إنّه لأمر طبيعيّ أن تُعبّر الشّعوب والمجتمعات عن إيمانها ومعتقداتها، حيث ينبغي لهذا التّعبير أن يفصح عن حقيقة هذا المعتقد، ويبيّن المحتوى الإيمانيّ والقيميّ لديه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ينبغي لمن يقرأ ذلك التّعبير أن يقرأه كما يُعبّر هو نفسه، من دون أيّ إسقاط عليه.في هذا السّياق، يمكن أن نفهم نشيد «سلام يا مهديّ» الذي جاء ليعبّر عن إيمان المسلمين والطائفة الإسلاميّة الشيعيّة بشكل خاصّ بالإمام المهديّ (عج)، وعن حبّهم لأهل بيت النبيّ (ص)، وعن عاطفتهم الجيّاشة التي كانت تظهر في أكثر من دمعة تحكيها عيون الأطفال، وعبرة تشاركوا فيها حتّى مع كبار السنّ والشباب، ومختلف الفئات العمرية.
إنّ هذا النشيد هو بمثابة دعوة إلى التعلّق بالإمام المهديّ (عج)، والفناء في فلسفة المهدويّة وقيمها، والتي ليست إلّا مشروعاً للعدل بما هو إنصاف، ورؤية تاريخيّة للعدالة بما هي مستقبل خلاصيّ للبشريّة من مآسيها، وعقيدة فيها الكثير من الأمل واليقين بتحقيق السّلام لجميع الأُمم في الأرض.
إنّ مَن يتأمّل في معاني المهدويّة وفلسفة عدالتها، يخلص إلى أنّها دعوة إلى بناء الاجتماع الإنسانيّ العامّ على أساس من الإنصاف بين الشعوب والأمم والدول، وبين مختلف فئات المجتمع؛ ليكون الخير والنّفع العام والأمان لجميع بني البشر من دون تمييز.
نعم، من الطبيعيّ أن نجد وصلاً لدى كلّ مجتمع أو جماعة بين هذه الرؤية المهدويّة من جهة، وبين أكثر من مشروع، ومرجعيّة دينيّة تعمل على تبنّيها من جهة أخرى -وخصوصاً في المعتقد الشيعي الذي يذهب إلى كون الفقيه نائباً عن الإمام المهدي(ع)- حيث قد ترى تلك الجماعة في ذلك المشروع وتلك المرجعية محاكاة لتلك القيم، واستجابة لها على أكثر من مستوى اجتماعيّ وسياسيّ وغيره، حتّى لا تبقى مجرّد معاني لا قدرة لها على التفاعل مع الواقع العملي والاستجابة له.
بناءً على ما تقدّم، ينبغي القول إنّ مَن يشاهد تلك الظاهرة التي انتشرت أخيراً، ويستمع إلى تلك الأناشيد التي هتفت للإمام المهدي(ع) من مختلف المجتمعات، يجد أنّها فعل تمجيد لتلك القيم من العدل والخير والأمل، ودعوة إلى التماهي معها، وتعبيرٌ حرّ عن الإيمان بها، وعن الالتزام بمن تراه هذه الجماعة أو تلك، الأقدر من المرجعيّات الدينيّة -ولو في نطاقها الجغرافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ- على محاكاة تلك القيم من خلال مشروع أو آخر تعمل على تحقيقه، ترى فيه استجابة أفضل لتلك القيم ومعانيها.
نعم، ومن دون شك هي دعوة إلى العدل والإنصاف والخير، وجميع المعاني الإنسانية التي تختزنها قيم العدل من جهة، وإلى الالتزام بخيارات اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة، يُنظر إليها على أنّها من أهمّ تعابير هذا العدل والإنصاف من جهة أخرى؛ حيث إنّ من حقّ أي مجتمع (أو جماعة) أن يجترح ترجمته السياسية والاجتماعية... لقيمه ورؤيته، بما في ذلك تلك القيم الدينية. وهذا الذي تفعله جميع الأمم والمجتمعات.
وسيكون من الطبيعيّ أن يناقش في أيّ مستوى من مستويات هذه الرؤية وتعابيرها، من أساسها المعتقديّ إلى القيمي، إلى ما ينظر إليه من مشروع أو غيره على أنّه تعبير اجتماعيّ -سياسيّ عنها. لكن هذا شيء، وأن يُعمل على تشويه هذه الظاهرة وشيطنتها، وممارسة هذا المستوى من التحامل، والعنف اللّفظيّ، والإرهاب الفكريّ، والعدوان المعنويّ بحقّها، شيء آخر.
