أطلق شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب نداء للحوار بين السنة والشيعة، في «ملتقى البحرين للحوار» الذي انعقد في الآونة الأخيرة للحوار بين الأديان، وكان من اللافت المواقف التي أكد فيها أن «الاتحاد بين علماء المسلمين سنّة وشيعة ضروري وحتمي»، معتبراً أن «هناك صراعاً وأجندات، ومصالح مادية تتصدّرها بيع الأسلحة تتخذ من عالمنا الإسلامي سوقاً لترويج بضائعها، ولا سبيل لديهم في ذلك، سوى بث الفرقة والطائفية بيننا نحن المسلمين، فهم يتغذون على ضعفنا وحريصون على أن لا نتحد».ولقد تلقّف هذه الدعوة العديد من الشخصيات العلمائية والسياسية من الشيعة، فرحّب بها نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب، وأشار في بيان إلى أن «المجلس يعوّل كثيراً على هذه المبادرة الطيبة لتحقيق هذه الغاية النبيلة والمقدسة، آملين باتخاذ الخطوات اللازمة لعقد الحوار بالسرعة الممكنة عبر التشاور بين المرجعيات الإسلامية». كذلك علّق المرجع الشيعي العراقي جواد الخالصي على صفحته على «فايسبوك» حول هذه الدعوة بالقول: «دعوة خير وكلمة صدق فإليها ندعو وعليها نتحد وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله». بدوره، رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي، علّق قائلاً: «دعوة ليست غريبة على فضيلة الشيخ الطيب، ويقيناً ستشهد ردود فعل إيجابية من المرجعية الشيعية خصوصاً».
إن هذه الدعوة التي أطلقها شيخ الأزهر منطلقة من تاريخ وخلفية فكرية لعلماء الأزهر الشريف، يشهد لها التاريخ المعاصر عبر جمعيات التقريب بين المذاهب، ترأسها علماء معروفون، وتركوا خلفهم إرثاً تاريخياً، فكانوا السبّاقين إلى طرح الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل، الذي يستوعب المدارس الفقهية السنية والشيعية.
قبل الحديث عن أطر التقريب بين المذاهب، لا بد أن نشير إلى أن مفهوم «الجامعة الإسلامية» الذي نادى به الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ونادى به لاحقاً في ظروف سياسية أخرى الشيخ حسن البنا، هو أبو الدعوة إلى التقريب بين المذاهب، وإن كان مفهوم «الجامعة الإسلامية» جاء استجابة لظروف المرحلة التي مرّت بها السلطنة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ومحاولات الاستعمار تفكيك هذه السلطنة، فخرج هذا المفهوم للدعوة إلى الوحدة والترابط بين شعوب العالم الإسلامي، إلا أنه في الوقت نفسه يتضمّن في طيّاته، بطبيعة الحال، إنشاء رابطة بين مختلف المذاهب الإسلامية.
يقول العالم الأزهري الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «الوحدة الإسلامية»: «الجامعة الإسلامية تعني في الأساس ذلك التيار الفكري والسياسي الذي أبصر قادته وأنصاره أن هناك عدداً من التحدّيات التي تواجه الفكر الإسلامي والشعوب والأمم الإسلامية، سواء أكانت التحديات آتية من داخل العالم الإسلامي كالتخلف الفكري والروحي والانحدار الحضاري والصراعات السياسية والقبلية، أم آتية من الخارج... هي حركة سياسية ودينية ذات منظور إصلاحي هدفت إلى ربط الشعوب الإسلامية والملل المختلفة والأقوام المتعددة برابط الوحدة الإسلامية».
وتبرز أسماء مهمة جاءت لاحقاً، ولعبت دوراً كبيراً في الانضمام للأطر المصرية الإسلامية للتقريب بين المذاهب، ويبرز في هذا الإطار شيخ الأزهر محمود شلتوت، الذي عرف بـ«إمام التقريب»، والذي أصدر فتواه الشهيرة بجواز التعبّد، أي التقليد، بالمذهب الفقهي للشيعة الإمامية (الجعفري) للمسلمين السنة، وآمن بضرورة التقريب بين المذاهب: «لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم، وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها، وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة». كذلك قدّم الشيخ شلتوت تفسيراً للقرآن الكريم بحيث لا يتعصّب لمذهب فقهي معيّن، بل هو تفسير لجميع المسلمين، وفي عهده صدرت «الموسوعة الفقهية» على المذاهب السنية الأربعة (الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية)، بالإضافة إلى مذاهب الجعفرية والزيدية والإباضية والمذهب الظاهري.
