عند قراءة محمد فضل الله، «إسرائيل وغواية الغرب»، («الأخبار» 18 حزيران 2014)، ظننت أن النص لأحد رهبان جامعة الكسليك، موقع باسم مستعار لهدف في نفس يعقوب. ولهذا الظن أسباب عدة، منها: أصدر رهبان الكسليك إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 كتب تحريفية عدة وتحريضية، تساند إعلامياً قتال «القوات» في الجبل، بأسماء إسلامية مستعارة.
وهناك أسلوب الكتابة المتقن اللعوب باللغة لتبيان جمالاتها والتعويض عن معانيها، وموسوعية البحث، وإلمام الكاتب بالأديان والمذاهب والمعارف الإنسانية، بجانب الخلفية الفكرية الكهنوتية، والتقاط ظواهر هامشية للأحداث، والاستناد إليها للوصول إلى استنتاجات خيالية ومجانبة للواقع.
ولكن «بعض الظن إثم». فقد أفادني الصديق العزيز السيد عبد الحليم فضل الله أن هذا الاسم لشاب حقيقي من عائلته، فزادني الأمر اندفاعاً لنقاش النص المنشور.
من الصعب تتبع ومناقشة هذا النص الذي ينتقل بخفة من فكرة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر، مكتفياً بإلقاء خلاصات أفكاره وهواجسه باستخفافٍ كبير، من دون إسنادٍ أو برهان. وسأكتفي بمناقشة بعض ما ورد في «بحثه»، إن صحّت تسميته بالبحث.
أدهشتني رؤية السيد محمد الاجتماعية التاريخية للبنان. إنه يرى لبنان عناقيد من المذاهب الإسلامية والمسيحية؛ عناقيد مكونة من حُبيبات متجانسة متراصة ومتكورة على ذاتها، منفصلة عن غيرها من العناقيد، وربما متنافرة مع هذا الغير ومتمايزة عنها بصفاتٍ ومزايا عدة: فالأرثوذكسي عند السيد مبدعٌ وخلاق، «محترف الآداب الإمبراطورية» (هكذا). أما الماروني، فهو رومانسي وواضح وصادق ومباشر. والموارنة، «الشعب الطيب الخام»، والذي «لم يتعرف إلى السياسة». أما الدرزي، فهو انتهازي «يقطف ثمار مغامرات الماروني»، مبدعٌ سياسياً. أما الشيعي، فهو مثل الماروني، لم يتعرف إلى السياسة.
كيف يمكنك مناقشة هذه «الخلاصات» المتدفقة من عقل الكاتب، بمقالٍ أو حتى بكتاب؟ ومن دون الدخول في التفاصيل، أود أن أطرح على صاحبنا الأسئلة التالية:
أ. ما هو سبب تمايز كفاءات الطوائف وأبنائها في لبنان؟ هل يكمن السبب في الجينات الوراثية لأبناء المذاهب، أم في فكرها الديني؟


وليد جنبلاط لا يختصر
الدروز والمقاومة
المنتصرة في الجبل
ب. إذا اعتنق درزي المذهب الماروني، وكثيرون فعلوا ذلك في الماضي، هل يحتفظ الدرزي بمزاياه الدرزية السابقة، أم يكسب مزايا الموارنة؟
ت. وإذا ما تحول السيد محمد فضل الله إلى المذهب الأرثوذكسي، هل يصبح ذكياً ومبدعاً، أم تبقى لديه ميزاته الشيعية الموروثة؟
ويتكلم السيد فضل الله عن ابتكار الأرثوذكس للقوميات العربية والسورية واللبنانية، كبرهان على تفوقهم.
أ. مع كل احترامي وتقديري لكتاباته ونضالاته، هل كان ميشال عفلق الأرثوذكسي منظر الثورة العربية الكبرى مثلاً أو الثورة السورية ومعلم قادتها؟ هل ابتكر عفلق القومية العربية، وكيف يفهم صاحبنا الفكر القومي؟
ب. أما عن دُعاة القومية اللبنانية، ونعني تاريخياً «الوطن القومي المسيحي»، فيعود تاريخ ذلك إلى قرون سابقة، ربما إلى ابن القلاعي ثم الدويهي. وعبّر عن هذه الأفكار في التاريخ الحديث البطريرك حويك في مؤتمر الصلح في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتوازي مع طرح الوطن القومي لليهود في فلسطين. وبشّر بهذه القومية العديد من المطارنة ورجال الدين، كما العديد من الكتاب السياسيين الموارنة، قبل شارل مالك، ولم يكن آخرهم ميشال شيحا. اقرأ كتاب إيليا حريق، Political Change in a Traditional Society، وليس في ترجمته العربية، لإدراك تاريخية ومدى انغماس بعض الموارنة في السياسة وفي التآمر السياسي.
