«صدّقوني، إنّ الزومبي مرعب أكثر من المستعمِرين»[فرانز فانون - «معذبو الأرض»]

يشير مفهوم المقاومة، في أحد جوانبه، إلى حالة كفاحية تستهدف ليس فقط استبعاداً منهجياً وشاملاً وجذرياً لكل ما استدخله المستعمِر، أو ما يعمل على استدخاله، في وعينا، من أساطير وأوهام، وفي الآن ذاته تشكيل آلية للحفاظ على السلامة الداخلية للمعارف المحلية الأصيلة، بل وأيضاً التوظيف الثوري لهذا الوعي لإعادة تشكيل الفضاء الاجتماعي ككل إلى حيز مقاوم أصبح في الحالة الفلسطينية ليس فقط شرطاً للانتصار في المستقبل، بل وحتى الوجود العربي في فلسطين كذلك. أسوق هذا التعريف لأنه يختصر لحدّ بعيد بعضاً من تجربة مخيم شعفاط الطويلة وكفاح سكانه ضد الاستعمار الصهيوني لفلسطين منذ النكبة حتى اليوم. ففي مخيم شعفاط لم يفشل المستعمر الصهيوني في مجهود ومشاريع تحويل المخيم إلى فضاء مهزوم ومشوه على طريق تصفية القضية الفلسطينية فقط، لكن السردية التي أسس لها لاجئو مخيم شعفاط منذ 1948 (ولاحقاً 1965) دفاعاً عن المخيم واللاجئ، كمفاهيم، وكحالة، وكتنظيم اجتماعي، وطريقة عيش أسست لحالة مقاومة فريدة نرى بعضاً من تبعاتها فقط اليوم في مشهديات بطولية تقارب المعجزة. التجليات البطولية المدهشة التي تابعناها في الآونة الأخيرة ليست نتاج مجهود مكثف للأطر المقاومة أخيراً (رغم وجوده) فقط، بل نتاج لتراكم كفاحي أعاد تشكيل تفاصيل الحياة اليومية على امتداد أكثر من خمسة وسبعين عاماً، شكّل التربة الخصبة لنجاح المجهود المقاوم لاحقاً. لهذا السبب بالضبط سيفشل الكيان الصهيوني في اجتراح أي استراتيجية لإحباط المقاومة. فكل مستعمر سبقهم، لا يرى الصهاينة المقاومة إلا كنتاج لحالة وظرف راهن فقط، ويراهنون أن الحلول التقنية كفيلة بإنهائها. لكنهم سيكتشفون أن الزمن التاريخي يسير لصالح المقاومة، وأن إمكانية الانقلاب على المسار التاريخي الذي أسس له اللاجئون يوماً بيوم تشبه في استحالتها إمكانية عكس عقارب ساعة التاريخ.
غرانت جوريس (جنوب أفريقيا)

قبل أيام، شاهد العرب والعالم أحد أبطال مخيم شعفاط يترجل بهدوء وثقة مدهشة من إحدى السيارات ويتجه بهدوء نحو عدد كبير من الجنود (ظهر منهم في الفيديو الذي تم تداوله أكثر من عشرة على الأقل، عدا عن جنود آخرين كانوا داخل غرفة الحاجز، أو في أبراج المراقبة أو داخل السيارات العسكرية التي كانت في المكان)، ثم يستلّ سلاحه ويبدأ بإطلاق الرصاص من مسافة الصفر. هذه الشجاعة الفائقة التي لا يمكن أن تصدقّها فعلاً إلا إذا رأيتها بأم عينيك، ليست وليدة لحظة، وما قام به هذا البطل الفذّ ليس فعلاً يمكن لأي إنسان التكفل به. بل هي نتاج تاريخ طويل من تراكم طبقات من المقاومة بكل أشكالها، خاضها سكان مخيم شعفاط لينتجوا حيزاً اجتماعياً مقاوماً استولد بدوره فدائياً بعد الآخر.
