بدت زيارة الصحافي الأميركي النافذ أي. جي. سولزبرغر إلى القاهرة خاطفة لم تستغرق أكثر من يومين. زار الأثر المصري الخالد أهرامات الجيزة. كان ذلك تعبيراً عن شغف مثقف غربي بالحضارة المصرية القديمة. أراد أن يسمع ويستكشف بقدر ما يسمح وقته حقيقة الحوار الوطني، الذي دعت إليه الرئاسة المصرية، مدى جديته ومستقبله، وإذا ما كان ممكناً الرهان عليه في تحسين البيئة العامة والملف الحقوقي المتخم بالشكايات أم أن أثره سوف يتبدد سريعاً. وكان ذلك تعبيراً عن شيء جديد يتحرك في مصر.هو لاعب رئيسي في صناعة الرأي العام الأميركي ونفوذه واصل إلى صلب القرار السياسي بالبيت الأبيض بحكم منصبه ناشراً لصحيفة الـ«نيويورك تايمز» ورئيساً لمجلس إدارتها. حمل معه إلى القاهرة أسئلته وشكوكه التي تنتاب الصحافة الدولية كلها بلا استثناء تقريباً. وقبل أن يغادر نيويورك طلب أن نلتقي. وجدت أمامي شاباً تجاوز بالكاد الثانية والأربعين من عمره، صعد إلى موقعه بإرث عائلة سولزبرغر الصحافية العريقة، جده ووالده توليا المنصب نفسه بأوقات سابقة. كان من دواعي تصعيده إلى موقعه الرهان على الأجيال الصحافية الجديدة في تجديد خدمات الـ«نيويورك تايمز» المهنية أمام تحديات الإعلام الرقمي. امتد الحوار بيننا لمدة الساعة والنصف الساعة حول الحوار الوطني في مصر.
استوضح وسأل، استمع أكثر مما تكلم، أراد أن يعرف ويستكشف، وكانت قضيته الرئيسية حرية الصحافة في مصر قبل أي شيء آخر. «بالتعريف فإن الصحافة مهنة حرية، إذا غابت أو تراجعت فإن المهنة نفسها تتقوض». «إذا ما تحركت السياسة فإن الصحافة سوف ينالها قدر كبير من التغيير الإيجابي». «نصف السياسة كلام، إذا امتنعت السياسة غاب الكلام وماتت الصحافة إكلينيكياً». «فوق ذلك كله فإن حرية الصحافة إحدى ضمانات الاستقرار على عكس الفكرة التي شاعت في أعقاب ثورة يناير 2011 من أنها هي التي أسقطت نظام حسني مبارك».
قلت له: «أخشى أن تكونوا في النيويورك تايمز تتصورون أنكم أنتم الذين أسقطتم دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة». «باليقين كان دوركم حاضراً ومؤثراً في تقويض صورته مع صحيفة الواشنطن بوست وفضائية الـCNN، لكن سياساته وخياراته هي التي أسقطته، فالأداء كان مزرياً في معالجته لأزمة الجائحة، والانقسام العرقي كان فادحاً والديموقراطية بدت مهددة وصورة أميركا في العالم شرخت بعمق».
قاطعني مؤكداً المعنى نفسه: «لا تستبعد أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى».
إنها السياسة ومسؤوليتها قبل وبعد الصحافة وأدوارها. قلت: «مدت حرية الصحافة عمر نظام مبارك لخمس سنوات على الأقل عندما كان ممكناً أن يكون هناك أمل في إصلاح النظام من الداخل، عندما تبدد ذلك الأمل حدث الانفجار الكبير في يناير 2011».
لم أكن في حاجة لمعرفة دوافعه للتركيز على أحوال الصحافة المصرية وحظها من الحرية، فهو صحافي -أوّلاً وأخيراً- يترأس صحيفة عريقة، قد لا تكون الأولى توزيعاً، لكنها الأكثر نفوذاً وتدقيقاً في قصصها الإخبارية، كما الأكثر حصولاً على جائزة «بوليتزر» بما لا يقاس مع أي صحيفة أخرى، وهذه شهادة جودة وصدقية.
بدأ حياته المهنية كناشر بصدام معلن حول حرية الصحافة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. في 20 حزيران 2018 جمعهما في البيت الأبيض لقاء أقرب إلى التعارف من أن يكون عملاً صحافياً. قال لترامب، على ما نشر بنفسه وقتها، إن «تعبير الأخبار المضللة الذي تفرط في استخدامه غير صحيح ومؤذ ووصفك للصحافيين بأعداء الشعب يدعو للقلق»... وإن «بعض الأنظمة تستغل اللغة التي تستخدمها لتبرير قمعها للصحافيين». عندما أفصح عن فحوى الحوار رد ترامب عليه بتغريدة وصف فيها الصحافيين، وهو على رأسهم، بـ«الكارهين المعادين».
