غالباً ما يُسلّط الضوء على عودة الاتفاق النووي الإيراني وتحرير إيران من نير العقوبات، من زاوية التداعيات التي سوف تترتّب على دول المنطقة من الناحية الجيوسياسية والعسكرية والأمنية البحتة، بحيث ينال تعاظم الدور الإيراني في الإقليم وتمدّده شيئاً من المقبولية لدى دول القرار في العالم على الأقل. إلا إنّ ثمّة زوايا أخرى لا تقلّ أهمية وتتحسّب لها دول المنطقة فيما لو تم الاتفاق النووي الذي من شأنه إعادة الحياة إلى صناعة النفط والغاز في إيران واستغلالها لثرواتها النفطية، ولا سيما للحقول المشتركة مع دول الجوار (27 حقلاً: 14 تشترك فيها إيران مع السعودية والإمارات والكويت وعُمان، و13 حقلاً تتشاركها مع العراق)، ودخولها حلبة المنافسة في هذا المضمار من موقع ندّي غير منقوص.لا نكشف سرّاً بالقول إن إيران تعاني نقصاً حاداً في التكنولوجيا والمعلومات والمعدات الحديثة في مختلف المجالات الصناعية، ولا سيما في صناعة النفط والغاز التي أمسى فيها جيرانها في وضع متقدّم عليها بأشواط، وهي الصناعة التي توفر القسط الأكبر من الناتج القومي للدول النفطية في المنطقة.
والإشكالية الإيرانية هنا ليست امتلاك دول المنطقة المعلومات والتقنيات الحديثة لاستخراج النفط والغاز من الحقول العائدة لها، في الوقت الذي تفتقر فيه الجمهورية الإسلامية إلى هذه التقنيات، وإنما استغلالها للحقول المشتركة مع إيران، وهي الحقول الأكثر أهمية على الإطلاق لناحية الاحتياطات الضخمة من الغاز الكامنة فيها، فيما إيران عاجزة عن ذلك، سواء لناحية تطوير معدات استخراج الغاز والكشف عن آبار جديدة، أو صيانة تلك المعدّات حتى. ويأتي في مقدمة تلك الحقول حقلا «بارس» و«الدرة».
أوّلاً: حقل «غاز الشمال»، أو حقل «بارس الجنوبي» كما يسمّيه الإيرانيّون، على سبيل المثال لا الحصر، والذي تتقاسمه إيران وقطر، وهو أكبر حقول الغاز الطبيعي غير المصاحب في العالم، يحوي 50.97 تريليون متر مكعب من الغاز، أي ما يمثل حوالي 10٪ من الاحتياطي المعروف في العالم. وتبلغ مساحته نحو 9700 كيلومتر مربع، منها 6000 في مياه قطر الإقليمية و3700 في المياه الإيرانية، اكتشف عام 1971، وبدأ الإنتاج فيه عام 1989. ومنه تتشكل إمبراطورية الغاز القطرية.
وبحسبة بسيطة، لو كانت إيران في وضع مريح ومحررة من العقوبات الأميركية، لكان بإمكانها أن تنتج ما يزيد عن ثلث ما تنتجه قطر على الأقل من حقل «بارس الجنوبي»، قياساً بالمساحة التي تشغلها كل منهما من هذا الحقل.
في الواقع، بالكاد تمكّنت إيران من زيادة إنتاجها اليومي من أكبر حقل غاز طبيعي في العالم، بفضل عمليات التنمية المتواصلة خلال السنوات الـثماني الأخيرة. حيث وصل الإنتاج التراكمي لحقل «بارس الجنوبي» في إيران إلى مستوى قياسي عام 2020 بالنسبة إلى الأعوام السابقة، بلغ 1.9 تريليون متر مكعب. في المقابل، وفي إطار مرحلة التوسعة الأولى لحقل الشمال العملاق للغاز الطبيعي في دولة قطر، وذلك ضمن مخطط توسيع الغاز الطبيعي المسال العملاق، التي تشمل مرافق معالجة الكبريت المخصصة لمرحلة التوسع الأولى للقطاع الشرقي من حقل الشمال، سوف تسجل زيادة الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي المسال في دولة قطر إلى 110 ملايين طن سنوياً بحلول عام 2025.
ثانياً: «حقل الدرة»، أو «حقل أرش» حسب التسمية الإيرانية، المشترك بين إيران والسعودية والكويت، والواقع في المنطقة البحرية المتداخلة بين الدول الثلاث، وتقع أغلب مساحة الحقل في المياه الكويتية والسعودية. يحتوي الحقل، الذي اكتشف عام 1967، على مخزون يُقَدّر بنحو 310 ملايين برميل نفط، ومليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وذلك حسب التقديرات الإيرانية، كما تؤكد الحكومة الإيرانية أن حصتها في هذا الحقل تُقدَّر بـ 42 مليون برميل من النفط و65 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وهنا تكمن أهمية هذا الحقل بالنسبة إلى السعودية التي تفتقر نسبياً إلى هذه المادة قياساً بإيران وقطر، وتأمل من هذا الحقل إدخالها إلى نادي الدول المصدرة للغاز، ولا سيما بعدما ازداد الطلب على الغاز إثر الحرب الأوكرانية وسعي الولايات المتحدة وأوروبا إلى الاستغناء عن الغاز الروسي.
وفي 13 نيسان الفائت، جدّدت وزارة الخارجية السعودية التأكيد على حق السعودية والكويت في استغلال الثروات الطبيعية لحقل «الدرة»: «سبق أن وجّهت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت الدعوات للجمهورية الإسلامية الإيرانية للتفاوض حول تعيين الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة ولم تُلّبَ تلك الدعوات، وتجدّد كل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت كطرف تفاوضي واحد دعوتهما إيران لعقد هذه المفاوضات».