هكذا، أعطانا المخيم قبل أيام، تلك المشهدية الفذة التي تقارب الخيال وهذا النوع من الفدائيين الذي لا تلده النساء فقط، بل ظروف تاريخية وبيئة حاضنة وفضاء اجتماعي احتاج اختمارها على ما هي عليه اليوم أكثر من سبعين عاماً. لهذا بالضبط لا يمكن لأحد أن يصدق ما حصل لو كان مجرد سردية أو قصة شفهية ما لم يرها بعينيه، وكلنا رأيناها بأعيننا. بقية القصة أصبحت معروفة: بطل فلسطيني جديد يطل من مخيم شعفاط يدهش العالم بشجاعته الفائقة، تماماً مثل أبطال فلسطينيين آخرين سبقوه كإياد العواودة، عمر أبو ليلى، رعد خازم، مهند الحلبي، بهاء عليان، أسعد الرفاعي، صبحي أبو شقير، إبراهيم النابلسي، عبد الحميد أبو سرور، أشرقت قطناني، وغيرهم من قائمة طويلة سيخطئ من لا يراها كقائمة بأسماء طلائع جيل التحرير الفلسطيني الحقيقي. هؤلاء الأبطال لم يظهروا فجأة كصاعقة في سماء صافية وبلا مقدمات، بل هم نتاج تاريخ طويل من الكفاح والعذاب والتحديات استولدت في أيامنا أبطالاً تقارب حقيقتهم وشجاعتهم الخيال. وبطل مخيم شعفاط الاستثنائي الآن، لن يكون استثناء أبداً في المستقبل. بل هو أحد تجليات المعجزة التي استولدتها تجربة مخيم لم يتوقف يوماً واحداً عن المقاومة، وما نراه من أبطال يقاربون في شجاعتهم الأساطير هي ثمرة تراكم نضال ومقاومة طويلة بدأت في عام 1948 ولن تتوقف إلا بفلسطين حرة عربية.

الطريق إلى شعفاط
لم يكن مخيم شعفاط المحطة الأولى للاجئين الفلسطينيين الذين طُردوا من أراضيهم أثناء استعمار فلسطين بين العامين 1947-1948، فبعضهم أصبحوا مع وصولهم لمخيم شعفاط بين عامَي 1964-1965، لاجئين للمرة الثانية أو الثالثة، وبعضهم انضم للمخيم حتى لاحقاً على ذلك التاريخ، كما سنرى. كانت المحطة الأولى بعد التطهير العرقي الذي واكب النكبة هي مخيم المعسكر، الذي أنشئ داخل أسوار مدينة القدس عام 1948، بالقرب من حائط البراق في الجهة الغربية للمسجد الأقصى. ولهذا المكان رمزية هائلة رافقت سكان المخيم وأثرت في تشكيل شخصيتهم ولاحقاً مقاومتهم حتى اليوم. وليس ذلك فقط لكون المخيم حينها المخيم الوحيد في ما تبقى من القدس تحت السيطرة العربية بعد احتلال قسمها الغربي. وليس ذلك أيضاً بسبب رمزية القدس وقرب المخيم من المسجد الأقصى. ولكن لأن كل ذلك، وغيره، سيضع سكان المخيم في حالة مواجهة ومقاومة دفاعاً حتى عن وجودهم كلاجئين منذ اليوم الأول. فلقد تم لاحقاً إخلاء المخيم قسراً عامَي 1964-1965 من داخل أسوار القدس، ونقل سكانه الذين كانوا حينها 150 عائلة تقريباً، إلى أرض مستأجرة لمدة 99 عاماً تبلغ مساحتها 100 دونم، ازدادت لاحقاً لما يقرب من الـ 200 دونم في منطقة شعفاط/ عناتا على بُعد أربعة كيلومترات من مركز القدس من قبل الحكومة الأردنية، حيث أقيم المخيم الحالي. لم يكن ذلك التحدي الأول الذي واجهه سكان المخيم، لكنه بالتأكيد كان تحدٍّ لم يخل من طعم الاقتلاع الأول من الوطن، كما يشير أهل المخيم.
