الانتماء اللفظيّ والرسميّ إلى دين لا يعني شيئاً في مقياس الإيمان، فقد يكون الإنسان على دين شكليّاً ولا يؤمن «قالت الأعراب آمنّا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم» (الحجرات ١٤). الإيمان علاقة مع الله مترجمة حُكماً في علاقة مع الآخرين ومع الطبيعة المخلوقة، إذ لا بدّ أن ينعكس الإيمان في التعامل اليوميّ، ولهذا كان حُسن المعاملة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحبّة، من الإيمان الأصيل، ولا بدّ أن تُعاش في الذات أوّلاً، وإلّا أُفرغت تلك العبارات من معناها، وباتت مجرّد أُطر فارغة.ليست وصايا الله بالتآخي البشري أوامر صمّاء لا منطق فيها، وإنّما نصائح لكي يحيا الإنسان بحسب طبيعته، أي كي يعمل بحسب توقه الطبيعيّ إلى الخير كإنسان، وإنّما الدين النصيحة على ما ورد في حديث شريف. فوصيّة المحبّة مثلاً، وهي قمّة الوصايا في المسيحيّة، تلبّي توق الإنسان الفطريّ الذي تبيّنه الاختبارات الحديثة. ما الإنسان ذئب الإنسان وإنّما هو أخو الإنسان بالفطرة، والطفل يتعاطف مع غيره عفويّاً كما تبيّن معطيات علوم اليوم. وإن كانت العداوة البشريّة ممكنة لأنّ الخطأ أو الخطيئة هما جزء من خبرتنا في هذا العالم، فعندها تصحيح المسار ضرورة. أمّا عندما يتحوّل الخطأ أو الخطيئة إلى طريقة حياة فعندها ينفصل التديّن عن الإيمان، وندخل في الإلحاد العمليّ: البعد العمليّ عن الله ووصاياه رغم الانضمام الرسميّ إلى ديانة من الديانات التي تدعو إلى عبادة الله. الملحد عمليّاً هو مَن تصرّف في انعزال عن الأخوّة البشريّة، عن وصيّة الله بالتآخي.
إذاً من التديّن ما يمكن أن يكون إلحاديّاً إن كان قائماً على التزام شكليّ طقوسيّ بالدين مع اعتماد تصرّف فعليّ في التعامل الملموس اليوميّ مضادّ لمشيئة الله بالتآخي، من استغلالٍ للآخر إلى التسلّط عليه. عندما يعتمد المنتمون إلى الطوائف لغة التقاتل الطائفيّ والنبذ والتباغض والسطو على حصص من المال العام، مثلاً، فَهُم بعيدون فعليّاً عن الله وبذلك هم ملحدون عمليّاً. وعندما نتمسّك بـ«مصالح» الطائفة كجماعة بشريّة متراصّة متنافرة مع كتلة أخرى، ونسعى عمليّاً إلى بناء مملكة قهرٍ أرضيّة بغطاءٍ سماويّ، فتديّننا إلحادٌ عمليّ.
