بعد مرور سنة تقريباً على اندلاع الحرب الحالية في أوروبا، بات بالإمكان اعتبار «الأطلسي» كحلف «صمويل هنتنغتون»، أي حلف الحضارة الغربية في مواجهة غير الغربيين، وذلك بدلاً من النظرة التقليدية التي ترى في «الأطلسي» كحلف جيوسياسي عقلاني يجمع بين المصالح الأمنية للدول الرئيسية التي تتبنى النظام الاقتصادي الرأسمالي في مواجهة ما كانت ترتئيه كـ«خطر شيوعي». إلا أن الفرضية الأساسية هنا هي أن «الأطلسي» تأسس منذ خمسينيات القرن العشرين كحلف حضاري غربي وعرقي أبيض وأن الحرب الباردة أيضاً تأسست منذ البداية لاحتواء الحركات الشيوعية والوطنية التي قادها غير الأوروبيين في آسيا وأفريقيا و«أنصاف الأوروبيين» في شرق أوروبا. إنّ مسعاي هنا في تحليل خطاب النخب الأطلسية لا يهدف إلى إزاحة الصراع الطبقي بآخر حضاري. لا أنوي انتقاد المركزية الأوروبية لهذه النخب، ونواتجها الفرعية: العنصرية العرقية، والاستشراق، ورهاب الإسلام، باعتبارها صنفاً اعتيادياً من الانحياز الإثني - وهو عيب لدى جميع البشر - ولكن كأيديولوجية طبقية. من المفيد هنا العودة إلى سمير أمين الذي يقول إن المركزية الأوروبية ليست بنظرية اجتماعية متناسقة، بل هي انحياز تضليلي يهدف إلى إزاحة الإجابة عن السؤال الأساسي وراء التقدّم الغربي المتمثلة بظهور الرأسمالية في أوروبا لأسباب مادية وتاريخية وجغرافية معقّدة، واستبدالها بمجموعة من الإجابات التضليلية المتعلقة بالخصوصية والفوقية الأوروبية الأبدية اللاتاريخية بناءً على أسس العرق والثقافة والحضارة.

الفوقية البيضاء في سياسة الاحتواء
بتاريخ الثاني من شباط عام 1946، أرسل جورج كينان، الدبلوماسي الأميركي في السفارة الأميركية لدى موسكو، إلى وزارة الخارجية في واشنطن، برقية طويلة توضح «بواعث السلوك السوفياتي» في السياسة الخارجية، وخاصة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. نُشرت هذه البرقية، التي تشتهر باسم «التلغرام الطويل»، في تموز من عام 1947 في مجلة «فورين أفيرز» وأصبحت لاحقاً وثيقة مهمّة في تاريخ العلاقات الدولية، لأنها حددت ما عرف بسياسة احتواء الاتحاد السوفياتي، وهي الركيزة الرئيسية التي تم من خلالها تأسيس حقبة الحرب الباردة، وخاصة في فترة رئاسة هاري ترومان، والتي عيّن فيها كينان رئيساً لدائرة التخطيط في الخارجية الأميركية في الفترة الواقعة بين 1947 - 1949.
في تلك البرقية، ادّعى كينان بأن شعور القيادة السوفياتية «بعدم الاستقرار الداخلي كبير جداً، وإن صنّف التشدد الذي لديهم، غير المتأثر بتقاليد التوافق «الأنغلوسكسونية»، بأنه شرس للغاية وغيور جداً لدرجة استعصى معهم تصور أي تقاسم دائم للسلطة. لقد حملوا معهم، انطلاقاً من العالَم الروسي - الآسيوي الذي انبثقوا منه، شكوكاً حول احتمالات التعايش الدائم والسلمي للقوى المتنافسة»، وأضاف إن «قدرة القيادة السوفياتية على المناورة والصبر مكتسبة من التاريخ الروسي، من قرون من المعارك الغامضة بين قوات البدو الرحّل على امتداد سهل شاسع وغير محصّن، حيث الحيطة والحذر والمرونة والخداع هي صفات مهمة، تكتسي قيمتها تقديراً بديهياً في العقل الروسي أو الشرقي».
إنّ رؤية كينان بالكيفية التي يجب من خلالها تشكيل وإعادة تشكيل العالم بعد الحرب العالمية الثانية تجد أصولها في رؤيته لما يجب أن يكون عليه النظام السياسي الاجتماعي الأميركي المحلي. في عام 1938، كتب كينان مقالاً يطالب فيه باحتواء التحديات والتيارات العرقية والجندرية الحديثة في المجتمع الأميركي عن طريق التخلي عن النظام «الديموقراطي» الأميركي وتشكيل نظام «سلطوي عادل» يعطى فيه الحكم إلى نخبة من «الرجال البيض المتعقلين»، مع إقصاء الفئات «قليلة الخبرة بالسياسة بشكل خطر»، أي النساء والسود والمهاجرين، من الحق في التصويت. أمّا رأيه في الأميركيين اللاتينيين، فلم يكن أقل عنصرية، فبعد جولة دبلوماسية له في عدد من بلدان أميركا اللاتينية في عام 1950، رأى كينان أن الولايات المتحدة يجب أن تقلل انخراطها في منطقة تكون فيها «عوائق التطور متأصلة في دماء [السكان المحليين]».
لم تكن آراء وقناعات كينان حالة نادرة في الثقافة السياسية الأميركية منتصف القرن العشرين، وخاصة في النخبة القائمة على إدارة البيت الأبيض ووزارات الخارجية والدفاع. على سبيل المثال، آمن وزير الخارجية جيمس بيرنز بدونيّة الأعراق غير الأوروبية، حتى إن الناشط الأفريقي الأميركي وليام دي بويز انتقده وقال إنه يجب على وزير الخارجية «البدء من ولايته في جنوب كارولاينا بتطبيق شيء من تلك الديموقراطية التي ما انفكّ يعظ بها بصوت عالٍ إلى روسيا». أمّا وزير الخارجية دين آتشيسون، فكان مصاباً شغوفاً باليوروفيليا ومحتقراً للآسيويين والأميركيين اللاتينيين والأفريقيين، وكان يجزع من الديموقراطية التي قد تتيح لهم ممارسة حقوقهم: «إذا كانت لديك ديموقراطية بحق وفعلت ما يريد الناس فسوف تخطئ في كل مرّة».
إذا كان الألمان النازيون في عقيدة تفوّقهم العرقي تدميريّين وغير مستدامين للآخرين ولأنفسهم، فإنّ الأميركيين كانوا أكثر نجاعة واستدامة في الإدارة (الرأسمالية) لبنى الهيمنة العرقية


