يستحيل فهم التوسّع الحالي لظاهرة «الدواعش» من دون ربطها بالماضي القريب الذي شهد إبادة الاحتجاجات و»إغراقها بالمال». هذا هو السياق الفعلي لنموّها حالياً، وربطها به أجدى من الانشغال بنقاشات حول علاقتها بظاهرة «الإرهاب» التي أعلن أوباما إنهاءها غداة «مقتل أسامة بن لادن» عام 2011. في تلك الحقبة كان ارتباط الفعل القتالي «الجهادي» بالمجتمع - أقلّه في سوريا - «واهناً جداً»، وباستثناء الأفواج التي ذهبت للقتال في العراق بعد الغزو لم تكن ثمّة قاعدة اجتماعية فعلية لرفد «الكوادر» التي تذهب وتعود خالية الوفاض.
حتّى تسمية هؤلاء بالكوادر ليست مناسبة، فهم ليسوا مدرّبين أصلاً على فعل القتال، ولا توجد لديهم فكرة عن حرب العصابات التي تخاض هناك بمعيّة المقاتلين العراقيين والعرب. المقصود أنهم في المجمل لا يشكّلون ظاهرة متّسقة يمكن على أساسها قياس فعالية دورهم في العراق إلى جانب الآخرين. «معظمهم» بحسب الروايات المتداولة حينها كان يلقى معاملة سيئة من المقاتلين العراقيين المحلّيين ضدّ الاحتلال، ورغم استعدادهم المسبق للتضحية بالذات إلا أنهم ووجهوا بمعاملة تمييزية تفاضل بين المقاتلين على أساس «الهوية الوطنية»، وهذا بحدّ ذاته كان كافياً، ليغيروا رأيهم في كلّ العملية ويعودوا إلى الداخل الذي أتوا منه. يمكن ببساطة تسمية هذه العودة بالديناميّة، وهي بالتأكيد بقيت معزولة عن سياقها، ولم تؤخذ بعين الاعتبار أثناء تحليل الإطار الذي جرت من خلاله عملية المقاومة وطرد الاحتلال من العراق. لنقل إنّ المصلحة حينها كانت تقضي بطمس هذه التناقضات، أو اعتبارها في أحسن الأحوال تناقضات ثانوية لا تقدّم ولا تؤخّر في مجرى الصراع الرئيسي.
بقي الصراع في العراق مرتبطاً بالبنية المحلّية صاحبة التأثير والمصلحة في إخراج الاحتلال، وعلى الأرجح أنها أسهمت أكثر بكثير من غيرها في تدفيع الأميركيين ثمن وجودهم هناك، بالرغم من أهمية الدور الذي لعبه المقاتلون العرب في مرحلة من المراحل. ظلّ هؤلاء على الدوام خارج التأثير الفعلي، وحين توافرت لديهم الفرصة للتأثير أضاعوها عبر النموذج المفزع الذي قدّموه بمعيّة الزرقاوي وأضرابه من التكفيريين. قد يكون ذلك سبباً لاعتبارهم هامشيين، لكن الواقع كان مغايراً بعض الشيء وعلى قدر من التعقيد لا يتيح لنا الجزم بأيّ معطى تماماً. فبخلاف آخرين، لم يكن الزرقاوي هامشيّاً أبداً، إذ إنّ قدرته على التعبئة وفّرت له العمل من ضمن سياق ليس بالضرورة متساوقاً مع «أعمال المقاومة»، ولكنه «يصبّ في مجراها العريض». ومن ضمن تناقضاته أيضاً أنه كان «يعمل لحسابه»، وبطبيعة الحال فإنّ هذا العمل - الذي كان يستهدف تحطيم المجتمع وحضّه على التنازع قبل استهداف الاحتلال - سيصطدم بالأولويات الموضوعة من جانب العراقيين حال الانتهاء من المعركة ضدّ الاحتلال، وربّما أثنائها أيضاً. إذاً، العمل بهذه الطريقة الفظّة والوحشيّة والمعادية للمجتمع المحلّي هو الذي همّش الرجل ومشروعه، حتّى قبل أن يقتل، فأصبحت الميليشيات التي تعمل بمعيّة مقتدى الصدر في مقاومة الاحتلال أقرب إلى كتائب ثورة العشرين ورجال حارث الضاري من الزرقاوي ومقاتليه. وهذه دينامية أخرى تضاف إلى جملة الديناميات التي أفرزها النضال المشترك ضدّ الاحتلال، وجرى اختبارها في الميدان، على اعتبار أنه المحك الرئيسي لأيّ نظرية يأتي بها الواقع. والحال أنّ هذا الأخير لا يكفّ عن التغيّر أبداً، فكلّ مرحلة لها مقتضياتها وإفرازاتها، وعلى أساس هذه الإفرازات يجري التعامل مع المعطيات المتوافرة، وفي العراق تحديداً حصل الأمر بسرعة بعد موجات متتالية من الأحداث التي بدأت بالغزو وتحطيم بنية الدولة والمجتمع ولمّا تنته بإخراج العملية السياسية الاحتلالية التي أفضت إلى تهميش كثيرين ودفعهم