عليّ أن أكون صريحاً، لم أكن أرى سلافوي جيجك وغيره كأصحاب تحليل يساري حقيقي. نعم، يمكن لمغامرته الفلسفية أن تجعل القراءة ممتعة، حيث يقدّم المصطلحات الأكاديمية بطريقة سلسلة تمكّن المرء من استخلاص بعض المعاني منها. وبهذه الطريقة، بالنسبة لي، لن تحتوي الكتب التي تفضّل مطابع الجامعات ودور النشر اليساريّة نشرها أي أفكار جديدة.يذكّرني تمثيل جيجك، حين شاهدته على «يوتيوب»، بشخصية المهرّج كراستي (Krusty the Clown) لو جعلتها تقدّم محاضرات جامعية. لقد انخفضت شعبيّة جيجك كثيراً في السنوات العشرين الماضية، حين كان أي قارئ ذو ميول يسارية ينظر حوله فيجد كتاباً جديداً لجيجك مطروحاً للبيع. بل إني شخصياً قمت بمراجعة أحد كتبه، لم يكن الكتاب سيئاً، لكن، وكما أشرت أعلاه، لم يطرح أي شيء مثير للدهشة.
رغم ذلك، ومنذ مدة، انخفض وميض جيجك في الأوساط ذات الميول اليساريّة. ولعل عدم الاهتمام هذا من قبل وسائل الإعلام، وكل من معجبيه وكذلك منتقديه، يعود إلى كتابته مقالاً هاجم فيه دعاة السلام وطالب فيه إلى تقوية «الناتو»، في العدد المؤرخ بـ21 حزيران 2022 لـ«الغارديان»، وهي إحدى صحف الإعلام الليبرالي السائد في بريطانيا. فمثل العديد من يسار أميركا وغرب أوروبا، ارتأى جيجك أن رد الفعل الوحيد على الأزمة الأوكرانية يكون عبر الدعم الكامل لحكومة كييف، مهما حصل. متجاوزاً تيّار يساريين آخرين تبنّوا الخطاب ذاته، لكنهم تمسّكوا بمعارضتهم لمشاركة الولايات المتحدة و«الناتو» بقوّاتهم البرّية والجوّية. تموضع جيجك مع جمهور «القتال حتى آخر أوكراني»، بدءاً من الليبراليين، مروراً بالنازيين، وصولاً إلى الكنيسة، وسائر الشرائح الأخرى المؤيّدة للحرب.
جمع جيجك في مقالته بين كل من نعوم تشومسكي وهنري كيسنجر لمجرّد أنهما يدعمان خيار المفاوضات بدلاً من الحرب. متجاهلاً عبر هذه المقارنة الاختلاف في تصريحيهما. فقد كان نزع تصريحيهما من سياقيهما النهج الوحيد الذي استطاع تبنيه. وفي المقالة ذاتها، وبعد مهاجمته دعاة السلام على طول النص، قدّم جيجك ادعاءً، لن يجرؤ عليه سوى أحد بغروره وعجرفته، حيث قال: «اليوم، لا يمكن لأحد أن يكون يساريّاً إن لم يقف خلف أوكرانيا بشكل لا لبس فيه». بعبارة أخرى، هو يدّعي أن النقاء الأخلاقي لليسار لا يكون إلا عبر دعم أي نسخة من حكومة كييف في حربها. في جملة أخرى، ينتقل جيجك من المحاججة ضد أي تسوية تفاوضية لتوسّع «الناتو»، وضد أي بديل عقلاني عمّا يمكن أن يتطوّر لحرب طويلة ومميتة، إلى تصفية وإبعاد شريحة واسعة من اليسار العالمي من الإدلاء بدلوها في نقاش الحرب. وعلى حد علمي، لم يقم أيّ يساري بإلغاء يساري آخر على خلفية الموقف من الأزمة الروسية- الأوكرانية، إلا أن جيجك جعل من هذا الإلغاء جوهر حجته.
كلامي هذا لا يعني أنني كنت أتأمّل المزيد ممّن يكسبون رزقهم بكونهم فلاسفة -أو مجرّد التظاهر بأنهم فلاسفة. فمنذ مدة طويلة أدركت أنه، ومهما بلغت كلماتهم من جمال، وحججهم من روعة، ومهاراتهم في مخاطبة الجمهور من جاذبية، إلا أنه، وفي نهاية المطاف، وعندما يجدّ الجد، لن يواجهوا التحدّيات بالشكل الذي يمثّله القول المنحوت على ضريح كارل ماركس: «لقد حاول الفلاسفة تفسير العالم بينما المطلوب هو تغييره». لطالما اعتبرت أعمال جيجك كنوع من التفسير، ولكن في ما يتعلّق بالتغيير، فقد بدا لي دائماً أن الشيء الوحيد الذي كان مهتماً حقاً بتغييره، هي أرقام المبالغ في حساباته المصرفية. رغم ذلك، فهذا ليس عذراً للمطالبة بدعم حكومة أوكرانيا الرأسمالية، والأدهى من ذلك، المطالبة بتقوية «الناتو». فحتى أكثر الفلاسفة تحجّراً، سيكون بمقدورهم فهم الواقع والأثر الذي ستنتجه دعوة كهذه، خصوصاً إن تم تطبيقها.
من باب الأمانة، فقد ناقش جيجك زلة ارتكبها جورج بوش أخيراً، حين وصف غزو العراق بأنه «غزو وحشي غير مبرر على الإطلاق»، في حين أنه كان يقصد أن يقول أوكرانيا. من هنا، قارن جيجك بين موسكو وواشنطن، معترفاً بوجود أوجه للتشابه بينهما. حتى أنه تطرّق لقضية جوليان أسانج، الذي فضح جرائم واشنطن في العراق (وغيرها من الأماكن)، ويواجه اليوم تسليمه للولايات المتحدة على إثر ذلك. في الإطار العام، تشترك الرؤية الإمبراطورية لموسكو مع رؤية واشنطن للهيمنة على العالم من ناحية الدافع. مع ذلك، فإن هذا التكافؤ بين الجانبين (وهو تكافؤ غير دقيق) لا يستدعي الطريقة التي أنهى فيها مقالته: «تقاتل أوكرانيا للحرّية حول العالم بما فيها حرّية الروس أنفسهم». عذراً سلافوي، لقد سمعت هراءً كهذا منذ كنت أرتدي الحفاضات. الاختلاف الوحيد هو أني كنت أسمعه من السياسيّين الغربيّين، وجنرالات البنتاغون، وأساقفة الكنسية الكاثوليكية، وقد كان خاطئاً حينها ولا يزال.

* كاتب وباحث أميركي
** نشر المقال في «كاونتر بانش»