هل ما زالت مقومات الخبر اليوم: من، أين، ماذا، متى، لماذا، وحسب؟ وهل ما زالت مواصفاته المتعارف عليها أكاديمياً: الصدق والدقة والموضوعية وعدم التحيز؟ إن من يتابع صناعة الخبر في العالم اليوم، يدرك أنها باتت من أهم صناعات العصر، وقد أصبحت سلطة قائمة بذاتها تعكس توجه المجتمع ودوافعه حتى باتت تدعى «السلطة الرابعة» في المجتمعات، رافضة أن تكون محايدة بل موجهة ومحركة لآراء وتفكير الشعوب وبات الصحافيون يزهون بأنفسهم وبدورهم كمراقبين يتولون حراسة المصلحة العامة للمواطن في مواجهة السلطة التي غالباً ما تكون ضد الحريات ومع تحصين نفسها بالأسرار. كانت الجمعية الأميركية لمحرري الصحف عام 1923 أكدت عليهم أن يكونوا بعيدين في ما يكتبونه عن الرأي الشخصي والتحيّز. إن أبرز من كتب عن صناعة الخبر كان الأميركيان الثنائيان جورج هاملتون، وكريمسكي، وهما اعتبرا أنه وبعد صناعة الخبر جاءت الصحف لتمثّل مشاريع تجارية هامة، حيث يلعب الإعلان دور الممول الحقيقي للإعلام في الغرب، ليحافظ من خلاله على بعض حريته التي أدت به مرات عدة إلى إنجازات سياسية. نأخذ نموذجاً على ذلك فضيحة «ووترغيت» التي كشفتها جريدة «واشنطن بوست» وأدت إلى تنحي الرئيس يومها ريتشارد نيكسون.لكن السؤال، هل كانت هذه الصناعة بعيدة من دور الأنظمة السياسية العظمى ومشاريعها؟ أدركت هذه الدول باكراً أهمية ودور الإعلام في مساندة مشاريعها السياسية وتحويل الأنظار عن أمور مهمة، في تضليل متعمّد تصنعه ما تعرف بـ«البروباغندا». المصطلح، الذي يعود أصله اللغوي إلى اللاتينية ويعني المعلومات المضللة، يعود استعماله إلى الحرب العالمية الأولى، كسياسة في الدعاية السياسية والحربية، عندما استخدمه الرئيس الأميركي ويلسون. شكّل الأخير يومها لجنة «كريل» لتعمل معه على تحويل موقف الجمهور الأميركي من رافض للمشاركة في الحرب إلى مساند لها. وخلال ستة أشهر، تمكّنت اللجنة من تحويل المواطنين المسالمين إلى متحفزين للحرب، إثر سياسة بث الذعر التي اعتمدت من خلال نشر الأخبار والقصص التي تحمل الكثير من الفبركة والتزييف. هذا الأسلوب اعتبره الجميع إنجازاً لجمعية «كريل»، ومن ثم اعتمد منهجاً سارت عليه المجموعات كافة التي كلفت بتوجيه وصناعة الرأي العام، في أميركا والعالم، وبات يحكم الإعلام اليوم.
وهكذا لم يكن جوزيف غوبلز، وزير الدعاية الألمانية في ألمانيا النازية وأهم مساعدي هتلر، هو أوّل سياسي يعتمد هذا النهج، وهو الذي بات قوله مأثوراً وسائداً إلى اليوم: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون». غوبلز، الذي كان دكتوراً في اللغة، اهتم كثيراً باستخدام الترويج للنازية وبرنامجها، ولكنه مثل أدولف هتلر انتهى منتحراً في الثلاثين من نيسان عام 1945، وله في الإعلام الترويجي مبادئ هامة، مثل: «أعطني إعلاماً بلا ضمير أعطيك شعباً بلا وعي»، «كلّما كبرت الكذبة سهل تصديقها». ويمكن الجزم أن هذا النهج، الذي اعتمده غوبلز في الراديوات والمحطات التلفزيونية وفي الصحف المطبوعة، شكّل مدرسة للتضليل الإعلامي العصري، يحدوه إلى ذلك التلاعب في العقول من خلال تضليل عامة الناس بالإشاعات لتحريف الوقائع ومن خلال التكرار والكذب وصولاً إلى إبعاد الأنظار عن قضية هامة باتجاه قضايا أقل أهمية لاستهدافات أوسع وأكبر.
