تشكّل فكرة حرب الاستنزاف فوبيا حقيقيّة للكيان الصهيوني. رغم ما يمتلكه من أسلحة فتاكة وتكنولوجيا متطورة، فإنها لا تأتي بنتائج إلا بالحروب التكتيكيّة واضحة الأهداف قصيرة الزمن. أي حرب استنزاف طويلة، ترافقها صواريخ من الجبهات كافة، ستفرِّغ الكيان من نصف سكانه، وسيبقى نصف آخر مرتاب لا يقوى على ممارسة سلوكه الذي اعتاد عليه خلال عشرات السنوات. هذا المجتمع المستوطن في فلسطين لا تعنيه اليوم بروباغاندا أرض الميعاد والوطن القومي لليهود، بل غُرّر به ليهاجر إلى بلد ينعم فيها بالأمن والاستقرار، ولن يقاتل من أجل أرض يرى أنها ليست أرضه ولا أرض أجداده، ولهذا يحتفظ بجنسية بلد أجنبي للحالات الطارئة. هذا أفضل سيناريو ممكن تصوّره؛ ربما يعود حال المنطقة مائة عام للوراء حيث لم يكن للصهاينة وجود فيها.حرب الاستنزاف هذه لها قواعدها وظروفها الإقليميّة والدوليّة، في حين تسعى كل الجهات الدوليّة لتجنب حدوثها. لكنها ليست الحرب الوحيدة التي تضع هذا الكيان أمام مستقبل ليس في صالحه؛ فقد استطاع شعبنا الفلسطيني أن يحوّل فكرة الاستنزاف لنضال دائم لا يقيّده وقت ولا شكل. هو يخوض، منذ سنوات، هبات وطنيّة متفرقة على مساحة فلسطين التاريخيّة، ولهذا سنعطيها وصف «انتفاضة استنزاف»؛ الغضب لا يعني الاستمرار اليومي، والهدوء لن يعني إلا راحة المنتفض، وسيبقى هذا الشعب في حالة اشتباك دائم، ينفجر كل حين، ويهدأ ليستجمع قواه، ثم ينتفض في قضيّة جديدة، ومكان جديد. وكل تفصيل يستدعي هبة غضب تزرع في نعش الاحتلال مسمار جديد.
من يراقب سلوك قادة الكيان يدرك أنهم يريدون الانتصار بأي وسيلة. لا ينحصر الأمر في ممارسة إرهابهم لقمع شجاعة الفلسطينيين، بل هم يدركون أن بنية سكان الكيان الاجتماعيّة الضعيفة ستتحول إلى عبء وجودي، لكنها ليست معركة ككل المعارك، هي انتفاضة دائمة يحدّد شكلها ومضمونها ومكانها وأدواتها شعبنا الفلسطيني، وسينتصر بإرادته. وإذا راقبنا بعين الحقيقة سنرى صراع وجود مزدوج على مساحة فلسطين التاريخيّة؛ جهاز الأمن الداخلي بأذرعه كافة يقمع الشارع الفلسطيني بذات العداء الذي يمارسه جيش الاحتلال وحرس حدوده في الضفة والقدس. فهو يعتبر كل فلسطيني عدواً لوجوده. إذ نرى في المشهد ذاته الفلسطيني داخل أراضي الـ 48 يواجه قوى الأمن الصهيونية كعدو سلب أرضه وهجّر أهله. فالمواطنة ما هي إلا قرار ثبات في الأرض ولا تعبّر أبداً عن انسلاخ عن الهم العربي الفلسطيني المشترك.
يستحق شعبنا الفلسطيني من شعبنا العربي على مساحة الأمة، ومن جميع الشعوب التي تناصره، كل جهد يدعم صمود واستمرار استنزاف الكيان داخلياً. فهذا الشكل من النضال يستنزف قدرات الأمن الداخلي للعدو، وسيضعه أمام مسؤوليات وتحديات اقتصادية واجتماعية لن يستطيع تجاوزها أبداً، ليبحث عن أسوأ الاحتمالات لفتح حرب إقليميّة ستكون نتائجها خطراً أعمق من مواجهة انتفاضة الشعب الفلسطيني الدائمة.
إن انتفاضة الاستنزاف، التي نشهد إحدى هباتها اليوم، تتميّز بجيل شاب مقدام لا يهاب، يشكل حالة جمعيّة يجب أن تنتصر، بما فيها من توحيد للخطاب الوطني وتعزيز لوحدة الشارع. هي فرصة تاريخيّة لتوحيد جميع الفصائل الفلسطينيّة، واستثمار الواقع الدولي الحالي لوضع ملف فلسطين كجزء من الصراع وقضية أساسية في مضمون الأقطاب الجديدة التي ستنهي احتكار واشنطن للقرار العالمي.

* أسير محرر ــــ الجولان