كل هذا حدث طبعاً قبل احتلال القسم الشرقي من القدس، وقبل ضمها لاحقاً من قبل الصهاينة، ما يدفع لتخيل حال القدس اليوم، لو لم يتم اقتلاع المخيم من تلك البقعة الحساسة بالذات قبل النكسة بعامين فقط – بالتأكيد كانت محاولات اقتحام الأقصى وتهويد المنطقة ستكون أصعب مع وجود المخيم على الجانب الغربي للمسجد الأقصى. ربما لهذا السبب أيضاً قام الكيان بإزالة حارة المغاربة مباشرة بعد أيام من حرب عام 1967. كان المخيم الجديد، في شعفاط، يتألف حينها من 500 شقة، كل منها مكونة من غرفتين صغيرتين. وفيما كان أغلب سكان المخيم ينحدرون حتى ذلك الوقت (1964-1965) من 56 قرية في غرب القدس مثل القطمون، لفتا، المالحة، الولجة، بيت ثول، سريس وكذلك من مدن اللد، الرملة، ويافا أيضاً، إلا أن ذلك تغيّر لاحقاً. فبعد عدوان 1967، بدأ لاجئون جدد يتوافدون إلى مخيم شعفاط إضافة إلى اللاجئين القدامى، ولاحقاً وافدون من سكان القدس بفعل السياسات الصهيونية التي تستهدف المدينة. وحتى عام 2015، كان يعيش في مخيم شعفاط أكثر من 24 ألف فلسطيني، 50٪ منهم، 12500، لاجئون مسجلون وفقاً لتقرير «الأونروا» للعام 2015. وطبعاً هذا لا يشمل باقي سكان المخيم والأحياء المتداخلة معه الذين يقرب عددهم حالياً من 150 ألف فلسطيني. وبرغم أن أهالي مخيم المعسكر أجبروا قسراً وبالقوة على إخلاء مخيمهم والانتقال إلى المكان الجديد في شعفاط في ظل الحكم الأردني، إلا أن الاقتلاع لم يخل كذلك من الدعاية المغرضة التي تم نشرها حينها لتسهيل تنفيذ القرار، والتبرؤ من تبعاته من قبل منفذيه. فبرغم أن الإخلاء قارب في شكله الاقتلاع الأول، عملت أدوات الدعاية على تشويه اللاجئين وتحميلهم كضحايا للقرار مسؤولية الانتقال مدعية أنهم مجرد مجموعة صغيرة تبحث عن حياة أفضل ومكان سكن أكبر خارج أسوار المدينة المقدسة. في تلك اللحظة بالذات بدأت مقاومة سكان مخيم المعسكر تأخذ شكلاً جديداً عن كل ما سبق.
كان الهدف من كل الممارسات الاستعمارية الممنهجة جعل لاجئي مخيم شعفاط مختلفين عن باقي الفلسطينيين، بسبب خصوصية شعفاط الديموغرافية والعمرانية والجغرافية


ففي مواجهة هذه الأسطورة الكاذبة، بدأ أهالي مخيم المعسكر بإطلاق مواقفهم الخاصة حول المكان الجديد، مخيم شعفاط، ليس أقلها إطلاق تسمية «المكب» (أي المكان الذي تجمع فيه النفايات) على المكان الجديد حينها. قد يكون هو فعلاً مكب أصلاً، ولكن إبراز هذه الميزة من ضمن توصيفات عديدة للمكان الجديد هي التي تهمّنا هنا. ففي هذه السردية تكمن ممارسة مقاومة مخطط الإخلاء من مخيم العسكر، وهي شكل جديد اجترحه أهل المخيم الذين كان صراعهم مع الكيان الصهيوني كفلسطينيين يأخذ شكلاً مختلفاً – ذكر كثيرون منهم، في مقابلة مع الكاتبة، أنه رغم ضيق المنازل في مخيم المعسكر (العائلة كلها كانت تقطن في غرفة واحدة صغيرة فيما الدعاية تركز على أن المكان الجديد أوسع)، إلا أنهم قاوموا الترحيل ورفضوا الشقق الجديدة الأوسع. إضافة إلى ذلك أيضاً، قامت سردية مقاومة الإخلاء على إبراز مخيم المعسكر على أنه النقيض الكامل لـ«المكب».
فوفق السردية التي يرويها أهل المخيم، فإن المخيم (المعسكر) كان قد أقيم في حارة تسمى حارة أو حي «الشرف». وفيما يُرجع البعض أصل هذه التسمية كنكاية بحارة «السكناج» (اليهود المتدينين) الملاصقة لمخيم المعسكر، إلا أنها لعبت دوراً في مقاومة الترحيل الثاني في عام 1965. هكذا أصبحت هذه التسمية والتوصيفات الخاصة مبرراً لتساؤل كثيرين أثناء مقاومتهم إخلاء المخيم: كيف لنا أن نترك المخيم (حي الشرف) والذهاب إلى مكان يوصف، من ضمن أشياء كثيرة، بـ«المكب»؟ وحتى عندما تم اقتلاع اللاجئين من مخيم المعسكر في حي الشرف بالقوة لم يذهبوا جميعاً إلى مخيم شعفاط. فبعضهم اختار اللجوء إلى مخيمات أخرى كمخيم عقبة جبر في أريحا وأماكن أخرى (حسب سرديّتهم أيضاً) وكأنه نوع آخر من الاحتجاج على ما حل بالمخيم ورفضاً لخيار السلطة بمخيم بديل. لم تكن القضية، طبعاً، في رفض المكان الجديد الذي اختارته السلطات الأردنية لإقامة المخيم، أي شعفاط، بقدر ما كانت رفضاً ومقاومة لما اعتبره أهل المخيم اقتلاعاً ثانياً من جهة، وتهديداً لفكرة متجذّرة عند كل لاجئ فلسطيني منذ اللحظة الأولى للاقتلاع الأول: العودة تكون فقط إلى المكان الأول في فلسطين. رغم ذلك، سيحمل اللاجئون الذين انتقلوا إلى شعفاط، ومن انضم إليهم لاحقاً، تلك الفكرة معهم، وسيتحول الاقتلاع الثاني إلى تجربة مقاومة جديدة يُراكمها أهل شعفاط إلى تجربتهم الطويلة من المقاومة التي تستمر وتتصاعد.