قلت له: «مشكلة العالم مع أميركا، أنها مثل الملح في كل طبق طعام». فـ«هي متدخلة ومتداخلة في قضايانا وتمارس أقصى درجات ازدواج المعايير في مسائل الحريات الصحافية والدفاع عن حقوق الصحافيين، بالكاد أدانت الولايات المتحدة مقتل شيرين أبو عاقلة وأضفت بالوقت نفسه نوعاً من الحماية الواقعية على الجناة حتى لا يمثلوا أمام العدالة». بدا متضامناً من دون اصطناع مع ما جرى لشيرين.
في عودة إلى موضوع الحوار قلت: «بالنسبة لنا فإن حرية الصحافة أحد المداخل الممكنة لتوسيع هامش الحريات العامة، أن يكتسب المجتمع حقه في التنفس السياسي وتداول الأخبار والمعلومات، لكن استعادة حيويتها لن يكون أمراً سهلاً ومتاحاً في أي مدى قريب بالنظر إلى المستوى الخطير الذي وصل إليه تجريفها». «المدخل الأول لتحسين البيئة العامة، أو الاختبار الأكثر جدية للحوار الوطني، أن تمضي الإفراجات عن المحتجزين والمحكومين على خلفية قضايا رأي إلى نهاياتها من دون تباطؤ». «رغم أي شكوك مشروعة في النيويورك تايمز، أو في غيرها من كبريات الصحف الغربية ومراكز الأبحاث والأوساط الأكاديمية، فإن هناك شيئاً إيجابياً يتحرك في مصر، يستحق الدعم والإسناد من قوى المجتمع بكل ما فيه من عافية وحيوية حتى تستبين الحقائق كلها على الأرض».
جرى ذلك الحوار عن الحوار الوطني في 19 أيار الماضي قبل موجة إفراجات تتابعت ووصلت ذروتها المعنوية بالعفو الرئاسي عن المهندس يحيى حسين عبد الهادي، الذي يرمز لدى قطاعات واسعة من الرأي العام لنزاهة الذمة المالية ورفض بيع المقدرات العامة. «بقدر مضي الإفراجات بالحسم من دون إبطاء خطوات أخرى للأمام فإن الرهان العام على الحوار الوطني سوف يأخذ مدى لم يكن متوقعاً». «الإفراجات مقدمة الحوار وليست الحوار نفسه». «كل ما في مصر يعاني من أزمة ما، وهذا يستحق جدية كاملة في الاقتراب من ملف الحوار الوطني، أن يدخل في اهتمامات المواطن العادي ويساعد في تحسين أحواله». «لا يملك أحد أن يصدر أحكاماً بالتفاؤل والتشاؤم، الأفضل بكل موضوعية أن تأخذ فكرة الحوار وقتها وحقها حتى تستبين الحقائق الأخيرة، فلننتظر ونرى». «إذا ما تمكن الحوار الوطني من إحداث تماسك اجتماعي أكبر في مواجهة أزمات ضاغطة وأن يحسن من البيئة العامة فإننا سوف نكون أمام مخرجات معلنة وواضحة أمام الشعب المصري أولاً، والمحيط العربي ثانياً والغرب ثالثاً، وهذا يمكن أن يساعد في تحسين الأوضاع الاقتصادية الداخلية ورفع منسوب الدور الإقليمي المصري وتحسين صورة نظام الحكم الحالي في الميديا الدولية».
الجدية الكاملة شرط ضروري لتحسين الصورة أمام المواطن المصري أولاً قبل أي أحد آخر.
إذا أردنا أن نضع الأمور في نصابها فإنه ليس من السهل إزاحة الشكوك العميقة والمتراكمة في الإعلام الغربي. إنها مسألة وقت وإجراءات وأحوال شفافية لا بد أن تصاحب الحوار العام وتقود دفته.
لماذا أتى أي. جي. سولزبرغر إلى مصر في هذا التوقيت؟ الإجابة ببساطة: لأن فيها شيئاً يتحرك، أراد أن يسمع قبل أن يحكم، وهذا واجبه المهني بالمقام الأول. قرب نهاية الحوار أخبرني أن صحيفته تقدمت بطلب رسمي لإجراء حوار مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأنه في انتظار الرد. عندما تصبح مصر بلداً منتجة للأخبار بحيوية السياسة، وشعبها يتفق ويختلف بحرية من دون خوف فإن العالم كله سوف يأتي إليها.

* كاتب وصحافي مصري