مفهوم «الجامعة الإسلامية» الذي نادى به الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ونادى به لاحقاً في ظروف سياسية أخرى الشيخ حسن البنا، هو أبو الدعوة إلى التقريب بين المذاهب


في هذا الإطار، لا بد أن نشير إلى الجهود التي بذلها العالم المصري د. يوسف القرضاوي، قبل أحداث الربيع العربي، في التقريب بين المذاهب، وإصداره مؤلفات في هذا الإطار، «الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم»، كذلك كتابه «مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية»، وصولاً إلى آخر رسالة له في هذا الإطار «كلمة صريحة في التقريب بين المذاهب أو الفرق الإسلامية» عام 2007، في الدوحة، والتي وضع فيها الأسس التي يجب أن يُبنى عليه التقريب.
كان للجهود المصرية أثراً لدى علماء الشيعة، نذكر منهم من كان معاصراً لشيخ الأزهر محمود شلتوت في ستينيات القرن الماضي، هو العالم الشيعي البارز الشيخ حسين البروجردي، الذي دعم جمعية التقريب بين المذاهب المصرية، والتي للمناسبة كان الأمين العام لهذه الجمعية الشيخ الشيعي الشهير بالقمّي. وكان الشيخ البروجردي حريصاً على التواصل مع علماء السنة ومراسلتهم، وقراءة فقه السنة ومنه الكتاب الشهير «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» لابن رشد الأندلسي، حيث كان يعرض في دروسه الفقهية آراء المذاهب الأخرى، واشتهرت عنه مقولته في قضية الإمامة، وهي مفصل تاريخي للخلاف بين السنة والشيعة: «مسألة الخلافة لا جدوى منها اليوم لحال المسلمين، ولا داعي لإثارتها وإثارة النزاع حولها، ما الفائدة للمسلمين اليوم أن نطرح مسألة من هو الخليفة الأول».
كذلك يذكر في هذا الإطار الجهود التي بذلها المرجع السيد محمد حسين فضل الله، وأطر التقريب بين المذاهب الموجودة في إيران، وما تم الإعلان عنه اخيراً في 12 من الشهر الجاري في إيران عن تأسيس دار التقريب بين المذاهب، والعمل على تأسيس كلية فقه المذاهب الإسلامية الدولية لأتباع كل مذهب إسلامي له فقه مدون، من المذاهب السنية والشيعية.
يكاد يكون هناك إجماع بين العلماء سنة وشيعة، أن الغرب الاستعماري ليس من مصلحته أن يجري هذا الحوار، ولا أن يحقق أي نجاح يذكر، ذلك أنه مما استعرضناه في السابق من مواقف وأفكار وجهود العلماء سنةً وشيعة، ينفي أن المشكلة تكمن في الفكر الديني، ما خلا المتشددين والمتعصبين من الطرفين، بل إن المشكلة الحقيقية تكمن في قدرة السياسة وتحكمها صعوداً وهبوطاً في مسار التقريب أو النفور بين السنة والشيعة. فالاحتلال الأميركي للعراق شرّع الباب واسعاً أمام الجماعات المتشددة بين الطرفين، وأشعل حرباً أهلية عراقية خطط لها بدقة خيضت بعنوان اقتتال سني شيعي، وليس مستغرباً أن تصدر كتب من صحافيين غربيين، تتماهى مع المشروع الأميركي والغربي في العراق والمنطقة، ككتاب «أفول أهل السنة: التهجير الطائفي ومليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأميركي للعراق» لديبورا آموس، وقدّم له د. رضوان السيد، معلقاً: «المسألة ليست مسألة شيعة وسنة، وإنما هو التغول الإقليمي والدولي على العرب في حاضرهم منذ فلسطين وإلى العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن».
كذلك ما شهدته المنطقة من حروب متتالية في سوريا، واليمن، وليبيا، والتي أقحم فيها عنوان الاقتتال السني الشيعي بين طهران والرياض، بدعم غربي، والتي وجدت فيها الجماعات المتشددة مرتعاً للاقتتال بعناوين طائفية مذهبية، ساهمت في إذكائها وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت تنقل فتاوى الفتنة وإذكاء النعرات المذهبية.
ليست المشكلة في دعوة الأزهر، ولا في وجود العلماء المستنيرين، ولا في ندرة أطر التقريب بين المذاهب، بل تكمن المشكلة في السياسة، والسياسة وحدها، فهل سيدعو الأزهر الأنظمة العربية، وهل ستستجيب؟

* إعلامي فلسطيني