التشويه على طريق التهويد
لم تكن الأساطير والدعاية التي حاولت النيل من مخيم شعفاط لاحقاً، حتى بعد الاقتلاع الثاني، خاصة به فقط. فالأساطير والدعايات استهدفت كل المخيمات بهدف النيل من صورتها وتشويهها بعد أن أضحت مكاناً للثورة ومعقلاً للثوار («خيمة عن خيمة تفرق»، كما تشير عبارة الشهيد غسان كنفاني في «أم سعد»، عن تحول خيمة اللجوء إلى خيمة الثورة). لكن، ورغم أن الحملة كانت منهجية وتستهدف تصفية القضية الفلسطينية باستهداف رمزية المخيم وارتباط وجوده ووجود اللاجئين باستدامة قضية فلسطين وبحق العودة. ورغم أن الحملة استهدفت، ولا تزال، المخيم كفكرة، وكحالة وجودية، وكتجربة إنسانية ومقاومة فريدة. وبرغم أن الحملة أيضاً استهدفت كل المفردات والأفكار الثورية في التاريخ الفلسطيني الحديث بالعمل على إعادة تعريفها لتتفق مع متطلبات الخيارات السياسية التي لا مجال فيها لفكرة المخيم الأصلية التي بشّرنا بها الشهيد كنفاني، ولا مجال فيها حتى لفكرة فلسطين ذاتها التي تم العمل على إعادة تعريفها أيضاً، إلا أنه كان لمخيم شعفاط تحديداً خصوصية في هذه الحملة. فهو المخيم الوحيد الموجود في حدود مدينة القدس (يبعد أقل من أربعة كيلومترات عن مركز المدينة) التي تتعرض بدورها لهجمة شرسة خاصة تستهدف عروبتها وفق مخططات الاستعمار الاستيطاني التهويدية للمدينة. هكذا أصبح استهداف مخيم شعفاط بسبب موقعه، بالإضافة لكونه مستهدفاً كمخيم بحد ذاته، أولوية صهيونية تتجاوز المخيمات الأخرى.
فتهويد القدس واستئصال عروبتها هو مزيج معقد من الإقصاء/ النقل/ المحو المستمرة منذ عام 1948 ولاحقاً عام 1967. والإقصاء/ النقل/ المحو ليس إلا ممارسة واحدة من بين العديد من الممارسات الاستيطانية الاستعمارية الأخرى، التي تستهدف اجتثاث الجذور الثقافية والجغرافية والتاريخية والسياسية للفلسطينيين في أرض فلسطين وجعلها أرضاً لما يسمى «الشعب اليهودي» البحت. من أهم هذه الممارسات السائدة محو الذاكرة، بما في ذلك تغيير أسماء المدن والقرى والمدن، التخلص من السكان الأصليين عن طريق الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، الإزالة، النقل، محو الهوية، واستنزاف المواقع الأثرية، كما يذكر المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة. هذه الممارسات تستهدف أيضاً استدامة وجود المستعمِر الذي يعمل على خلق واقع جديد وفضاء ديموغرافي وسياسي واجتماعي بديل للأصلي. ومن أجل السيطرة على القدس وإفراغها من سكانها العرب الأصليين، بدأ المستعمِرون الصهاينة بتنفيذ سلسلة معقدة ومترابطة من السياسات في المدينة المقدسة. فمنذ عام 1967، كان الكيان الصهيوني يقضم القدس شبراً شبراً، وبيتاً بيتاً، وشارعاً شارعاً، وحياً حياً. وعلى مدار خمسة عقود، كان الكيان يُغَيِّر القدس ديموغرافياً بالطرد والقتل والحرق وهدم البيوت ومنع البناء وسحب «الإقامات» والحصار والضرائب والاستيطان. ومنذ النكسة كان الكيان الصهيوني يخطط وينشئ البنى التحتية المطلوبة لتمكينه من السيطرة على القدس كالأوتوسترادات وشبكات سكك الحديد العديدة في القدس وحولها. ومنذ عام 1967، كان الكيان الغاصب يشرّع قوانين الضم والتهويد والتهجير عبر سلسلة طويلة مما يعرف بـ«قوانين الأساس» ذات الطابع الدستوري في كيان لا دستور له. كان الكيان ببساطة يعمل على تغيير معالم القدس وحدود القدس وجغرافيا القدس وتاريخها وحاضرها. فسحب الهويات (الإقامة) التي بدأت مباشرة منذ احتلال القدس عام 1967، ولاحقاً ضمها، كانت تتصاعد عاماً بعد عام وبلغت ذروتها بالذات بعد توقيع اتفاقية أوسلو، للتأكيد على علاقة ما يجري بالخيارات السياسية – ففي عام 2008 مثلاً ألغيت تصاريح «الإقامة الدائمة»، كما يسمّونها، لـ 4577 فلسطينياً، وهو الرقم الأعلى منذ أوسلو وحتى ذلك الوقت – فأنت لا تحتاج فقط لتصريح للإقامة في المدينة التي يمتلئ ترابها بعظام أجدادك لقرون، بل إن الوقاحة الاستعمارية تتطلب منك تجديد هذا التصريح باستمرار ويضع كل عربي في القدس تحت الاختبار الدائم بتسليط سيف سحب الإقامة على رأسه/ا.