ت. كان للشيعة عبر تاريخهم الطويل نضالهم السياسي السري والعلني، لتحقيق الدولة العادلة، أي «حكم الإمام» أو «حكم الإمام المعصوم»، وإزالة حكم الظلم. ألم يكن ذلك تدخلاً في السياسة؟ أم أن شيعة لبنان، قديماً وحديثاً، لم يكن لهم علاقة بهذا النضال؟ كيف يفهم السيد نضال أبناء جبل عامل ونضال شيعة بعلبك ضد الاستعمار، وأخيراً ضد الصهيونية والكيان الصهيوني؟ أليس لذلك علاقة بالسياسة، ناهيك عن الصراع الداخلي على السلطة في لبنان؟
ويبدع صاحبنا، رغم أنه ليس أرثوذكسياً، في حملته على الدروز، حيث يقدم للقارئ خلاصة أبحاثه في تاريخهم وسياستهم، فيقول:
«في زيارته للأراضي المحتلة، يتحمس البطريرك بشارة الراعي ويتوتر فيما جنبلاط يستثمر فيها بهدوء، من دون أن يلتفت أحد إلى أن الأكثر تطبيعاً بين من التقاهم البطريرك كانوا دروزاً، ورغم أن الدروز خدموا في الجيش الإسرائيلي منذ عام 1956، إلا أنه لم يكن لهم وجود واضح أو استفزازي في ميليشيات أنطوان لحد. الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 كان ذروة المشهد: يُظهر الموارنة التحالف مع إسرائيل (فهم علنيون بطبعهم) ويخسرون من بعدها كل شيء، في حين يحيك الدروز الصفقات مع إسرائيل بصمت، ويربحون الجبهات كافة. مخطئ من يعتقد أن إسرائيل تفضل الموارنة على الدروز. وخلال فترة الاحتلال في مناطق الجبل، فوجئ الكتائبيون في مواضع عدة بانحياز الإسرائيلي إلى جانب الجنبلاطيين. وأدى ذلك إلى إكساب الأخيرين عدداً من النقاط العسكرية على حساب الكتائب. من الخطأ محاكمة بطريرك الموارنة في قراراته، بمعزل عن الالتفات إلى وعيهم الملتبس».
بالرغم من أنني لست معنياً بالدفاع عن وليد جنبلاط وسلوكه وبعض معينيه في الجبل، فلا بد من القول إنه كان أقل تلوثاً وأكثر وطنية من أي «زعيم» سياسي آخر من الذين احتُلت مناطق نفوذهم ووجودهم إبان الاجتياح في لبنان، وأول من اتخذ موقفاً معادياً للتحالف المعادي لعروبة لبنان وحريته بين هؤلاء الزعماء. لكن وليد جنبلاط لا يختصر الدروز والمقاومة المنتصرة في الجبل. ولن أعلق على تملق صاحبنا للبطريرك، ومحاولة تبرئته عبر تهجمه على دروز الأرض المحتلة، فهذا موضوع آخر يتعلق بقيم الكاتب واحترامه لذاته، ويظهر جهله أو تجاهله لواقع الدروز في ظل الاحتلال منذ عام 1948.
يقطن الدروز هناك حوالى 11 قرية في جبال الجليل الأعلى، وكان عددهم عام 1948 يقدر بحوالى 17 ألف نسمة. ناضل معظم هؤلاء بجانب جيش الإنقاذ حتى اندحاره من مناطق سكنهم، ولكنهم بقوا فوق أرضهم، كما فعل بعض الفلسطينيين، ولم يتحولوا إلى لاجئين. وفُرض عليهم قسراً التجنيد الإجباري، كما فُرض على أقليات عربية أخرى. والتجنيد الإجباري هو عبء معنوي ومادي ثقيل يعاني دروز الجليل منه، ويفر مئات الشباب منه إلى الجبال، وتنقطع سنوات دراستهم. فهم يعاملون كبعض الإسرائيليين في التجنيد الإجباري، وكعرب من الدرجة العاشرة في بقية المجالات. فقد تمت مصادرة أكثر من 80% من أراضيهم، ويُحرمون من فرص العمل، ويُدفعون دفعاً للالتحاق بحرس الحدود، طلباً للقمة العيش، كما يعملون خدماً في المنازل وحمالين في المرافئ، وفي العمل الأسود في المحاجر. ولم يكن دروز الجليل يوماً «عنقوداً متجانساً ومتراصاً»، كما يتوهم صاحبنا، ففيهم من ركع أمام الاحتلال، ومنهم من رفضه ويستمر في رفضه، كبقية عرب الأرض المحتلة، وحتى عرب الضفة الغربية، وحتى من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية. وتبرز أسماء عديدة من مقاومي الاحتلال بين دروز الأرض المحتلة، مثل الشيخ فرهود فرهود وسعيد نفاع وسميح القاسم والعشرات من أمثالهم. ويمثل دروز الجولان المحتل رمزاً للنضال ضد الاحتلال.