هنا، وفي مقام الردّ على أكثر من قيلٍ ومقال، لا بدّ من البوح بما يلي: إنّ حدّاً أدنى من احترام حرّيّة الآخر في التّعبير عن إيمانه ومعتقده يتطلّب لغة مختلفة، ومفاهيم لا تنتمي إلى عالم الحقد، والشرّ، والخبث، ولغة الحرب، والتحريض، والكراهية، وتعزيز المشاعر العنصريّة بين فئات المجتمع مذهبيّاً، وطائفيّاً.
إنّ حدّاً أدنى من الموضوعيّة العلميّة، يتطلّب أن لا يغفل أيّ ناقد -حتّى إن أراد أن يبدي نقداً لموضوع أو آخر- أكثر من مظهر جماليّ وإنسانيّ وقيميّ عبّرت عنه بقوّة هذه الظاهرة، سواء في نشيدها ومعانيه، أو في مشاهد الأطفال التي كانت تحكي دموعهم ببراءة مشاعر الحبّ والعاطفة لأهل بيت النبيّ (ص).
إنّ حدّاً أدنى من احترام مشاعر وعواطف هذه الجموع وإيمانها، وما كانت تعنيه وتنشده، يستدعي تجاوز لغة التنمّر، والتجريح، والإساءة التي استخدمها هذا البعض، بطريقة تخلو حتّى من أيّ حسّ إنساني، ومن أيّة مراعاة للمشاعر الصادقة والعاطفة المخلصة، التي أظهرها الأطفال -بل الجميع- لإمامهم وقيمهم الدينيّة.
إنّ حدّاً أدنى من احترام حقّ الآخر في الاختلاف والاعتقاد والوجود -بمعناه الفكريّ- يتطلّب مقاربة مختلفة، تجتنب التحامل والتضليل والشّيطنة لمعتقدات طائفة من المسلمين، عانى أبناؤها الكثير من المظالم على مرّ التاريخ، ويبدو أنّ هناك من لا يزال يستعظم عليها أن يكون لها أكثر من دور في مشروع التحرّر والاستقلال والمقاومة.
إنّ ما ينبغي قوله، هو إنّ لغة تلك الجموع ليست لغة حرب، وإنّ فضيلتهم ليست فضيلة خبث، وإنّ قيمهم ليست قيم شرّ، وإنّ صورتهم ليست صورة اعتداد أو ازدراء أو حقد، وإن تطلّعهم ليس إلى دمار العالم، وإنّ فعلهم ليس فعل قتل واختزال، وإنّ هدفهم ليس القمع والاستبداد، وإنّ جميع تلك المعاني، وما جاد به القاموس اللّغويّ لبعض الكتبة، من كلمات القطعية والتأليه والدكتاتوريّة والأحادية... لا تشبه تلك الجموع، ولا تلتئم مع أوصافها، ولا تنطبق على مشاعرها، ولا تعبّر عن وجدانها، ولا تحاكي تطلّعها، ولا تصدق على مقاصدها، ولا تصف حالها، بل هي في الواقع تحكي ما في جوف مطلقها، وتنبئ عن مضمره الذي كشح عما لديه؛ أي إنّ ما حصل هو فعل إسقاط -يجيده هذا البعض- لأفكاره ومشاعره على تلك الجموع، وليس حكاية صادقة عنها.
إنّ ما فعله الكاتب هو أنّه أفرغ مواقفه ومشاعره هو على تلك الظاهرة، وقدّم صورته هو من خلالها، وأبان مأزوميته فيها، وأظهر مكبوتاته بواسطتها، وأسقط متخيّله هو عليها، وألبسها أوهامه وهواجسه، ولم يعمل على قراءتها كما هي عليه في الواقع. كما ارتكب الفعل نفسه في قراءته للتشيّع ومعتقده.
إنّ الكاتب يمارس تسييساً فاضحاً من حيث اتهامه لتلك الظاهرة بالتسييس، وهو عندما يُظهر هذا المستوى الحادّ من التشنيع والتقبيح، فليس من جهة الوصل بين الديني والسياسي في هذه الظاهرة وغيرها -وهذا حقّ لأيّ كان- بل لأنّ البعد السياسي فيها يخالف ما عليه الكاتب من دور سياسي يقوم به، ووظيفة يمارسها. أي هو مع التسييس عندما يتوافق مع دوره ووظيفته، لكنه ضد هذا التسييس عندما يخالف ذلك الدور وأراجيفه.
إن من يقرأ اللغة السياسيّة التي استخدمها الكاتب -والتي تتوافق مع اللغة السياسية لبعض وسائل الإعلام الخليجية التي تعادي المقاومة، وتوغل في شيطنتها، وتعمل على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي- يدرك ما عليه ذلك الكاتب من تموضع سياسي، ويعي سرّ ذلك البغض الذي بدا في صدره كمِرجل القَين، وذاك الحنق الذي أخرجه عن طوره، وأفقده لغته العلمية، التي كانت يستتر خلفها، للقيام بأكثر من دور، لم يعد خافياً على أحد.