وهذه الحملات الطويلة والمنهجية التي تستهدف عروبة القدس وتعمل على تهويدها كانت ولا تزال لها تبعات مباشرة وكبيرة على مخيم شعفاط بالذات. ففي مخيم شعفاط ترافقت الهجمة على القدس بالعمل على سلب هوية المخيم، الذي يندّد بمجرد وجوده بالمشروع الاستعماري الصهيوني، كما يذكر بصوت عال دائماً ومن قلب القدس بحق العودة إلى كل فلسطين. فالاستعمار الصهيوني عمل بشكل منهجي على تغيير واقع المخيم الديموغرافي والعمراني ارتباطاً بما يحدث في القدس وانتقال العديد من السكان الجدد من أهل القدس الذين يحاولون الحفاظ على الإقامة إلى المخيم، وما يترتب على ذلك من تحولات عمرانية أيضاً. ثم جاء بناء جدار الفصل العنصري الذي أحاط بالمخيم بهدف سلب صفة اللجوء داخل هذا الجدار. عند دراسة بعض ما نتج عن سياسات التهويد والإقصاء والترحيل لأهل القدس إلى الأحياء حديثة البناء في المخيم، كونها أقل تكلفة من السكن في أحياء القدس، أصبح عدد السكان يساوي، وربما يقل عن عدد الوافدين (إلى الأحياء). لكن لم يفشل الاستعمار الصهيوني بسلب أهل المخيم هويتهم التي يعتبرونها متلازمة لهم إلى يوم التحرير فقط، ولكن النتيجة كانت معاكسة تماماً. استطاع المخيم، على عكس ما كان يرغب ويخطط المستعمِر الصهيوني ليس فقط استيعاب التحولات الديموغرافية والعمرانية والحفاظ على هوية المخيم الأصيلة، بل وتحويل هذه التحولات إلى أدوات مقاومة.

مقاومة الاغتراب الثلاثي
«يا إحنا يا إنتو في البلاد. مش رح يقبل الشعب الفلسطيني إلا إنو تطلعوا من بلادنا». هذا ما قاله الطفل أنس، ابن الشهيد إبراهيم العكاري لصحافي صهيوني في أعقاب عملية والده البطولية وهدم منزلهم، وهو لا يتجاوز العشر سنوات من العمر حينها. لكن قصة هدم منزل عائلة الشهيد العكاري وإعادة بنائه تختصر قصة المخيم الذي برغم كل الجهود الصهيونية لم يتآكل كمساحة للمقاومة، بل، على العكس، استطاع استيعاب حتى من لم يكن جزءاً مباشراً من قصة النكبة من غير اللاجئين الذين وفدوا إلى المخيم نتيجة الحملة على القدس ودمجهم في صيرورة مقاومة ممتدة منذ عام 1948.