للاحتجاج. في هذه المرحلة انتهى دور المقاتلين العرب - المنبوذين أصلاً في العراق - تقريباً وعادت الكتلة المهمّشة فيهم إلى بلدانها لتقود من هناك سلسلة الاحتجاجات التي بدأت أوائل عام 2011. انتقال المواجهة ومعها الكتلة المهمّشة الفاعلة من مواجهة الاحتلال إلى مواجهة النظم أضافت عاملاً جديداً إلى المعادلة، وسمحت أكثر من ذي قبل بتوسيع القاعدة الاجتماعية المنخرطة في الاحتجاج (وخصوصاً في سوريا). فلم يعد الأمر رهناً بالهيئات الدينية التي تعبّئ الشباب وتحشدهم للقتال خارج الحدود، وأضحى المجتمع المحلّي برمّته هو المسؤول و»صاحب اليد العليا» في ما يحدث. لم يأت بعد دور العراق هنا، فالاحتجاجات انتقلت من تونس ومصر إلى سوريا، حيث كانت المواجهات على أشدّها بين قوى الأمن والمحتجّين، وبدا أنّ الأمر ذاهب بالفعل إلى تعقيدات ستنقل المواجهة إلى مستويات أخرى. بالطبع لعبت «المؤسّسات الدينية» دوراً في التحشيد ضدّ السلطة، وهذا «طبيعي» في غياب الأحزاب القادرة على تنظيم الاحتجاجات وتحويلها إلى برامج عمل، ولكنه لم يتحوّل إلى دور أساسي إلا بعد تزايد القمع الوحشي والرد عليه «شعبياً» بتحويل الاحتجاج إلى فعل وظيفي لا يستهدف السلطة وحدها.

أصبحت المفاضلة بين السلطة والمعارضة ممكنة أكثر من ذي قبل

المجتمع الذي يقود الاحتجاجات لم يقف في وجه هذا التحوّل، وبدا مرتاحاً لتدفّق الأموال التي تبتغي توسيع قاعدة الاحتجاج على أساس الاستقطاب العمودي (حتى لا نقول «الطائفي» وأنا اكره هذه «المعطيات» ولن أستخدمها مجدّداً في التحليل، فهي تعقّد الواقع أكثر ولا تساعد في فهم مجرياته الفعلية)، وحجّته في ذلك أنّ السلطة هي التي بدأت بالقتل والإجرام. من المؤكّد أن الناس «كانوا على حقّ» ربطاً بالتضحيات العظيمة التي قدّموها، إلا أنّ حجّتهم ظهرت وكأنها خارج السياق الذي أفضت إليه الأحداث. فالسلطة هي وحدها التي استفادت من الأمر، من خلال التركيز في «الطابع الديني» لخصومها، واستمرّت تدفع في هذا الاتجاه عبر مختلف أساليب الدعاية المغرضة حتى تبيّن أنها بالفعل تواجه مجاميع قتالية لا تشبه ما كانت عليه الاحتجاجات في بدايتها. لم يحدث هذا فقط بسبب التناول السلطوي المغرض، إذ إنّ أدوات السلطة الدعائية لا تعبّر عن كلّ الواقع وإنما عن جزء منه، بينما الجزء الآخر يتحوّل ويتغيّر بفعل تدخّلات حقيقية قادته إلى حيث هو الآن. لا أدري مثلاً كيف يتخيّل الناس خارج سوريا - أو داخلها حتى - عمل «المحاكم الشرعية» والهيئات الوهابية الأخرى التي حلّت محلّ مؤسّسات القضاء في أرياف حلب وادلب وسواها من المناطق الخاضعة لنفوذ المعارضة المسلحة، أو كيف يتعاطون مع العقوبات الهمجية التي تفرض على المتّهمين بارتكاب جنايات هناك (الجلد وقطع الأيدي والرمي بالرصاص و... الخ). لا يمكن تصوّر أن يكون الناس هناك راضين عن هذه «التحوّلات»، فهي وان أدخلت مزيداً من الأموال إلى الهيئات المحلّية الحاكمة - ومعظمها وهابي مع الأسف -، إلا أنها لم تحلّ التناقض القائم بينها وبين السلطة، لا بل زادته تعقيداً من خلال السماح للريوع النفطية الوافدة بالحلول محلّ دورة الإنتاج المنتهية وفرض نمط حياة لا يشبه أهل المنطقة ولا ما يقولون إنّها «ثورتهم» ضدّ النظام. والأسوأ من هذا كلّه أنها - أي التحوّلات أعلاه - خلطت الأوراق بالنسبة إلى شرائح عريضة لم تكن محسوبة على أحد وأعادت ترتيب أولوياتها على نحو مختلف، بحيث أصبحت المفاضلة بين السلطة والمعارضة ممكنة أكثر من ذي قبل، رغم كلّ همجية النظام ووحشيته في التعامل مع بيئات المعارضة. لا بد إذاً من رصد هذا التحوّل جيداً، فهو لم يعد تفصيلاً في المشهد وخصوصاً مع انتقال الاحتجاجات إلى العراق، وتزايد أدوار الدول التي لا تمانع في تحويلها إلى مسخ وظيفي جديد.