وعلى الصعيد الداخلي في المجتمع الأميركي والغربي، ربطت سياسة الاحتواء بين ما هو محلّي وما هو دولي، أي بين الفوقية البيضاء في الداخل والتوسع الإمبريالي في الخارج. هذا سمح لأن تطال يد التطهير السياسي والقمع، الذي تسببت فيه سياسة الاحتواء، الجماعات العرقية ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد المناهضين للعنصرية. بتاريخ الثالث من نيسان 1947، نشر توم كلارك، المدعي العام للولايات المتحدة، قائمة بـ«المنظمات التخريبية» اشتملت على مؤسسات مثل «مجلس الشؤون الأفريقية» و«المجلس الوطني للسود». وقد تعرّض العديد من الناشطين السود للملاحقة والاعتقال والتحقيق، حتى أولئك الناشطون الليبراليون غير الداعمين للشيوعية. وقد لاقى الآسيويون والصينيون الأميركيون مصائر مشابهة بعد فوز الثورة الشيوعية في الصين في عام 1949، إذ اتخذت السلطات الفيدرالية عدة إجراءات قمعية وصولاً إلى مداهمة الأحياء الصينية في المدن الأميركية بحثاً عن المشتبه فيهم الشيوعيين المتسللين إلى البلاد بشكل «غير قانوني». وفي فترة «الرهاب الأحمر» الماكارثية، أصبحت معاداة العنصرية مرادفاً لدعم الشيوعية، وفي ذلك يقول رئيس أحد «لجان الولاء»، التي أُنشئت بموجب «برنامج الولاء الأمني الفيدرالي» الذي أنشأه الرئيس ترومان: «إن حقيقة أن أي شخص يؤمن بالمساواة العرقية لا يثبت أنه شيوعي، لكنه بالتأكيد يجعلك تنظر مرتين، أليس كذلك؟».