ربما عدم تجاوب الجمهورية الإسلامية مع طلب التفاوض ينطلق من كونها لا ترى ثمّة حاجة إلى هذه المفاوضات اليوم، وذلك لأمرين: الأوّل، عدم قدرة إيران على استغلال هذا الحقل الآن، واستخراج النفط والغاز منه، في الوقت الذي تفتقر فيه إلى الإمكانات، فلا بدّ من الاستعانة بشركات النفط العالمية المتطورة الممنوع دخولها إلى إيران في ظل العقوبات الأميركية. والثاني، ترى طهران أن مختلف القضايا العالقة في الإقليم، ومنها الحقول المشتركة، يمكن مناقشتها بعد إنجاز الاتفاق النووي الذي سوف يعطيها دفعاً قوياً للتفاوض ويجعلها طرفاً ندّياً مقابل الأطراف الأخرى، إذ يمكنها حينها، في أقل تقدير، اللجوء إلى المحاكم الدولية إذا استدعى الأمر ذلك، حيث تكون في وضع دولي أفضل بكثير عمّا هي عليه اليوم.
فالمملكة العربية السعودية، وكذلك مجمل دول الخليج، تسارع إلى الاستفادة من الحقول المشتركة قبل إقرار الاتفاق النووي الذي سوف يسمح لإيران بالاستفادة الكاملة من هذه الحقول ومن حقولها الخاصة أيضاً، ويهدّد ذلك سيطرة الرياض المشدّدة على منظمة «أوبك» - إلى جانب روسيا من خلال اتفاقية «أوبك+» – حيث تمتلك إيران الآن، وقبل أن تستحوذ على الأدوات الحديثة لاستخراج النفط والغاز، أكثر من 100 مليون برميل نفط في مستودعات عائمة، جاهزة لدخول السوق بمجرد رفع العقوبات.
لإيران ثالث أكبر احتياط نفطي في العالم، والمقدّر بـ 208.6 مليارات برميل، في الوقت الذي فيه بالكاد تحتل المركز الثامن في العالم من حيث إنتاج النفط (3.084 ملايين برميل يومياً)، أي ما نسبته 3.50% من الإنتاج العالمي للنفط. في المقابل، السعودية تملك ثاني أكبر احتياط نفطي في العالم والمقدر بـ 258.6 مليار برميل، وتشغل المركز نفسه من حيث الإنتاج.
لكن الأمر مختلف بشأن الغاز، بحيث هناك توازن بفارق بسيط من حيث الاحتياط والإنتاج، إذ تملك إيران ثاني أكبر احتياط من الغاز في العالم وتحتل المركز الثالث من حيث الإنتاج، ويأتي جزء كبير من النمو في إنتاج الغاز الطبيعي من تطوير حقل «جنوب فارس» البحري (ليس من حقل «بارس الجنوبي» المشترك مع قطر)، والمُكتشف عام 1990، والذي بدأ الإنتاج فيه عام 2003، لكن لم يصل بعد إلى أقصى طاقته. ويمكن أن ينتج هذا الحقل سنوياً 9.49 تريليونات قدم مكعبة (0.268 تريليون متر مكعب) حال الوصول إلى طاقته كاملةً بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية. وأنتجت إيران 241.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 2019، مقارنة بنحو 56.3 ملياراً، قبل عقدين من الزمان، بحسب الإحصائية السنوية لشركة النفط البريطانية «بي. بي»، ما جعلها ثالث أكبر منتج حول العالم عام 2019، رغم العقوبات الدولية.
لكن المشكلة الإيرانية هي أن غالبية الإنتاج تذهب للاستهلاك المحلي، فيما تُصدّر إيران كمّيات صغيرة إلى تركيا وأرمينيا وأذربيجان والعراق. وبالتالي لا مكان لها بين الدول العشر الأوائل في تصدير الغاز حول العالم. هذا عدا عن العقوبات التي تُضيِّق عليها في التصدير وتحديث وسائل الإنتاج.
والمفارقة في هذا المجال، والتي تدلّل أكثر على أهمية تطور آليات استخراج النفط، هي أن الولايات المتحدة الأميركية تحتل المركز الأوّل من حيث إنتاج النفط في العالم، نحو 16.476 مليون برميل نفط يومياً، أي ما نسبته 18.60% من الإنتاج العالمي للنفط، في الوقت الذي تصنف فيه كسادس أكبر احتياط نفطي في العالم والمقدّر بنحو 52.64 مليار برميل.
في المحصلة، إذا ما تحرّرت إيران من العقوبات وطوّرت آليات استخراج النفط والغاز واستحوذت على قدرة في توسعة صناعتها النفطية وتأمين الصيانة اللازمة لها، من الطبيعي ساعتئذٍ أن تحتل من حيث الإنتاج النفطي المركز الذي تشغله من الاحتياط النفطي العالمي، أي المركز الثالث. على غرار السعودية التي تحتل المركز الثاني من حيث الاحتياط والإنتاج في آن. والأمر نفسه يسري على تطوير إنتاج الغاز لتتقدّم إيران الدول المصدرة للغاز في العالم، وخصوصاً إذا ما حصلت تفاهمات بشأن تصدير غازها إلى أوروبا التي تعيش مأزق الاستغناء عن الغاز الروسي. وهذا ما يشكّل تحدّياً للسعودية وسائر دول الخليج المتربعة على رأس قائمة البلدان المنتجة للنفط والغاز في العالم، والتي أمست حاجة دولية في هذا المجال لا يستغنى عنها. وقد شهدنا الزحف الغربي إلى الخليج والتمنّي على قادته زيادة إنتاجهم، وتغيير وجهة نفطهم وغازهم من الشرق نحو الغرب.

*باحث لبناني