ففي مشهد مذهل فعلاً وبعد فشل الكيان الصهيوني عدة مرات في مجرد الوصول فقط إلى بيت الشهيد وهدمه، واضطراره لاحقاً لاستقدام أكثر من 1200 جندي مدجج بالسلاح للوصول إلى المنزل وهدمه، كانت المفاجأة في ردة فعل المخيم التي ستؤسّس لمسار جديد من مقاومة هدم البيوت وتحولها إلى عبء على الصهاينة أنفسهم. ففي أقل من 24 ساعة تم جمع التكاليف وبناء بيت لعائلة الشهيد. ومن مخيم شعفاط بدأت حملة من نوع غير مسبوق، «هم يهدمون ونحن نبني»، التي انتقلت بعدها إلى نابلس وغيرها من مناطق الوطن المحتل هدفها إعادة بناء بيوت المقاومين التي يهدمها الكيان الصهيوني. أشارت الأنباء الأولية إلى تمكّن أهل المخيم من جمع مبلغ 95 ألف شيكل خلال 6 ساعات فقط، وبعد 24 ساعة وصل المبلغ إلى 320 ألف شيكل (86 ألف دولار). هذا المشهد سلط الضوء على دور وتأثير الحاضنة الاجتماعية وخصوصاً الأشخاص الذين تطوعوا من أصحاب العقارات الخاصة والوافدين إلى المخيم. فهؤلاء الوافدون الذين ليس لهم روابط مباشرة بالنكبة ولم يختبروا التهجير الأول والثاني الذي عانى منه اللاجئون كانوا يتخيلون المكان الذي يعيشون به كمكان للمقاومة، وأصبحت حكايات النكبة والإصرار على نيل حق العودة بالصمود جزءاً من الهوية الجماعية لسكان المخيم، وليس فقط هوية اللاجئين. وبالتالي فإن الوافدين الذين أنتجتهم السياسات الاستعمارية كفئة جديدة في مسعى القضاء على روح المقاومة، أعاد المخيم صياغة هويتهم على شاكلة هوية اللاجئين المهجرين كهوية أصلية وأصيلة للمخيم وأهله، وأعاد إنتاج تصوّر وتخيل الإحساس بمكانة المجموعة على أنه الإحساس بالمكان. هكذا شكّلَت الخرائط المعرفية البديلة لمخيم اللاجئين التصورات الذهنية وأثرت على سلوك كل الفلسطينيين ومواقفهم وتصرفاتهم. في المقابل، كانت تكاليف محاولات هدم منزل الشهيد العكاري وتجنيد 1200 جندي لها في الهجمة الأخيرة أكثر تكلفة بما لا يقاس من البيت الذي أعيد بناؤه (قدرتها بعض المصادر بملايين الدولارات).
لكن القصة طبعاً لم تبدأ باستشهاد إبراهيم العكاري أيضاً، بل هي نتاج لصيرورة مقاومة يومية من أجل الحفاظ على الهوية الأصلية بالحد الأدنى، ولاحقاً التأسيس لمقاومة طويلة المدى على طريق العودة. فذكريات نساء مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، مثلاً، عن الاقتلاع (النكبة) رَسَخَت في الأماكن التي منحتهن القوة للتغلب على اغترابهن الثلاثي (1948، 1966، واليوم في مواجهة تحدي نزع صفة اللجوء وسلب حق العودة وإخراج المخيم من حيز مدينة القدس). كان هناك ميل دائم لتقديم سرديات أقرب إلى الحاضر، أو إعادة صياغة السردية، ما يجعل الحاضر قوة دافعة باستمرار لأفعالهن. هكذا، تم ببطء، ولكن بثبات ودأب مدهش من قبل هؤلاء النسوة إنتاج المساحة الاجتماعية المقاومة في مخيم اللاجئين من قبل لاجئي 1948 الأصليين كمنتج استدخله الوافدون إلى وعيهم (الذين انتقل بعضهم إلى المخيم من أجل الحفاظ على الإقامة في القدس المقدسية - والتي استخدمت لترهيب المقدسيين، وهي برأيي أسطورة رابعة ناقشتها في مكان آخر).

كانت هذه المواجهة إعلاناً واضحاً أن اسم «حي الشرف» أصبح مع الوقت من لحم ودم وأصبح وعياً مقاوماً يضرب على الحاجز القريب فنسمع صداه في حيفا البعيدة


يمكن رؤية الفضاء الاجتماعي على أنه وسيط ونتيجة للممارسة الاجتماعية، وكيف أصبح الفضاء الاجتماعي مجالاً وأساساً للعمل الوطني لجميع السكان. بشكل عام، وبالنسبة إلى سكان المخيم الوافدين والأصليين، استمرت عملية تربية مقاومة الاستعمار دون انقطاع: شاهدت الكاتبة مثلاً كيف عندما تتجمع النساء، يتبادلن ذكريات أحداث «النكبة»، وكيف استند الوافدون على ذكريات الآخرين واستدخلوها في وعيهم، وكيف تم نقل روايات الماضي كجزء من الحاضر في عملية حية من إحياء الذاكرة الجماعية وإعادة اختراعها بشكل مقاوم، لم تكن أبداً في حسابات المُستعمِر. شاهدتُ النساء يجتمعن ويتطوعن بوقتهن، وشاهدت النساء الوافدات يتبرعن بأموالهن وذهبهن، ويخلقن إحساساً قوياً بالمجتمع وينتجن نموذجاً مدهشاً للمقاومة الجماعية المجتمعية - وبالتالي، تجربة معيشية فعلية للفضاء وإحساس بضرورة المقاومة.