في المقابل، هناك الإلحاد الفكريّ وهو يبقى سرَّ العلاقة الشخصيّة التي بين كلّ إنسان وبين الله الذي يخاطب الإنسان بألف طريقة وطريقة. يبقى الإلحاد الفكريّ موقفاً إنسانيّاً مقبولاً ليس فقط قانونيّاً، ولكن إيمانيّاً أيضاً، فالدين لا إكراه فيه، لأنّ الإكراه في الدين لا يُفسِدُ الدين فقط وإنّما يخالف أيضاً إرادة الله في تنوّع الخليقة وحرّية البشر. وقد يُلحِدُ الإنسان فكريّاً نتيجة ما رآه من نفاق بين المتديّنين، ولا يكون قد ميّز بين المتديّنين والمؤمنين. إنّه من العجب، في لبنان، ألّا يُلحد مَن رأى كمّ الحقد والقتل والتباغض والتكاذب بين الطوائف، وكمّ الاستغلال للدين للنهب والسلب والتسلّط وتخدير الضمير. من إيجابيّات الإلحاد حين ينتقد الممارسات الدينيّة أنّه يفسح مجالاً للمؤمنين لمراجعة مواقفهم، إذ يمكن للمؤمنين أن يستنيروا من الحقّ القائم في بعض الإلحاد، وإن كان من حقّ فهو حتماً من الله. الإلحاد الفكريّ النقديّ مرآة يمكن للمؤمنين أن يلاحظوا فيها الجرائم والفظائع التي ارتكبت باسم الله، ويلتفتوا عندها لتقصيرهم في مواجهة الانحرافات الدينيّة في أوساطهم، ويتحمّلوا مسؤوليّتهم. أحياناً كثيرة، لا يرفض الفكر الإلحاديّ اللهَ في الحقيقة، وإنّما يرفض صنماً يسجد له المتديّنون بتصرّفاتهم العمليّة: صنم الإله حليف السلطة، صنم الإله الـمُذلّ للإنسان، صنم الإله الـمُعادي للحرّية... بطريقة ما، يشير بعض الإلحاد إلى التشوّهات في الدين فيسمح بذلك للمؤمنين أن يسعوا إلى توبة حقّة عن انحراف ممارساتهم. وهل يمكن أن يخرج شيء صالح من الإلحاد؟ بالطبع، بالنسبة إلى المؤمنة والمؤمن، الله رغم تعاليه حاضر في الكون وهو يخاطب قلب الإنسان بألف طريقة منذ ما قبل وجود الديانات الإبراهيميّة، لم ينتفِ الخير في عالم لم يكن فيه الناس يؤمنون بالله بعد، ولا ينتفي حضور الله وتنفيذ إرادته من خلال من يشاء ساعة يشاء، عندما يكون الملحدون على حقّ فهذا الحقّ ينبع من الله، إذ لا حقّ خارج الله، الملحدون السبّاقون في خدمة الناس والدفاع عن كرامتهم البشريّة هم في الحقّ وهُم بالتالي أقرب إلى الله من أناسٍ متديّنين مستغلّين أو حاقدين.
هكذا فبينما يمكن لمتديّنٍ أن يكون ملحداً عمليّاً وبعيداً عن الله، يمكن لملحد فكريّاً أن يكون مؤمناً عمليّاً وقريباً من الله. إذا استوعب المؤمنون ذلك بتواضع، يمكن عندها للإيمان العمليّ، أي للممارسة العمليّة في ما يختصّ بالإنسان وشؤونه، أن تجمع الناس من المشارب المختلفة لمواجهة الإلحاد العمليّ، أي استغلال الإنسان للإنسان والتسلّط عليه. يمكن مثلاً أن يتعاونوا في مواجهة نظام قهر واستغلال كنظام الاحتلال العنصريّ في فلسطين؛ ويمكنهم مناهضة نظام قهر واستغلال كالنظام الرأسماليّ، وهذا الأخير هو نظام إلحاد عمليّ، إذ لا يرى الأشياء والبشر سوى وسائل للاستخدام من أجل تراكمِ الأموال، ولا يرى الحياة سوى تراكم استهلاك، وبينما يتشدّق بالحرّية والمبادرة الفرديّة، وحتّى بالله، يسحق إنسانيّة الإنسان بالممارسة، ضارباً عرضَ الحائط بوصايا الله بالتآخي الإنسانيّ. خدمة الإنسان هي إيمان عمليّ يمكن أن يجمع بنات الله وأبناءه المتفرّقين في الأديان والفلسفات، فيكونوا واحداً رغم بقائهم على تمايزهم في المعتقدات، عندها تتجلّى محبّة الله كما في السماء كذلك على الأرض بواسطتنا جميعاً.

* كاتب وأستاذ جامعي