[في الذكرى السنوية الخامسة عشرة لرحيل القائد المؤسّس جورج حبش]
تقول المقولة الشهيرة إنّ «أفضل طريقة للتنبّؤ بالمستقبل هي صناعة ذلك المستقبل». لذلك يترك القائد أثراً في التاريخ إن كان مساهماً في المستقبل، يبدأ دوره الريادي كنموذج ينقل ما اكتسبه إلى أجيال جديدة، تتوق إلى الحقيقة من خلال التحرر من الأوهام.
أن تكتب عن جورج حبش في هذا الزمن، ليس بقصد تقديس الماضي، وتقديس الأشخاصِ، ولبيع الوهم، وإنّما لمعرفة فلسفته القيادية التي ارتقت إلى مصاف عالية من النزاهة والصرامة والصراحة ونقد الذات، والإيمان بالمقاومة وحتمية النصر، وهو من أكثر القادة إيماناً بالمستقبل. الشخصية الفذة التي تسلبك وتجعلك تتلعثم في حديثك أمامه، مستمع جيد، وعندما يتحدث يعرف كيف يردّ ويبلور أفكاره. ينظّم وقته بدقة، يوزع مساحات الأجوبة، يراقب ردود الفعل، يتابع التنفيذ وكيف يسير التنظيم ويفكر بإبداع أشكال جديدة وأساليب مبتكرة للعمل. يتقن فن الحوار والإقناع واستخلاص النتائج بجمل قصيرة يقوم بتنظيمها بعقله قبل أن ينطقها، وفي الوقت نفسه، كان الرفيق المستحيل في فهم حقيقة الصراع. امتلك رؤية وفكر رجل استراتيجياً من طراز رفيع ويكرس ثقافة التضحية والعطاء والتصميم على استرداد فلسطين، وبتنفيذ كل خطوة آنية بعزم ودقة لا تقطع الطريق عن هذا الهدف الاستراتيجي.

فلسفة جورج حبش أن المستقبل لا يصنعه من لا يؤمن به، بل يصنعه أصحاب الرؤية الواضحة والإرادة الصلبة العالية، والمتحمسون له، الذين يضحّون بشغف ويسيرون على نهج الشهداء ويؤمنون به إيماناً شديداً، ولا يكتفي بتفاؤله الثوري. دائماً ما يسأل عن كيفية تحقيق النصر، داعياً إلى قراءة الهزيمة بسؤاله الجريء والمبدع لماذا هزمنا؟ وكيف ننتصر؟ وهي دعوة لمراجعة نقدية علمية وموضوعية.
فالقادة من هذا الطراز يدركون أنه ليس هناك إنجاز بلا انتكاسات، وليس هناك تقدّم بلا عثرات، وأن الهزيمة في معركة لا تعني خسارة الحرب. استناداً إلى ما كتبه غسان كنفاني «إن فترات الهزائم في تواريخ الشعوب تشهد نمواً سريعاً في الحِسّ النقدي يتطوّر في أحيان كثيرة نحو تيّار من النقمة والغضب، ومما لا شك فيه أن ذلك الحِسّ النقدي حتى لو اتخذ صورة النقمة والغضب، يظل ذا طاقة بناءة لا غنىً عنها». ودون المبالغة في عقاب الذات.
تعامل مع الأيديولوجية ليس كنصوص مدرسية مقدسة، بل كنسيج من أفكارٍ تقارب بين المنطق والعقلِ والواقِعِ. اليساري البعيد عن الدوغمائية الموجّهة لأفكارنا، بقصد تشويه الواقع وليس فهمه وإنتاج الوهمِ النَّاجمِ عن غيابِ العقلانية والوعي التاريخيّ، تميّز بالتحدّي الصارم والصلابة المبدئية، لا يقطع مع الواقع، مع متطلبات المرحلة، وخاصة في إدراك اللحظات الثورية والانتقالية، مدركاً أن عدم قدرة القيادة في الاستجابة للجديد، ستحكم على نفسها بالعجز! ومن يقفل على نفسه أبواب التغيير، سيظلّ قابعاً في دائرة المحافظة! أعطى أولوية للحقيقة ولقراءة الواقع ووعي المستجدات، وبرؤية علمية تربط بين مرتكزات الصراع الطبقي والوطني والقومي والأممي، مؤكداً على دور الطليعة الثورية القادرة على استيعاب المرحلة وتناقضاتها الأساسية والرئيسية والثانوية، المبنية على ثنائية التحرر الوطني والبناء الاجتماعي الديموقراطي.