طبعاً، سيأخذ الأمر وقتاً في العراق قبل أن يعود المسخ المسمّى «بداعش» إلى حجمه، وتبدأ خيوط القصّة بالظهور كما حصل هنا في سوريا. المهمّ أن نفصل أثناء تحليلنا للظاهرة وتداعياتها بين الاحتجاجات التي بدأت فعلاً ضدّ التهميش والقمع السياسيين والتوظيف الذي يحصل على الدوام من جانب رؤوس الأموال التي تدير الريوع وتلقيها في وجوهنا. الجديد في الظاهرة المسلّحة الآن أنّها مختلطة، فلا هي داخلية صرفة ولا هي خارجية بالكامل كما كانت عليه الحال أيّام الزرقاوي، ولذلك يصعب وضعها في أيّ من الخانات المعمول بها حالياً من جانب الخبراء والمهتمين «بالجماعات الإسلامية» المسلّحة. لا شكّ في أنها تنطوي على بنية اقتصادية معقّدة بعد أن أصبحت مصادر تمويلها «مستقلّة» عن الدول التي دعمتها «في البداية» (السعودية وقطر والكويت والإمارات و... الخ)، فهي تعتمد فضلاً عن الريع المتدفّق باستمرار على الغنائم والجباية من الناس بالإكراه وأعمال الفدية والتهريب عبر الحدود وفرض الأتاوات على الأغنياء. وكلّها وسائل يتبعها أمراء الحرب في أيّ دولة من العالم ينشب فيها نزاع أهلي، ولهذا السبب بالتحديد أجد صعوبة في تسميتها «بالتنظيم الإسلامي» أو «الدولة الإسلامية» أو غيرهما من التسميات الشائعة. باختصار، نحن إزاء ظاهرة اقتصادية في المقام الأوّل، وكما تبيّن أنّ مثيلاتها في سوريا تستخدم الإسلام كإيديولوجية - غطاء لتعميم النهب وجعله محور الحياة هنا لسنوات مقبلة سيظهر لنا بعد انتهاء «الفقاعة العراقية» أنّ الدينامية التي تحكم سلوك «داعش» (أو بالأحرى ما يسمّى بـ»داعش») هي ذاتها المتّبعة في سوريا، مع بعض التعديلات التي تناسب الواقع العراقي. وهو بكلّ تأكيد أكثر استقطاباً للصراع على الثروة من نظيره السوري.
وفي انتظار تبيّن المسارات الفعلية للظاهرة لا بدّ من الاحتكام إلى الواقع قليلاً أثناء انتقادها أو امتداحها (وأجد أنّ الاثنين مبتذلان للغاية ولا يحصلان في الغالب إلا بغرض الدعاية والنيل من الخصم السياسي المحلّي أو الإقليمي)، فالسياق الذي نشأت من خلاله اتّسم هذه المرّة بالخصوصية المحلّية، وهذا ما يفسّر توسّعها السّهل نسبياً وعدم نشوء مقاومة جدّية لها من جانب البيئات التي تحمّست في السابق لقتالها تحت مسمّى «الصحوات». لكن من يعتبر هذه الخصوصيّة (وهي تخصّ المقاتلين العراقيين فحسب من العشائر والبعث و... الخ دون غيرهم من العرب والأجانب الذين يبدون كمرتزقة وقتلة متوحّشين في هذا الصراع) مناسبة للكلام عن «ثورة»، فأنصحه ببعض التواضع، وخصوصاً إذا كان من الرفاق السوريين المحبطين والمحبّذين لفكرة الإسقاطات. ما انتهت إليه الاحتجاجات السورية أيّها المناضلون هو حرب ضدّ المجتمع يقودها النظام والمعارضة معاً، ومن المعيب ونحن نشاهد تكرار التجربة في العراق على يد نظام المالكي وميليشيات البعث والعشائر والتكفيريين أن نمتدح هذا التحطيم، ونغضّ الطرف كما فعلنا هنا عن انهيار النسيج الاجتماعي بدعوى الاصطفاف إلى جانب الضحيّة. بالمناسبة، من الضحيّة الآن في العراق، وعلى أيّ أساس يمكن اعتبارها كذلك؟ المالكي وسلطته البغيضة التابعة لإيران ليسا ضحية، فهل تحالف البعث السابق مع التكفيريين والبيئات المهمّشة من السلطة هو المقصود بكلامكم؟ آه... نسينا السعودية وباقي المستعمرات في الخليج. عاشت الثورة العراقية المجيدة إذاً.
* كاتب سوري