فعلى الرغم من التدفق السريع والكبير للمقدسيين (الوافدين) وتداخل حدود المخيم مع شعفاط وعناتا، وتغيير الحيز المادي والبيئي والاجتماعي للمخيم، وعلى الرغم من اتفاقية أوسلو كخيار سياسي لا مكان فيه للفضاءات المقاومة، إلا أن هذا المخيم، الذي كان يسكنه اللاجئون «المقيمون» بشكل حصري، ومكان يسكنه أيضاً «الوافدون» (حوالي 50٪)، لم يتآكل كمساحة للمقاومة. على العكس، أصبح المكان يمثل التعريف المعجمي للحيز المقاوم للاستعمار. أصبح مشهداً مؤسساً لاستعادة حق العودة، أو مساحة منتصرة في مواجهة اضطهاد المستعمِر ومحاولات الإبادة السياسية والثقافية.
ما تجب الإشارة إليه كمتغير فاعل جداً في هذا التاريخ هو دور دخول نساء المدينة إلى فضاء المخيم في إنشاء قاعدة معارف نقدية تأملية شكلت ذخيرة هامة لمقاومة لاحقاً، وقاعدة قوة للنساء اللاجئات أنفسهن حيث أضاف طبقة جديدة من المقاومة بالنسبة إليهن وللمخيم أجمع. كانت ذكريات النساء اللاجئات، وطريقة سردها، استناداً إلى تجربتهن الحياتية في المكان والزمان، مصدراً للتلاحم مع الوافدين الذين دمجهم المخيم في سرديته وتاريخه بشكل مدهش وشحذت طريقاً متخيلة جديدة لمقاومة الاستعمار. هكذا أيضاً أصبح الوافدون جزءاً من فضاء اجتماعي مقاوم مختلف وشاهداً على انتصار المخيم في هذه المعركة الوجودية ثقافياً وسياسياً ووطنياً. وهذا لم يكن إلا جزءاً فقط من عملية تاريخية معقدة وطويلة لإنتاج فضاء اجتماعي مقاوم وحيز للثورة على أنقاض التطهير العرقي الذي بدأ في النكبة وأيضاً أسس لمسار مضاد لها. لم يستطع، ولن يستطيع جدار الفصل العنصري الذي أحاط بالمخيم ومعه كل السياسات والتقنيات الصهيونية التهويدية في القدس من المس بهوية اللاجئ وحقه بالعودة، وإنما تحول مخيم شعفاط إلى ساحة مقاومة.
كان الهدف من كل الممارسات الاستعمارية الممنهجة جعل لاجئي مخيم شعفاط مختلفين عن باقي الفلسطينيين، بسبب خصوصية شعفاط الديموغرافية والعمرانية والجغرافية كمخيم في قلب مدينة القدس. هذه عملية تعرف في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية عموماً بـ«التولد العرقي»، «اثنوجينسيس». طبعاً، هذه عادة عملية محفوفة جداً بالمخاطر، ويمكن بوضوح تلمس بصمات الأنظمة الاستعمارية فيها في كل مكان شهد مثل هذه الحالة. ولكنها في حالة مخيم شعفاط ونتيجة للسياسات الصهيونية المنهجية وشبه اليومية، وأيضاً السياق السياسي الفلسطيني والخيارات السياسية الكبرى (القبول بالتسوية) أخذت شكل هندسة اجتماعية واضحة أيضاً تستهدف استئصال الهوية الأصيلة والأصلية لسكان المخيم.