تقودنا هذه المقدمة إلى أهم الدراسات الجادة والعميقة التي كتبها جورج حبش في قراءة الواقع واستشراف المستقبل يحدد فيه رؤيته الاستراتيجية للمرحلة وللمستقبل ومن منطلق قراءة العدو، «اعرف عدوك»، يقول فيها: «لقد كشفت السنوات الأربعون الماضية الستار عن جوهر إسرائيل الرجعي الفاشي والعنصري. وما علينا سوى أن نخوض معركتنا بحنكة ودراية». وكتب: «إن بروز إسرائيل على هذه الشاكلة هو المقدمة الأولى والضرورية لنجاحنا في معركة استرداد كامل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني»، قالها جورج حبش عام 1988 في كتابه «نحو فهم أعمق وأدقّ للكيان الصهيوني»، والذي هو خلاصة بحث ونقاش عميق داخل الجبهة أسهم فيه عدد من المختصين.
وفي مقاربة بين نبوءته الثورية في هذا الكتاب، وما أورده المسح الاستراتيجي للكيان الصهيوني عام 2022، الصادر عن «معهد دراسات الأمن القومي» (INSS) يقول في مستهله عن مكانة إسرائيل: «من التناقض بين قوتها العسكرية وديناميكيتها الاقتصادية وبراعتها التنكولوجية، وخطورة التحديات السياسية والأمنية والداخلية التي تواجهها وتشكل هذه التحديات تهديداً استراتيجياً شديد التعقيد ومثيراً للقلق على إسرائيل، ويتفاقم بسبب الافتقار إلى نظره استراتيجية شاملة وبعيدة النظر لمواجهتها». والواقع، اليوم قبل الغد، يقول إن الفلسطينيين أحياء يرزقون وسينتصرون لأنهم يقاومون ولم يعلنوا الهزيمة!
جورج حبش الحالم الثوري، يدرك معنى أن يعيش الإنسان وقد تخلّى عن أحلامه، دون أن نستثمر عناصر قوّتنا الذاتية ومكوّناتها ونحرّرها من الأوهام


استنتج الحكيم أن الكيان الصهيوني، بعد 40 سنة على قيامه، أن مكانة الدولة الصهيونية تتبدّل وبشكل ملحوظ في الساحة الدولية، حيث أخذت صورة «الذئب الكاسر»، الذي يطلق النار على الأطفال والنساء والشيوخ ويرتكب المجازر الجماعية، تحلّ تدريجياً مكان صورة «الحمل الوديع» في وجه «البربرية العربية» و«الإرهاب الفلسطيني». ورصد عملية نقل إسرائيل من دائرة «الدولة الملجأ»، أي الملاذ الآمن لليهود و«الوطن القومي»، إلى مصافي الدولة الإقليمية العظمى، والتي تبرز اليوم بوصفها أكبر تهديد ليس لمستقبل الشعب الفلسطيني والشعوب العربية فحسب، بل يطال تهديدها المجال الحيوي على النطاقين الإقليمي والدولي.
وقرأ التحولات العميقة التي أحاطت بانتصاراتها في حروبها التقليدية، وكيف خاضت حروبها ضمن استراتيجيات شاملة وواضحة المعالم، رسمت خطوطها الرئيسية وثوابتها العامة قبل أكثر من تسعة عقود من السنين. في إطار الاستراتيجية الشاملة ذاتها، عملت على بناء القاعدة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعلمية جنباً إلى جنب مع القوة العسكرية المتطورة، التي تعتمد على السلسلة القوية وليس الحلقة المركزية.