ومن تحمل جور الاحتلال لمدة 66 عاماً، وفُرضت عليه الجنسية «الإسرائيلية» وأُخضع للتجنيد الإجباري، لا يمكن اتهامه بـ«التطبيع» مع العدو الصهيوني، فالتطبيع عمل إرادي من خارج الأرض المحتلة، وليس من داخلها. وبالتالي، فبعض الدروز الذين استقبلوا البطريرك لا يطبعون العلاقة مع «إسرائيل»، كما فعل البطريرك. ولا أعرف شيئاً عن استثمار وليد جنبلاط للزيارة البطريركية، وكم ربح من ورائها.
يوغل السيد محمد فضل الله، كما البطريرك، في انفعاله، فيقول إن «إسرائيل» فضلت الدروز على الموارنة وساعدتهم في معاركهم العسكرية ضد «القوات». لم يتجرأ أي من أشباه المثقفين حتى اليوم على التفوه بمثل هذه الترهات، حتى بول عنداري، قائد القوات اللبنانية المهزومة في بحمدون، لم يقل مثل ذلك القول. في اجتماع لشارون مع أمين الجميل وقيادة القوات اللبنانية في الكرنتينا بتاريخ 20 أيلول 1982، أي بعد اغتيال بشير، وقبل انتخاب أمين رئيساً للجمهورية، قال شارون مخاطباً الجميل، وبحسب نصوصٍ من الأرشيف الإسرائيلي في كتاب آلان مينارغ، «أسرار حرب لبنان»:
«أرغب أيضاً منذ البداية في أن أكون واضحاً كل الوضوح. فنحن نحب القوات اللبنانية».
ــ الجميل: «أعرف ذلك، فمن أول اجتماع لي مع رفول (رفائيل إيتان)، قال إنه هو زعيم القوات اللبنانية».
ــ شارون: «لن أقول أكثر، فهم حضور هنا».
ولما سقط بعض القتلى من القوات اللبنانية في الغابون وعيتات، ولم تستطع القوات سحب جثثهم من أرض المعركة، حضرت القوات الإسرائيلية في اليوم التالي، مطالبة بسلاح القتلى وثيابهم، على أنها «ملك لجيش الدفاع الإسرائيلي». وبحسب قول السيد محمد فضل الله إن القوات الإسرائيلية قاتلت مع المقاومة «الدرزية» في الجبل ضد القوات اللبنانية التابعة للموساد الإسرائيلي، والتي تقاتل بأسلحة «جيش الدفاع الإسرائيلي»، وبلباسه.
