«أنا لا أؤمن بمَهمات يستحيل إنجازها. أنا لا أؤمن بصعوبات يستحيل التغلب عليها. أنا لا أؤمن بأعداء يستحيل هزيمتهم»[يانغ غانسي - قائد سرية في جيش المتطوعين الصيني، من فيلم «معركة على بحيرة تشانغجين»]

قبل نحو سبعين عاماً، اندلعت الحرب الأهلية الكورية في حزيران من عام 1950 بين الجزء الجنوبي المدعوم من الولايات المتحدة والجزء الشمالي الشيوعي من شبه الجزيرة. ذلك بعد أن تمّ تقسيم الأخيرة من قبل الولايات المتحدة، بموافقة الاتحاد السوفياتي، دون علم الكوريين، وفقاً لما عُرف بخط العرض 38، كنتيجة لما عُرف لاحقاً بالحرب الباردة (الجدير ذكره أن الأحزاب الشيوعية كانت أكثر نشاطاً وشعبيةً في القسم الجنوبي من كوريا). شكّلت السنة الأولى من الحرب، على قسوتها، مفاصل عسكرية مهمة للجانبين، حيث تم خلالها تغيير وتعديل واستعمال تكتيكات عسكرية عدة من قبل قادة الوحدات المتحاربة على أرض المعركة. وبالرغم من تمكّن الجيش الشعبي الكوري الشمالي من إحراز تقدّم هائل في الشهرين الأوّلين منها ومحاصرته القوات الكورية الجنوبية والقوات الأميركية، فضلاً عن القوات المشاركة من الأمم المتحدة (أو دول «الناتو» حالياً) في محيط ولاية بوسان- جنوب شرق كوريا، فإن الجنرال ماك آرثر استطاع فك الحصار في 15 أيلول عبر القيام بعملية مباغتة على مرفأ انشون وقلب موازين الصراع لصالحه على طول الخط 38. يقول جيفري بيري، كاتب مذكراته، إن «الخامس عشر من أيلول هو اليوم (قد يكون الوحيد) الذي برزت فيه عبقريته العسكرية».

الصين: لا تقتربوا من حدودنا
تمكّن ماك آرثر وقواته من استعادة العاصمة سيول وإعادة السيطرة على الحد الجنوبي للخط الفاصل تزامناً مع تراجع للقوات الكورية الشمالية، فارتأت الإدارة الأميركية، برئاسة ترومان، ضرورة استثمار الانتصارات المتتالية وإنهاء الحكم الشيوعي في الجزء الشمالي من كوريا والوصول إلى نهر يالو على الحدود الصينية. لكنّ الحكومة الصينية كانت قد تنبهت لخطر تواجد القوات الأميركية في الجزء الشمالي، وخاصة على حدودها، فأرسلت، على عدة أصعدة، رسائل سياسية وعسكرية تهدّد بدخولها الحرب في حال استمر الأميركيون بزحفهم شمالاً. لكنّ لماك آرثر وإدارته رأياً مختلفاً؛ باعتبار أن الصينيين لن يدخلوا الحرب، وإن فعلوا ستقضي القوات الجوية الأميركية عليهم قبل اجتياز الحدود.
على المقلب الآخر، عيّن ماو الجنرال بينع ديهيوي قائداً لجيش المتطوعين الصيني، وأوكل إليه قيادة القوات الصينية في كوريا، في حين أوكل للجيش التاسع بقيادة الجنرال سونغ شيلون القضاء على القوات الأميركية المتواجدة على بحيرة شونغ سي. اسمان سيحفران في ذاكرة المارينز ذكريات لن تُنسى (وفي ذاكرة ماك آرثر نفسه). والجيش التاسع أغلبيته العظمى هي من الفلاحين وأبنائهم وأقاربهم، الذين تمتعوا بمرونة عالية بعد معارك خاضوها في حرب التحرير بالسلاح الأبيض لضعف إمكانية تسليحهم، طوّروا خلالها تكتيكات في حرب العصابات لقتل خصومهم (يذكر جنود المارينز في تقاريرهم أنه أثناء مراقبتهم الليلية كانوا يسمعون صفيراً ويرون خيالات لأشباح) واغتنام الأسلحة. تسلل، بغياب وسائل نقل، إلى كوريا الشمالية حوالي مئتي ألف مقاتل صيني، تحت مراقبة كثيفة للطائرات الأميركية، بثياب هشة وأسلحة قديمة وأسلحة أميركية اغتنمت من الوطنيين الصينيين، وبقية دون سلاح في ظروف مناخية قارسة (حرارة -40)، ما أدّى إلى خسارة حوالي ثلاثين ألفاً، قبل أن تتمركز خفيةً ثماني فرق من الجيش التاسع في الجبال التي تحيط البحيرة، إلى أن حصل الاشتباك الفعلي في 25 تشرين الثاني.
لم يتوقع أحد في العالم أن يخرج بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ثلة من الجنوبيين في بلد هامشي كلبنان تقوم بسحق صورة أقوى جيش في الشرق الأوسط