تلك النظرية التي أوضحها الحكيم بأن حركة المقاومة للمشروع الصهيوني تنطلق من قوة السلسلة الكاملة، ولا تهمل أي مكوّن للقوة، وأن السلسلة تكون بمجموعها ومهما كانت قوية ليست أكبر من قوة الحلقة الأضعف فيها، فمقتلها في نقطة الضعف. لذلك يجري العمل لتمتين حلقات السلسلة كافة، وعدم الاكتفاء بحلقة مركزية قوية وحلقات أخرى ضعيفة.
طرح الحكيم مفهوم القوة الشاملة، الذي يفترض شتى الاحتمالات مع المركز الإمبريالي فيسعى إلى تحويل «القوة المستعارة» إلى «قوة ذاتية»، أي أن الدولة العظمى كترجمة للمفهوم التوراتي «إسرائيل الكبرى» إن لم يتحقق بالمعنى الجغرافي فسيكون بالمفهوم الحديث للقوة. وهنا نعود إلى نقطة البدء الصحيحة في أي استراتيجية شاملة، تتمثل في معرفة ماهية العدو. دعا الحكيم إلى فهم العدو فهماً متطوراً لأننا أمام كيان متغير ومتحوّل ولا يجوز الاكتفاء بالمواقف المسبقة أو بالمأزق الذي يعيشه، بل بمعرفة علمية لنقاط قوته ونقاط ضعفه. نواكب حركة هذا الكيان، فنعلم أن إسرائيل اليوم ليست إسرائيل عام 1948، فقد استطاعت أن تعمّق علاقتها مع المشروع الإمبريالي، على قاعدة الأداة الشريك بدل الأداة الأجير، ليس دولة العبء الاستراتيجي، بل الكنز الاستراتيجي للإمبريالية العالمية.
وكشف عن طبيعة التحولات الاجتماعية، مذكّراً أنه في البدء كانت الأيديولوجيا، وأن الخلاف داخل الكيان يكمن في القدرة على تحويل الأيديولوجيا إلى سياسة، ووضعها موضع التنفيذ الفعلي على الأرض. والانتقال يجري ليس بين يسار ويمين، من وإلى، بل بين يمين ويمين، وإن مقاليد الأمور تسير نحو «الصقور»، وباتت الصهيونية هي الأيديولوجيا الرسمية للمجتمع، وإن كانت الأيديولوجيا التوراتية قامت بدور مهمّ في نشأة الكيان، فالنتيجة هي الارتباط الوثيق بين الصهيونية وكيانها، وهنا تتأصل العنصرية حيث يقول الحكيم: «إن اجتماع التكنولوجيا العلمية والأيديولوجيا العنصرية لا يمكن أن ينتج اجتماعها سوى بربرية من نوع خاص».
والسؤال يتمثل إذاً فى كيفية إنتاج فكر نقدي قادر على طرح الأسئلة الاستباقية وحتى الافتراضية، والتي أجاب عنها كالتي تتعلق بماهية العدو، حين كتب أن «إسرائيل الكبرى» مطروحة للترجمة الفعلية على لسان القادة الصهاينة، وإن أول أهدافها سيكون استيعاب الأراضي المحتلة عام 1967، جوهر الخلاف يدور حول القدرة على تحويل الهدف الحقيقي إلى هدف معلن. وأكد أن الأحزاب الصهيونية تجمع على أن «فلسطين بوصفها النفي الكلي لفكرة الصهيونية»، واليوم في قلب التحولات العميقة التي طفت على السطح، تظهر حقيقة «إسرائيل» ككيان مسخ يقوده حزب فاشي هو الصهيونية - الدينية. وإنه قد انتهى زمن اليسار واليمين التقليديين، لمصلحة يمين فاشي شعبوي، ومن المهازل أن يصبح في هذه الحالة حزب «الليكود» المعتدل وأن المعارضة الصهيونية حالة يراهن عليها.
