تبدو الكنيسة الرسميّة، أي الكنيسة بما هي مؤسّسات وقيادات وأناس في مواقع المسؤوليّة، تعيش حالة نكران تامّة لواقع المؤمنات والمؤمنين، وترتاح لما يتوفّر لها من امتيازات، ومال، وتبرّعات تحصّلها من مآسي مؤمنيها، وما توفّره لها بلادنا من سلطة مطلقة في إدارة شؤونها دون حسيب ولا رقيب، وحتّى من خدمات في السلطة المدنيّة توفّرها لها الدولة بحكم تناغم مصالح المال والسلطة بينهما. يرتاح «الراعي» بينما تتعب «الرعية» من ألف ذئب وذئب: ذئب السلطة المدنيّة التي تسطو على الشعب وتوفّر للقيادات تسهيلات معلومة وغير معلومة، ذئب السلطة الاقتصاديّة التي لا تشعر معظم القيادات بأنيابها، وذئب بعض القيادات نفسها وهو موضوعنا اليوم. بات العاقل يخشى أن يصبح الإنتماء إلى القيادة الكنسيّة ملجأ لكلّ مَن يريد حمايةً من ارتكاب، فالموقف الرسميّ للكنيسة عبر السنوات يدلّ على إدمان القيادات حماية الجماعة الكهنوتيّة الحاكمة بأمرها من أيّة إدانة عند أيّ ارتكاب، وتحويل القيادات – عمليّاً وليس رسميّاً - إلى جماعة خارجة عن القانون. وفي سبيل ذلك يتمّ اللغو بكلمات الإنجيل واستخدامها في غير موضعها للإيحاء بأنّه لن يُحاسب أحد لارتكاب ما، لأنّ «منطق» الكنيسة هو غير منطق العالم، وبأنّ الرحمة فيها هي الأولويّة. هكذا، يُستخدم الحقّ في سبيل تسويغ الباطل؛ فالرحمة في الإنجيل تعني أن يُفتح الباب دائماً وأبداً أمام الإنسان لكي يغيّر طرقه ويعود عن ضلاله ليحيا حياة محبّة منسجمة مع الله-المحبّة؛ لكنّ الرحمة لم تعنِ يوماً غيابَ السؤال والمحاسبة، ومواجهة الباطل بالحقّ الذي يحرّر، وإحقاق الحقّ لصاحب الحقّ، والوقوف إلى جانب المعتدى عليه والمظلوم. لقد وعظَت القيادات طويلاً، وكما يجب، بأنّ تفسير آيات الإنجيل لا يتمّ بشكل مجتزأ وإنّما يتمّ في ظلّ كامل الكتاب، بينما هم يجتزئون الإنجيل في قضايا الارتكابات، فالرحمة -التي نحتاج جميعنا إليها - لا تختصر كلّ الرسالة الإنجيليّة، بل هناك أيضاً الدفاع الأساس عن المظلومين الذين سمّاهم يسوع «إخوتي الصغار»، وجعل من الدفاع عنهم وخدمتهم معياراً لدخول الملكوت. فأين هي الكنيسة الرسميّة منهم؟ أين هو عمل القيادة الكنسيّة التي تعيد على أسماعنا كلمات جوفاء وعامّة ومُضَلِّلة حول الرحمة بينما هي لا تأبه لما يحدث للرعيّة؟
منذ أسابيع قام موقع إلكتروني بتسريب لرسالة للسيّدة هيلينا ديتكو مرسَلة إلى بريد المطرانيّة وموجّهة لمطران أميركا الشمالية (المستقيل) جوزيف الزحلاوي تشرح فيها كيف دمّرت تلك العلاقة التي دامت 17 عاماً (2000-2017) زواجها وتسبّبت بطلاقها عام 2004، وكيف سبّبت سرّيتها الأذى النفسيّ الكبير لها، وتوضح أنّها ترسلها من أجل الأجيال القادمة. تخبر السيّدة ديتكو عن تودّد المطران لها وإبلاغها في إحدى الخلوات الروحيّة أنّه «يحبّها بطريقة خاصّة» لتبدأ علاقتهما بعد عدّة أشهر؛ وتخبر عن اكتشاف زوجها لتلك العلاقة وتقديمه شكوى كنسيّة لم تصل إلى أيّ مكان بسبب سلطة المطران الزحلاوي. ثمّ تشير بحكمة لا يمتلكها القادة إلى أنّ الكنيسة ليست مكاناً للأسرار وأنّها بسبب متابعتها لبرنامج في الكنيسة الكاثوليكيّة باتت تفهم ما مرّ بها وبأنّ المطران الزحلاوي هو إنسان «ماكر ومفترس» استغلّ حالة الاكتئاب التي كانت تمرّ بها بعد الوضع. وتشير فيها إلى أنّها تعتقد أنّ المطران الزحلاوي كان يقيم علاقات عديدة مع نساء أخريات، وأنّها مصدومة بأنّه حاول مجدّداً التواصل بها في ربيع 2022 تاركاً لها رسالة صوتيّة. وتطلب منه أخيراً ألّا يعاود الاتّصال بها مجدّداً.
هل تمّ استخدام الموقع الروحيّ الكنسيّ لاستغلال السيّدة ديتكو ونساء أخريات؟ هل من تصرّف «مفترس»؟ لا نعرف اليوم، ونشكّ أنّ أحداً من القيادات طرح السؤال على نفسه


علاقات الناس الشخصيّة لا تعنينا، لكن هناك ما يتجاوز حياة المطران الشخصيّة، المشكلة أنّ السيّدة عملت عنده سكرتيرة، وعندها يصبح من الضروريّ أن يتمّ التحقيق إن كان المطران الزحلاوي استخدم سلطته الوظيفيّة، وسلطته الروحيّة، ليستغلّ تلك السيّدة، وعن الظروف التي حكمت تلك العلاقة، خاصّة أنّ السيّدة تذكر في رسالتها أنّها كانت تمرّ بظروف الاكتئاب التي تجعلها في وضع قابل للاستغلال، وتتّهم المطران بأنّه «مفترس» واللفظة تُطلَق على رجال دين يقومون بمحاولات مستمرة لإساءة استخدام السلطة أو المنصب لاستغلال الآخرين جنسيّاً. كما أنّها تذكر اعتقادها بوجود نساء أخريات. هل تمّ استغلال الموقع الكنسيّ للمضايقة في الوظيفة؟ هل تمّ استخدام الموقع الروحيّ الكنسيّ لاستغلال السيّدة ديتكو ونساء أخريات؟ هل من تصرّف «مفترس»؟ لا نعرف اليوم، ونشكّ أنّ أحداً من القيادات طرح السؤال على نفسه. كيف يمكن تفادي هكذا أوضاع في المستقبل؟ كيف يمكن حماية الناس؟ كالعادة، لا أحد من القيادات يأبه.
البطريرك نشر رسالة قال فيها إنّه سيتابع الموضوع ويبلّغ عن الخطوات المناسبة بكلّ «شفافية». وأعلن المشرفون على إدارة الكنيسة في أميركا الشماليّة أنّهم عيّنوا شركة محاماة للقيام بتحقيق «مستقلّ». «الشفافية» ظهرت البارحة في تسريب التقرير السرّي للتحقيق «المستقلّ» والذي تقول فيه شركة المحاماة باستخفاف وقح، وبعد أن قامت بسؤال بضعة أشخاص، ومقابلة السيّدة، بأنّ الموضوع لا يتعدّى كونه اتّهامات دون أدلّة من نوع «هو قال» و«هي قالت»، موحية بأنّها استنتجت أنّ الموضوع لا أساس له مع أنّها لم تُنه التحقيق! وأشار التقرير إلى وجود تقريرٍ آخر منذ عام 2005 لا يبدو عليه أنّه وصل إلى نهاياته. وينصح أخيراً بأن يبقى التحقيق سرّياً لأنّه يمكن أن تستخدمه السيّدة، وربّما موظّفون آخرون، لرفع دعاوى مضايقات وتحرّش خلال العمل. وأخيراً يحذّر من أنّ هناك قانوناً قد يُقَرّ في ولاية كاليفورنيا يسمح بأن تُرفَع دعاوى حول تحرّشات ومضايقات في العمل حتّى ولو كانت قديمة زمنيّاً.
وماذا عن تحقيق شركة المحاماة مع المطران؟ لا شيء. يذكر التقرير بأنّه لم تتمّ مقابلة المطران لأنّه طُلِبَ من الشركة الكفّ عن التحقيق لأنّ المطران استقال. و«يا دار ما دخلك شرّ». شركة المحاماة الفذّة لا تُكمِل التحقيق، ولكنّها تستنتج بأنّ الموضوع مجرّد قيل وقال، وعلى الأرجح أنّ مَن طلب منها التحقيق طلب التوقّف عنه!
لدينا كلّ ما من شأنه أن يوحي بأنّ مَن عيّن شركة المحاماة أراد أن تصل إلى ما وصلت إليه: طمر الموضوع بكلّ «شفافية»، زيادة في «الرحمة» تجاه القيادات وفي الذئبيّة تجاه الرعيّة.