في معركة دامت 17 يوماً، قُتل على إثرها نحو عشرين ألف مقاتل صنيي، ضد عدو يفوقهم عسكرياً وتكنولوجياً بآلاف المرات. لم تكن البطولة والشجاعة هما الميزتين الوحيدتين فيها، بل كان للانضباط أثر كبير في نجاحها – والانضباط هو أن تحتجب ثماني فرق طيلة النهار لتقتصر تحركاتها ليلاً على مجموعات استطلاع أو الأشباح دون تحقيق تماس وتنسحب متقيدةً بمهامها على الرغم من سهولة مباغتة نقاط المراقبة المتقدمة (التي اشتكى ضباطها من نوم معظم عناصرها). نتج عن المعركة الانسحاب الأكبر في تاريخ قوات الأمم المتحدة وقوات ماك آرثر (الفيلق X، المطالب بقصف الصين نووياً)، إلى جنوب خط 38، بخسائر بشرية تفوق الستين ألفاً. استمرت بعدها الحرب لعامين، لم يترك الأميركيون زاويةً في الجزء الشمالي إلا وقصفوها.

«بقيّة الله»
بعد عامين من اندلاع الأحداث في سوريا وبروز المسلحين على مختلف أشكالهم، الذين اتفقت دول الغرب كافة والدول الخليجية وأتباعها على دعمهم لإسقاط النظام فيها، بدأت تتشكّل على الحدود اللبنانية إمارات تكفيرية هدفها وصل الداخل السوري بالبحر المتوسط. وفي أغلب الأحداث الموازية في بلادنا علينا أن نشكر نرجسية وحماسية كل المشاركين فيها لسرعة إعلانهم نواياهم الحقيقية ورفع رايات النصر، التي لا تدوم طويلاً، بالقيام بعدها بمحاصرة حزب الله والقضاء عليه. في التاسع عشر من أيار 2013، أعلنت المقاومة الإسلامية بدء عملية تحرير الأراضي الواقعة على الحدود الشرقية، بدءاً من القصير تتابعاً باتجاه يبرود والقلمون، في حين انتظر العالم غرقها واستنزاف قوتها نظراً إلى اختلاف أرض المعركة وطبيعة عقيدتها القتالية. خرجت المقاومة منتصرة بعد أن قدّمت خيرة شبابها وقادتها.
في كتابه «نظرية حرب الغوار»، يشير كارل شميت إلى أن إحدى الميزات التي يتمتع فيها المقاتل - المقاوم - هي قدرته على نقل المعركة إلى مستويات أعمق وأخطر يضرب خلالها تكتيكات العدو وعملياته الاستراتيجية. انتقلت المقاومة الإسلامية من القتال ضمن عقيدة دفاعية في لبنان بعد التحرير إلى عقيدة هجومية في المدن والجبال الوعرة. بدّلت، أثناء سير العمليات وهي لا تملك الوقت والترف، العديد من التكتيكات، أبرزها في الأيام الأولى من معركة القصير، لتثبت أنها الأكثر قدرة على التأقلم ومجابهة التهديدات والأعداء على اختلافهم. وبينما يتساءل شميت عن قدرة التطور التكنولوجي على ترويض حركات المقاومة لاحقاً بعد إنتاج إنسان جديد أكثر تكنوقراطاً، مع عدم إنكاره قدرة الحركات المقاومة على المنافسة في هذا المجال، يطرح تخوّفه من إنتاج مقاتل يتلاءم مع كل هذه التطورات في الدول العظمى ويقوم بتجنيدها لمصلحته.
لم يتوقع أحد في العالم أن يخرج بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ثلة من الجنوبيين في بلد هامشي كلبنان تقوم بسحق صورة أقوى جيش في الشرق الأوسط، بداية منذ عام 2000، وتعبر من مقاومة بإمكانات هزيلة إلى مقاومة تمتلك وتصنع صواريخ نقطية دقيقة. فإن كان ماو، بحسب شميت، هو من أفضل المنظّرين المعاصرين لحرب الغوار، فماذا سيكتب التاريخ العسكري عن الحاج قاسم سليماني والحاج عماد مغنية؟

خاتمة
ما زال التدخّل الصيني في الحرب الكورية موضعاً للاختلاف بين المؤرّخين، بين من يعتبر التدخّل هو حماية للأمن القومي الصيني وبين من يضعه ضمن فردانية ماو في اتخاذ القرارات الاستثنائية وطموحه في إعادة إحياء الإمبراطورية الصينية التي بسببها خسر تايوان، وأهمل الداخل الصيني وأصبح أكثر اعتماداً على الاتحاد السوفياتي - هذه المنهجية يتم إسقاطها على روسيا وعلى بلادنا اليوم. وبالطبع كان يمكن لماو، بنظرهم، أن يستعيد تايوان عبر المفاوضات مع الأمم المتحدة، كما ستتحرر فلسطين عبر التطبيع الذي تقوم به دول الخليج مع العدو الإسرائيلي، والذي تعيقه الطموحات في إعادة الإمبراطورية الفارسية. لهذا، فإن التأريخ لدخول الحزب في الحرب السورية سيأخذ العديد من التأويلات والانحرافات، لكنّ المادية التاريخية والوعي السياسي لا يكمنان في حلقات وصفحات النقاش ولا في المؤتمرات والفيديوات، بل في أن تستلّ ثلة من الفقراء في الصين ولبنان والعراق وسوريا واليمن... السلاح وتطوّره لطرد كل من هدّد وسيهدّد أمنها واستقرارها ومعيشتها، فتصنع المستحيل.
* باحث عربي