هكذا اصطدمت استراتيجية الحكم الاستعماري في القهر اليومي الممنهج بسياسة التهويد والقهر للسكان الأصليين، بعملية تحدٍّ لهوية اللاجئ وصورته حتى عن نفسه وعن أهله. تكوين ما يشبه «الهوية الإثنية» في هذه الحالة هي عملية هيكلية مفروضة بالقوة وبمنهجية خلق الأمر الواقع، وتتّسق تماماً مع عملية الإبادة الجماعية التي يواجهها الفلسطينيون سياسياً وثقافياً ووطنياً وعملية تهويد فلسطين، وليس القدس فقط. فمن حملات الترهيب العنيفة اليومية لكسر روح الفلسطينيين وإعادة تشكيلها وفق متطلبات مشاريع الإبادة (ومشروع التسوية ليس إلا أحدها) كالقتل اليومي (أكثر من سبعين شهيداً منذ الانتفاضة الأولى فقط)، هدم البيوت (177 مبنى ومنشأة في عام 2021 في القدس فقط، فيما يعتبر الاحتلال أكثر من 20 ألف مبنى في القدس «غير مرخص» ومهدد بالهدم)، استهداف الأطفال بالذات بالقتل والاعتقال والتنكيل للنيل من روح الأهل (بلغ المعدل الشهري لاعتقال الأطفال الفلسطينيين 420 طفلاً شهرياً منذ 2016 وحتى اليوم)، العقوبات الجماعية المستمرة كقطع الكهرباء المتعمد عن المخيم لأيام، وعزله الكامل عن محيطه عبر الجدار، والقيود الجماعية التي تستهدف حتى أصغر تفاصيل حياة أهل المخيم، وتباعاً الإهمال المتعمد للبنى التحتية المادية والاجتماعية للمخيم (التي أشرف على خرابها بشكل منهجي ما يسمى رئيس بلدية القدس السابق والأخطر الصهيوني تيدي كوليك)، وصولاً إلى الحاجز «الدولي» المقام على مدخل المخيم (المدخل الوحيد للمخيم في ظل استمرار إغلاق المدخل الآخر) الذي يمر عليه آلاف السكان يومياً، عدا عن تفاصيل المعيشة الصعبة جعلت الحياة في المخيم قاسية جداً. لكن روح أهل المخيم لم تنكسر، وإنما أصبحت المقاومة أكبر وأشمل وأقوى.

خاتمة: «جدوى المقاومة دائمة»
حين تقدّم الفدائي القادم من شعفاط نحو رتل الجنود الصهاينة على الحاجز وبدأ بإطلاق النار، ربما انشغل البعض في تعداد القتلى الصهاينة، أو النتائج المباشرة للعملية البطولية، أو حتى في الشجاعة اللافتة جداً للفدائي الجديد. لكن ما حصل على الحاجز ساعتها كان أكثر بكثير من كل ذلك. ما حدث حقاً كان بشائر نتيجة مواجهة بين تاريخين طويلين متصارعين على مدار أكثر من سبعين عاماً. وحتى لا يكون فهمنا للمقاومة قاصراً، فإن من تواجه لحظتها على الحاجز كان كل التاريخ الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بكل مقدراته، وكل مشاريع التهويد والاستهداف للقدس، لمخيم شعفاط وهويته وهوية سكانه، لفكرة المخيم ذاتها، والأهم مشروع كسر روح سكان المخيم وإعادة صياغة كلية لوعيهم بالذات وبالمخيم وبالعدو، مع سلسلة طويلة من المشاريع المقاومة المضادة التي بدأت مع اليوم الأول للتطهير العرقي بحق شعبنا. كانت هذه المواجهة إعلاناً واضحاً لا لبس فيه أن القصة الأولى التي روتها جدة لطفل ولد في المخيم عن التهجير الأول والثاني، عن فلسطين وشعبها وشكلت ذاكرته ووعيه وهويته يمكن أن تثمر بعد عقود عملاً فدائياً فذاً. فبعد أكثر من سبعين عاماً لم يفشل المشروع الصهيوني بفصل مخيم شعفاط عن محيطه المباشر في القدس وصناعة هوية أخرى لسكانه، بل أثمرت مقاومة أهل المخيم أبعد من ذلك في حيفا التي خرج أهلها يهتفون للمخيم. كانت هذه المواجهة إعلاناً واضحاً أن اسم «حي الشرف» الذي حمله سكان المخيم لعشرات السنين أصبح مع الوقت من لحم ودم، وأصبح وعياً مقاوماً يضرب على الحاجز القريب فنسمع صداه في حيفا البعيدة. كل مقاومة صغيرة وكبيرة لأهل المخيم والوافدين إليه من أهل القدس والضفة، ومنذ اللحظة الأولى للاقتلاع من الوطن في 1948، ولاحقاً من قلب القدس في 1965، تراكمت يوماً بعد يوم لتضرب أخيراً بقوة على الحاجز، وتهدم كل ما ظن الكيان الصهيوني أنه بناه على مدى عشرات السنين.
ربما رأى العالم فدائياً واحداً فقط يخرج إلى الحاجز ويهدم بيده كل ما ظن الصهاينة أنهم بنوه في عشرات السنين لسرقة القدس وتغريب المخيم عن محيطه وأهله. لكن من خرج على الحاجز في يوم السبت، الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، كان جهد كل أم وكل أب، كل جدة وجد، وكل لاجئ ووافد إلى المخيم في بناء فضاء عربي فلسطيني وحيز مقاوم استولد فدائياً جميلاً ستكشف الأيام أنه لن يكون إلا أحد طلائع هذا الجيل المقاوم الفذ، وليس آخره.
* أستاذة علم الاجتماع في جامعة بيرزيت