القومية البيضاء في تأسيس «حلف شمال الأطلسي»
رافقت إعادة بناء أوروبا الغربية محاولات لإعادة بناء وتوحيد الهوية الأوروبية بعد أزمة الحرب العالمية الثانية وكارثة النازية، النسخة الأكثر تطرفاً من القومية البيضاء (وهو ما سنشرحه بالتفصيل في المقال الثاني). لذا دعت الحاجة إلى إعادة إنتاج العلاقات العرقية والاستعمارية بحلّة جديدة أميركية. فإذا كان الألمان النازيون في عقيدة تفوّقهم العرقي تدميريّين وغير مستدامين للآخرين ولأنفسهم، فإنّ الأميركيين كانوا أكثر نجاعة واستدامة في الإدارة (الرأسمالية) لبنى الهيمنة العرقية (في حقبة إعادة البناء ما بعد الحرب الأهلية الأميركية).
كانت هنالك عدة مبادرات سابقة على تشكّل «الأطلسي»، أكدت على أهمية وحدة الشعوب الغربية البيضاء، واعتبرت التعاون الأمني بينها كمهمة حضارية، مثل دعوة ونستون تشرشل الأورويلية خلال خطابه عن «الستار الحديدي» بتاريخ الخامس من آذار من عام 1946، بإقامة وحدة أخوية بين بريطانيا والولايات المتحدة القوّتين العالميّتين الأنغلوسكسونيّتين قبل أن ادّعى أن «الحرية وحقوق الرجال هما إرثان متأصلان في العالم المتحدث باللغة الإنكليزية». ذلك قبل أن وصف الأحزاب الشيوعية والطوابير الخامسة بأنها «تشكل تهديداً متنامياً وخطراً على الحضارة المسيحية [البيضاء]».
إلا أن الصيغة «الأنغلوسكسونية» للتحالف لم تكن الصيغة النهائية. الصحافي الأميركي والتر ليبمان كان مثقف الحرب الباردة الأكثر شهرة بعد جورج كينان، هو الذي جعل مصطلح «الحرب الباردة» شهيراً في سلسلة مقالاته المنشورة في «نيويورك هيرالد تريبيون» خلال عام 1947. كان لدى ليبمان عدّة تحفظات على سياسة الاحتواء، أبرزها الطموح والاتساع والعالمية والمثالية. انتقد ليبمان دعاة الاحتواء لأنهم ساووا في المرتبة بين «الحلفاء الطبيعيين والحلفاء غير الطبيعيين» في «الدول المتخلفة»، قبل أن يعلن بصراحة أنّ الحلفاء الطبيعيين للولايات المتحدة هم «أمم المجتمع الأطلسي». يحدد ليبمان خريطة هذا المجتمع ويصف الروابط داخله بأنها قائمة على الجغرافيا السياسية والعسكرية «والتقاليد المشتركة للجسد المسيحي الغربي» والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والقانونية والأخلاقية، قبل أن ينتقد دعاة الاحتواء مرة أخرى بتركيز سياستهم على دعم القاطنين في «الأطراف المظلمة للمجتمع الأطلسي»؛ أحزاب المعارضة المعادية للسوفيات في شرق أوروبا، اليونانيون، الأتراك، العرب، الإيرانيون والأفغان والقوميون الصينيون.
ربما قد تسبب ليبمان في ذاك الوقت بجعل عبارة «المجتمع الأطلسي» شهيرة كذلك. في عام 1948، موّلت «خطة مارشال» إعادة بناء بلدان الشق الأوروبي من هذا المجتمع الأطلسي، وفي عام 1949، تأسّس رسمياً «حلف شمال الأطلسي»، ليس فقط كحلف جيو - سياسي بل كحلف ثقافي إثني أوروبي أبيض و«الضامن العسكري للحضارة الغربية».
هكذا تأسس «الأطلسي» كعصبة من عواصم المتروبول الاستعماري في لندن وباريس وبروكسل وأمستردام ولشبونة. وفي ذلك كان صريحاً جورج مالون، عضو مجلس الشيوخ الأميركي، عندما قال في 28 حزيران 1950: «إنّ ميثاق شمال الأطلسي يضمن ببساطة سلامة الأنظمة الاستعمارية في آسيا وأفريقيا». وقد أكد خطاب الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور، نزعات القومية البيضاء لدى مثل هذا التحالف في خطابه إلى الكونغرس في 30 آذار 1954 عندما قال بأن هنالك في الصراع ضد الشيوعية «كرامة مشتركة» تجمع بين «الجندي الفرنسي الذي يموت في شبه الجزيرة الهندو - صينية، والجندي البريطاني الذي يموت في مالايا، وبين حياة الأميركي التي يفتدى بها في كوريا».

العنصرية ونهاية الحرب الباردة
قبيل نهاية حقبة الحرب الباردة، أظهرت الحقبة السوفياتية المتأخّرة، التي دشّنها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف من خلال ما سمّي بسياسة «البروتسترويكا» أي الإصلاحات، وسياسة «الغلاسنوست» أي الشفافية، أظهرت كم الفوقية البيضاء لدى الليبرالية الروسية المعادية للشيوعية، حيث فسر كثيرون دعوات غورباتشوف المبهمة «للانضمام إلى الأمم المتحضّرة»، واستغلّوا «حقبة الشفافية»، من أجل الخلط بين حرية التعبير والفوقية البيضاء، وبالأخص لدى المعارضين الروس «الليبراليين»، مثلما فعلت المعارضة فاليريا نوفودفورسكايا، حيث وصفت الجزائريّين الذين صوّتوا للإسلاميين بأنهم صوّتوا للحقّ في الحصول على ذنب وتسلق الأشجار (كالقرود). وقد وصفت الفصل العنصري بـ«الأمر طبيعي» وقالت: «سوف ترى جنوب أفريقيا أيّ نوع من النظام السياسي سيتمّ تأسيسه في ظل الغالبية الأصلية التي تستلذّ الحرق المتعمّد والقتل والعنف. الحقوق المدنية موجودة فقط للشعوب المتحضّرة الجيدة التغذية والمثقّفة والمتوازنة». على هذا النحو، اكتملت الحلقة وانتهت الحرب الباردة تماماً على نسق الاستعلاء الأبيض الذي بدأت به.

* كاتب وباحث فلسطيني