إنّنا نقرأ في مقالة الكاتب مستوى غير سويّ من القمع، والاستبداد، والسادية، والميل إلى الانتقام، والسعي إلى تحطيم صورة مختلفة عمّا يتخيّله الكاتب من نقاء وصفاء وطهرانية، فصبّ جام غضبه على تلك الظاهرة، ونعتها بأبشع الأوصاف، التي جادت بها قريحته، واستعان عليها بفنون البيان لديه لتدمير تلك الصورة، وقتلها، والتشفّي منها، لا لشيء، إلا لأنها تخالف ما عليه من وظيفة سياسية يقوم بها، ومن دور يمارسه للنيل من الأسس الفكرية التي يقوم عليها فعل المقاومة، ومجمل تعابيرها، حتّى ما يصدر منها على لسان أطفالها وتحكيها براءتهم؛ فأظهر مكبوته، ولم يوفّر من بغضه وغيظه حتّى مشهديّة فنيّة طفوليّة، تفاعل معها مجمل المسلمين الشيعة -بل وغيرهم- في العالم.
إنّ هناك من يريد الآخر على شاكلته، ونسخة عنه، فكراً، وثقافةً، وقيماً، وانتماءً، وممارسة، فإن وجد أنّ الآخر ليس كما يشتهيه ويريده، أطلق عنان شنئه كراهيةً وعنصريةً وتدميراً وتحقيراً وتشويهاً؛ يبدي بغضاً للأحادية والإلغاء والتأليه... وهو يمارس أسوأ أنواع الأحادية، والإلغاء، ورفض الآخر والاختلاف، والتنمّر الفكري، والتعالي الثقافي، وتأليه الذات فكراً وأدلجة وادّعاء تسيّد.
إنّ ما يمكن أن نقرأه في مقالة الكاتب ليس تلك الظاهرة في حقيقتها، وإنّما نقرأ فيها -وفي غيرها- ما عليه ذلك الكاتب من موقف سياسيّ وتحزّب، ودور يقوم به إسقاطاً وتشويهاً وعدواناً على طائفة من المسلمين في معتقدها وثقافتها، والآن في وجدانها؛ بل حتّى في مشاعر أطفالها.
لدينا كلّ الاحترام للبحث العلميّ والموضوعيّ في كلّ شيء، ومن دون حدود؛ لكنّ هذا شيء، وأن يستسهل البعض تناول والوجدان الشيعيّ بالإساءة والتجريح، والمعتقد الإسلاميّ الشيعيّ بالتضليل والتشويه، وممارسة العدوان الفكريّ والتعنيف المعنويّ، شيء آخر.
إنّ من يمتهن النّقد العلميّ ويريد البحث الحرّ، البعيد عن التعسّف والخلفيّات والإسقاط والحقد والعنصريّة والعدوانيّة، والانخراط في مشاريع التطبيع، واستهداف المقاومة، وحقّ الشعوب في الدفاع عن نفسها وأوطانها؛ فنحن مع هذا البحث ومن دون حدود. أمّا من يريد التحامل والعدوان والإساءة، فلن يكون نزاله نزال بحث وفكر وعلم.
إنّه لم يعد مقبولاً هذا التمادي في العدوان على المعتقد الإسلاميّ الشيعيّ والوجدان الشيعيّ، وهذا الإصرار المنفصم عن جميع المعايير العلميّة والأكاديمية على تسقيط ذلك المعتقد وشيطنته، وهذا الاستخفاف الذي يمارسه البعض بحقّ المسلمين الشيعة، عقيدةً وفكراً ووجداناً.
ولم يعد صحيحاً التغاضي عن هذا الخطاب العنفيّ، والإرهاب الفكريّ، والتنمّر اللّفظيّ، وأكثر من تضليل معرفيّ، لا بدّ أنه سيغذّي -بشكلٍ أو بآخر في نهاية المطاف- مشاريع التكفير والإجرام والكراهية والعنصريّة بحقّ المسلمين الشيعة ومجمل فئاتهم.
وإنّي أنصح هذا البعض –وتحديداً من له موقعه العلمي- أن يعود إلى منطق البحث العلميّ وموضوعيّته ونزاهته، وأن يكفّ عن عدوانه وتحامله وتماديه في الإساءة والتجريح، وأن يبدأ مراجعته هذه بتقديم الاعتذار إلى كلّ من أساء إليهم، واعتدى عليهم، ومارس أكثر من تضليل بحقّهم.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية