ككل الحوادث التي تقع في عالمنا، تطفو على السطح أسئلة حول ماهية هذا الحدث وشرعيته ودوافعه وتفسيراته ودلالاته، تستبطن هذه الأسئلة افتراضات مسبقة أو استلزامات خطابية معيّنة، كأي سؤال لا يمكن أن ينطلق من فراغ معرفي محض، والعين الثاقبة هي التي تحاول أن تتجاوز صخب اللحظة نحو مياه القاع المحرّكة لأمواج التساؤلات والاستنكارات الصاخبة.في قضية «هدر دم» سلمان وشدي، باعتباره شخصاً تعرّض، وبكل جرأة، في نقطة انعطاف تاريخي، لشخصية تمثّل محور وعي الهوية الفردية والاجتماعية لأي مسلم -أي شخصية نبي الإسلام- لا بد من طرح هذه الأسئلة:
1- هل لقضية «حقن الدم» قيمة مطلقة بحيث لا يتعالى عليها أي قيمة ولو كانت على حساب قيمة حفظ كرامات أمم بكليّتها؟ولماذا؟
2- ما هي المرجعية الفكرية أو الفلسفية التي تؤطّر مفهوم الحريّة في تجلياتها المسلكية وتفصلها عن مفهوم التوهين والتحقير؟ وهل لهذين المفهومين ترادفات في سلوكيات معينة بحيث تكون أموراً نسبية، فيقال إن السُّبّة من وجهة نظر هي حرية ومن وجهة نظر أخرى هي توهين؟
3- كيف نشخّص المعتدي؟ هل الذي بادر إلى فعلٍ يمسّ طرفاً آخر في عمق وجدانه وتوعّد عليه ضمن منظومته التشريعية والتقنينية بالعقاب والقتل أم الذي رسم حدود مقدساته دون توهين وسب وشتم؟
هذه الأسئلة، وغيرها، ليست بالأسئلة العابرة، أو التي تُناقش في رخاء صمت الأحداث، بل هي عينُ الجواب.
أمّا مسألة «حرية التعبير»، والتفنن في سحب مشروعية «إصدار حكم ما بالإعدام» على شخص آخر مطلقاً، فليست إلا مسألة تثير الضحك، خاصة من مطلقيها الذين لم تجف أكفّهم من حروب الاستعمار وقتل وتشريد آلاف الأطفال والعزّل من الناس. وأمّا أولئك الذين ينظرون إلى الآراء باعتبارها فضاءً غرائزياً للذهن والعقل بحيث يمكن لأي شخص أن يقول أي شيء وأن يصوّب السهام تجاه أي قضية مهما كانت مهينة لآخرين فهؤلاء أيضاً لم يعرفوا من الفكر إلا الأوراق والصحف والندوات المملّة. وفئة أخرى ليس لديها من همّ سوى توهين الدين بوصفه امتداداً روحانياً وتشريعياً، تارة تحت عناوين علمانية وأخرى إنسانية وثالثة سياسية واجتماعية، فهؤلاء سنجدهم عند كل مفترق طرق بمطارقهم الناعمة يوجّهون سهام السخرية والتفنن في هدر كرامات المتدينين وحملة الفكر الديني، فيمارسون أساليب فاشلة في تعميم حكم التعنيف الداعشي، مثلاً، على كل تيار أو مذهب ديني، بحيث يكون هذا المذهب أو التيار نفسه قد تبرّأ من النسخة الداعشية والقروسطية للدين. وهم أنفسهم تجدهم ينظّرون لنقد الحداثة وأنه لا بد أن نعيد النظر إلى المجتمعات البدائية وأساطيرها بشكل محترم وتوسيع نطاق ما يسمى «معرفة» ليشمل مجتمعات ما قبل التاريخ أيضاً.
منذ بضعة أيام، تطل علينا صحيفة «شارلي إيبدو» لتسحب قيمة الاحترام من جذورها من الأفكار الدينية، حيث تذكر في ختام مقال لها حول حادثة طعن رشدي في 12 آب الجاري أنه يتعيّن علينا التوقف عن احترام كلمة «احترام» في ما يخص الدين وأفكاره، وأن الدين لا يملك في مكنوناته ما يستحق الاحترام فيلجأ إلى الإعدامات وهدر الدماء، ولذا -حسب «إيبدو»- إن الأديان تستحق السخرية أكثر من الاحترام، هذه محاولة فاضحة لتبرير الجريمة التي أتت بها «آيات شيطانية» باعتبارها رداً طبيعياً ساخراً على دين لا يملك أن يُحترم. حبّذا لو يطّلع أصحاب مقولة «الرد على الفكر بالفكر» في خصوص قضية كتاب «آيات شيطانية» على هذا الـupdate الجديد كي يكونوا مواكبين لما يُنشر هناك حيث تغرب الشمس.
لا لأننا، نحن الملتزمين بالنسخة الخمينية للدين، محبّون للدم والقتل والتشريد، إنما من يطلق هذه الترّهات لم يطّلع، ولو بمقدار نصف ساعة، على التراث القيمي والتشريعي الإسلامي الذي يضع للسب والشتم والتوهين عقوبات صريحة ومعايير قاسية، لا يهم، ولكن ما لن يتزلزل هو أن التعرّض للمقدّسات، ومحورها شخصية النبي محمد، يمثّل هجوماً ممنهجاً على الوعي الجمعي والهوية التي يحملها وجدان كل مسلم. إنه تحدٍّ يفوق مستوى التحدي العسكري، بل والإبادة البشرية لهذه الجماعة، هكذا وبكل بساطة. نحن أمام جماعة تجد أن حماية القيمة التي تمثّل عمود خيمتها أهم من حفظ نفسها وبقائها. وهي لم تفاجئ العالم بذلك، بل أعلنته من اليوم الأوّل لتأسيسها الفكري والعقائدي: «أنا لست سبّاباً، لا أريد أن أهينك بل وأحترم مشاعرك، ولكن إياك أن تهين كرامتي التي تتمثّل في كرامة أيقونتي التي أسميها إنساناً كاملاً، أنت حر في قبولها كذلك، ولكن إياك أن تعرّض كرامتي للألسن وإلا سيكون الدم بيننا». ليست مفاجأة للعالم، بل هي تأسيس صريح لحماية نفسها، وأنت المعتدي الفعلي الذي ترمي بشخص اسمه سلمان رشدي كالعصا التي تضرب بها جسد الأمة لترى إن كانت ميتة أم ما زالت على قيد الحياة فتقوم وتنقضّ عليك.

* حوزوي