلة الضمني لولدها مجمل المفاهيم الأساسية، ومعها القيم ونماذج السلوك ذات الصلة، الداخلة، كالتي سبق ذكرها، في تكوين بنية المجتمع وثقافته.
أمّا في ما يتعلق بالطفل، فهو، خلال المرحلة إياها من حياته - وهي، في السياق الزمني، مرحلة سابقة لنشوء الوعي المقارن عنده - يكون، وللبداهة، غير قادر بعد على وعي التأثيرات المجمعنة التي تستهدفه. لكنه يكون أيضاً، في آن، على أقصى الممكن من التبعية الاجتماعية العاطفية حيال البالغين المحيطين به، أي أهله. ولأنه كذلك، فهو يُقبِل تلقائياً على استبطان عالمهم الآنف توصيفه والانصياع لأحكامه بلا مساءلة، ناظراً إليه، من هنا، لا كعالم مُدرَك كمعطى نسبي (أي كمعطى قابل للنظر إليه من أكثر من زاوية واحدة، وبالتالي للنقاش)، بل بالأحرى كما لو كان، على حد تعبير بيرغر ولوكمان: «العالم، العالم الوحيد الموجود والقابل للإدراك، العالم بلا نعوت».
بيد أن الحالة الإدراكية عند الطفل لا تلبث أن تشهد تبدلاً بفعل تطورين متلازمين، بحصولهما يكون الانتقال إلى ما اصطُلِح على تسميته مرحلة الجمعنة الثانوية؛ عنيت بهما: من جهة، بدء دخول وسائط اجتماعية منافسة للعائلة، بتنا لا نجهلها، على خط جمعنته، ومن جهة أخرى، ظهوراً تدريجياً لوعيه المقارن، وبالتالي لقدراته النقدية. فما الذي يُلِمُّ عندها بصورة العالم تلك، المتكوّنة لديه في المرحلة السابقة: هل مصيرها أن تمَّحي؟
تتعدد وتتنوع في توجهاتها المذاهب الفكرية والنظريات الشارحة لإواليات جمعنة الفرد وبناء شخصيته، كما تتباين في الرأي حول الكثير من المسائل ذات الصلة. ولكن، حول هذه المسألة بالذات، لا خلاف أساسياً ما بينها. فعندها جميعاً أن صورة العالم تلك، المتكونة لدى الفرد بمحصّلة جمعنته الأولية في حضن العائلة، مصيرها ليس البتة الامِّحاء - إذ من أين يكون لها أن تمَّحي بعدما تكون قد أوغلت إلى الحد المذكور في تكوين شخصيته وقولبة استعداداته الفكرية والسلوكية، فضلاً عن مشاعره؟! بل إن مصيرها أن تبقى بالعكس، عند الفرد هذا، بمثابة المنظار بالذات الذي من خلاله ينظر إلى نفسه كما إلى كل ما يحيط به. وهي بالتالي تبقى أيضاً محدداً أساسياً من محددات سلوكه اللاحق، سواء في المجتمع عامة أو في نطاق التفاعل، سلباً أو إيجاباً، مع وسائط الجمعنة الأخرى، بما فيها المدرسة ووسائل الإعلام، حينما يتعرض لتأثيراتها.
ثم إنها من أجل ذلك، بعيداً من أن تقفز، أو حتى من أن يكون لازماً قفزها عند حاملها إلى دائرة وعيه المباشر، تبقى باستمرار مستترة في ما يشكل، وللمفارقة، سرّ قوتها الدائمة. عنيت ما يسميه فرويد «اللاوعي» (l’inconscient) عند الإنسان، فيما يومئ إليه بيار بورديو برَكنِه في مجال «فقدان ذاكرة التكوين» (amnésie de la genèse).
فاستناداً إليه، نفهم إذاً كم هو بوجه العموم أساسي الدور المنوط بالعائلة، في بناء شخصية الفرد وقولبة استعداداته الفكرية والعاطفية والسلوكية. ومن ثمّ، في عودة إلى إشكالية الطوائفية والمواطنة التي تعنينا هنا بصورة خاصة، نفهم إلى أي مدى يمكن أن يكون كبيراً إسهام العائلة عموماً، سواء في إعداد الفرد ليكون مواطناً فرداً بالمعنى الدقيق المحدد في مستهل هذا البحث، أو بالعكس، عضواً لطائفة يتقدم، للمناسبة، انتماؤه إليها وولاؤه لها على انتمائه لدولته ووطنه وولائه لهما.
فماذا بالتالي، والحال هذه، عن العائلة اللبنانية بصورة خاصة، وأيّ النوعين النمطيين، المشار إليهما، من الأفراد عساه يكون ذاك الذي تنتجه؟ إن هذا، تحديداً، ما آن أخيراً الأوان لمحاولة الحسم بشأنه. وهو، بطبيعة الحال، ما سنحاوله في الحلقة اللاحقة، مستندين لهذا الغرض إلى مكثَّف يفرض نفسه، لمجمل ما تم ثبته، أعلاه، من معطيات تتعلق سواء بتوصيف الواقع الميداني للأحوال الشخصية في لبنان، أو بتحديد المرتكزات الأنثروبولوجية والنفسية الاجتماعية العامة التي بغيابها تتعذّر الإجابة عن السؤال المطروح.
(يتبع)
* باحث وناشط سياسي