إن المقاومة في الجبل، التي هزمت القوات اللبنانية التي أدخلتها قوات الاحتلال الصهيوني إليه وحمتها فيه، وأنزلت بالقوات الإسرائيلية خسائر فادحة كانت الأكبر في لبنان حتى انسحاب قواتها من الجبل، لم تكن مقاومة طائفية أو مذهبية، بل كانت مقاومة وطنية، ذات أفق سياسي واضح منذ البداية، أعلنت أنها تهدف إلى بناء لبنان حر ديمقراطي يساري عربي. وقاتلت هذه المقاومة رغم معارضة الأحزاب الوطنية للقتال في بدايته، وضد العدو المركّب، الأميركي الإسرائيلي والنظام اللبناني الرسمي، بجيشه الفئوي وميليشياته الكتائبية. وشكلت بعض فصائل الحزب التقدمي الإشتراكي من تلامذة كمال جنبلاط أكثرية بنية هذه المقاومة، وانضم إليها منذ إنشائها بعض فصائل الحزب الشيوعي، ومناضلين من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكامل أعضاء الحزب الديمقراطي الشعبي، والعديد العديد من المناضلين المستقلين والحزبيين السابقين، كما انضم إلى هذه المقاومة العديد من الشيعة والسنة، ليس من كيفون والقماطية فقط، بل من الجنوب والبقاع، ومن سنة بيروت ومناضليها، ومن إقليم الخروب، ومن بعض الرفاق المسيحيين في الجبل. وبعد سقوط بحمدون، انضم إلى صفوفنا، وبإمرتنا، رفاق من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خاضوا أشرس المعارك، كتفاً إلى كتف مع رفاقنا، وسقط لهم المئات من الشهداء فوق أرضنا، وفي مواقعنا العسكرية. فكيف يجرؤ صاحبنا أن يوجه تهم الخيانة لمناضليه وذكرى شهداء مقاومته الذين غيروا مجرى تاريخ لبنان الحديث مع المقاومة الإسلامية التي استمرت حتى اليوم، منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ثم يعود إلى نظرية «الهوية المشتهاة»، ضارباً بعرض الحائط الحقائق التاريخية. فينظر مثلاً إلى يهود العالم ككتلة سياسية فكرية وسلوكية واحدة، تتوجه نحو دول شمال أوروبا أو غربها، لتمارس تفوقها الإبداعي. ويعتقد أيضاً أن «الهوية المشتهاة»، التي هي نتيجة علاقة الاستتباع بالقهر، ليطرحها كسبب للاستتباع ومبرر له، مناقضاً بذلك كل النظريات التاريخية، القديمة منها والجديدة، العميقة منها والسطحية، حتى تلك المعبرة عن مصالح وتطلعات الإمبريالية الأميركية، من أمثال نظريات فوكوياما وهانتينغتون. ثم يتبنى نظرية هرتزل في تحديد دور «إسرائيل»، كحامية لأوروبا من أخطار آسيا، في أوج مرحلة التمدد الاستعماري الغربي. ويفسر كراهية الشعوب الأوروبية لليهود على أنها نتاج «معاداة السامية»، وليس على أنها نتاج دورهم الوسيط في استغلال النبلاء لعامة الشعب، كجلادين للمزارعين لمصلحة الإقطاع، كما يشرح إسرائيل شاحاك في كتابه «ثلاثة آلاف عام من التاريخ». ولم يقرأ شيئاً من كتابات المؤرخين الجدد الإسرائيليين، الذين يصفون إسرائيل كأداة استعمارية حامية لمصالح النظام الرأسمالي العالمي، بقيادته الأوروبية الأميركية، في الشرق الأوسط، والحامية للأنظمة المستتبعة فيه، ومنع تغيير أوضاعه وانطلاقه على درب النهوض والتنمية الشاملة.
تغيب عن رؤية باحثنا البنية العنصرية للكيان الصهيوني، والتي يصدح بها ديوك اليمين الصهيوني كل يوم؛ ويكلف الموارنة الهاربين إلى «إسرائيل» بالبقاء فيها والقيام بدور المنقذ لها: «أليس من الأفضل أن يبقوا هناك (في الأرض المحتلة)، إن هم كونوا نخبة في المجتمع الإسرائيلي؟ وذلك بدل من أن يكونوا مجرد أداة إسرائيلية في لبنان؟ ماذا لو استغلينا وجود هؤلاء اللبنانيين هناك لرسم خطوط هويات واستراتيجيات جديدة داخل المجتمع الإسرائيلي»؟
ويرشح البرازيل لتكون «الغرب» الكاثوليكي الجديد بعد انحدار أوروبا. فهي الدولة الكاثوليكية الأكبر في العالم، وفيها ستة ملايين لبناني. ولكن البرازيل تفتقد إلى الرؤية الاستراتيجية التي تمكنها من الصعود إلى قمة النظام العالمي المقبل، بحسب فضل الله، وبالتالي فهي بحاجة إلى هؤلاء اللبنانيين الذين هاجر أجداد أجدادهم إليها، وقطعوا كل صلاتهم بلبنان، ولكنهم حفظوا في جيناتهم تميزهم العبقري وقدرتهم على الإبتكار والتفوق، بغية قيادتها وربطها بلبنان. فقد نجح السيد محمد فضل الله بالتفوق على سعيد عقل والأب بطرس ضو ومي المر في «إعلاء شأن لبنان» وعباقرته القادرين على صنع مستقبل البشرية.
* باحث لبناني