إنه لمن المرعب فعلاً أن نعيش ونرى عودة الكهانية إلى قلب المشهد السياسي الصهيوني، هذه الكهانية التي تم إقصاؤها إلى خارج حدود القانون إثر مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، نحو حزب فاشي هو الصهيونية - الدينية. بذلك ستسقط الأوهام المتعلقة بالتسوية السياسية مع الفلسطينيين، ومسائل الاستيطان والأماكن المقدسة، بحيث يكون التصعيد «حسم الصراع» هو العنوان الرئيسي والوحيد للمرحلة المقبلة، ليضع شعبنا الفلسطيني أمام ثلاثة خيارات: أن يترك البلاد، كما يرغب زعران الكيان المسخ! أو يعيش في كنف الكيان كرعايا ويتكيف مع هذا المسخ الجديد، وأن يكون أقل مكانة من اليهود، أو يتحرر ويقاوم... من أجل إسقاط هذا الكائن المسخ.
جورج حبش الحالم الثوري، يدرك معنى أن يعيش الإنسان وقد تخلّى عن أحلامه، دون أن نستثمر عناصر قوّتنا الذاتية ومكوّناتها ونحرّرها من الأوهام، تجسيد الحلم إلى وجود؛ حين ينبئنا بحقيقة العدو، وأنه قام على القوة المستعارة، ووصفها بقوله «إن الخارج الغربي سيكون نقطة ضعفه ومقتله. والتي ارتكز عليها لقطع شوط كبير نحو الدولة الإقليمية العظمى، لكنّ العدّ العكسي في مسيرته يبدأ حين تجد إسرائيل نفسها في شروط وظروف غير قادرة على مواصلة هذا الطريق...».
بين التحرر من الأوهام والكوابيس، تقرأ قصة كافكا الشهيرة فتصاب بالدهشة من صدق نبوءة الحكيم حول مآل هذا الكيان المزعوم وحجم التطابق بين سيرة الكيان الصهيوني وعنصريته ونفعيته الممجوجة، كما رأى نهايته وشخصيات كافكا الكابوسية. فقد استطاع العقل الكابوسي للكاتب التشيكي فرانز كافكا أن يجسّد هذا التحول في رواية «المسخ»، «غريغور سامسا» بائعاً متجولاً بائساً يجوب المدن لعرض بضاعة الشركات المتنافسة والكبرى، يستيقظ ذات يوم ليجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة عملاقة!
مثل مسخ كافكا، تلك الحشرة القبيحة مطالبة بالتكيف مع واقعها المأسوي الجديد، وتطالب الأسرة في قبول هذا التحوّل والتغيّر التدريجي ويطالبها تكراراً بالتعامل مع هذا الواقع. بين التعاطف والتقزّز والرغبة العارمة في التخلص من هذا «المخلوق» ورفض العيش معه، لتنتهي هذه المعاناة بموت الحشرة (غريغور) وإقبال الأسرة على فصل جديد من حياتها لا مكان فيه لهذا الكائن الغريب، وبين سيرها عكس حركة التاريخ، ويبقى السؤال: هل ستموت الحشرة المسخ تحت مكنسة الخادمة؟ أم ستبقى حتى تخلق حفاري قبرها؟
والحكيم يسأل في الدراسة/ الكتاب وبعد 40 سنة على قيام الكيان وبعد حوالي 35 سنة، سؤالاً مشابهاً: هل ستخلق الصهيونية حفّاري قبرها؟ لم يكن مجرد سؤال رومنسي يطرحه قائد ثوري كجورج حبش، الذي آمن بأن «الثورة وجدت لتحقيق المستحيل»، الذي لم يفرض حضوره الكاريزمي فقط، بل ترك منهجاً في التفكير والممارسة والتنظيم لكل الذين يتعطّشون للمساهمة في صناعة المستقبل، على وقع السؤال ذاته: هل سيلحق المسخ بن غفير بالحشرة التافهه رحبعام زئيفي؟ وهل سيكون هؤلاء الزعران وأمثالهم حفاري قبر الصهيونية؟

* كاتب وروائي فلسطيني، عضو المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»