إن أهمية قصوى تستدعي منا تسليط الضوء على هذا الإعلام المشوش، المضلل والمتبع في إعلام اليوم، حرصاً على توعية عامة الناس، والشباب خاصة، لمنعهم من الانخراط في متاهات التضليل. كأنّ قول ستالين «موت إنسان واحد مأساة كبرى أمّا موت الملايين فمجرد إحصائيات» هو عنوان ما يجري اليوم. لقد ثبت مدى تأثير هذا الأمر في السنوات العشر الأخيرة، من خلال التأكيد من قبل رواد التضليل الإعلامي على بعض الحالات الإفرادية، بقصد التغطية على أمور أكبر وأكثر أهمية في هذا العالم الذي تحكمه القوة لا القانون، وفي مناخ تملؤه ازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين، وغياب الشفافية والصدقية. يقول نعوم تشومسكي في هذا المجال، وهو أبرز من كتب عن هذا الشأن بعنوان «السيطرة على الإعلام»، إنه في هذه الأجواء لا بد للميديا الإعلامية أن يكون لها دور سياسي ورئيسي في قلب الحقائق وتعبئة الجمهور لتأييد الباطل كما لو كان.
كم من جرائم ارتكبت باسم الديموقراطية، وكم من حقوق انتهكت بدعوة المحافظة على حقوق الإنسان في بلادنا، وفلسطين المثل الأكبر منذ أكثر من سبعين عاماً. وفي سوريا ولبنان أخيراً تبدو ترجمة دقيقة لمقاصد البروباغندا؛ تضليل الجماهير وجعلها قطيعاً ضالاً، أو أغبياء سذجاً، تقودهم عناوين براقة مغرية. يقول رينهولد نايبهور، الأميركي وعميد المفكرين السياسيين في صناعة حملات صناعة الرأي العام، أنه يجب على من يملكون المنطق، أي النخبة، أن يضعوا أوهاماً ضرورية لإبقاء الشعب ساذجاً. هذا يقودنا إلى إدراك أهداف سياسة ازدواجية المعايير، فيكون فيدل كاسترو رئيس كوبا دكتاتوراً متوحشاً مع شعبه، وكذلك تشافيز ومادورو في فنزويلا، أمّا جرائم الأميركي في فيتنام والعراق وغيرها فكانت خدمة للعالم الحر. لقد اعتبر نايبهور أن الأنظمة الديموقراطية، في سيطرتها على الرأي العام، لا بد لها من استخدام وسائل الإعلام لغسل العقول، على عكس الأنظمة الشمولية التي تستخدم القمع والعنف.
هكذا إذاً، تحت عناوين براقة للديموقراطية والشفافية كانت تتشكل صناعة جديدة للرأي العام الذي كانت مهمته بالعادة أن يرفد الأنظمة بالقوة الشعبية والعددية، ليس فقط في الأنظمة الديموقراطية، بل أيضاً في ما عرف بالأنظمة الشمولية أيضاً. على سبيل المثال، وفي العالم العربي وفي مصر، عرف المذيع المصري أحمد سعيد، رئيس إذاعة «صوت العرب» في عهد الرئيس جمال عبد الناصر والمتميّز في الأداء الإذاعي طيلة وجوده، منذ عام 1953 حتى عام 1967، والذي كان يعلن انتصارات الجيش المصري في حرب النكسة عام 67 بينما كانت الحقيقة هزيمة مرّة وبشعة لمصر، وبدل أن يكون الجيش المصري يسقط الطائرات الإسرائيلية المغيرة، كانت الجبهة تشهد هزيمة كبرى للجيش المصري وكان الطيران الإسرائيلي يقصف الطائرات المصرية وهي على المدرجات. طبعاً بغض النظر عن ثبوت الخيانة في ما بعد.
أيضاً من لا يتذكر اسم محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام العراقي الطليق اللسان وصاحب عبارة «العلوج»، عندما دخل الأميركيون العراق عام 2003 وأدار هو الحرب الإعلامية، وكانت عبارات الأوغاد، الطراطير، تطلق منه على قوات التحالف الغازية للعراق، وبينما الجيش الغازي قد أصبح في ساحات بغداد كان الصحاف لا يزال يقاتل منتصراً من موقعه في التلفزيون العراقي. الجدير بالذكر أن الصحاف لم يكن من المطلوبين للأميركيين، بل أطلق سراحه ونقل إلى الإمارات بطائرة خاصة أرسلت لأجله بأمر من الأمير زايد.
أهم ما تجدر الإشارة إليه في دور الأنظمة خلال السنوات العشر الأخيرة، ما تقوم به الوكالة الأميركية للإعلام العالمي «USAGU»، من خلال تمويلها المحطات والفضائيات اللبنانية والعربية ودورها في إذكاء الفتن الأهلية والتضليل القائم وإعلاء المصالح الأميركية على المصلحة الوطنية. ويبدو هذا الدعم واضحاً من خلال تدريب مئات الصحافيين والمحررين والمذيعين ومديري وسائل الإعلام، هذا عدا الدعم الفني والإداري لشبكات البث، لذا لا يجب أن تستغرب عندما نسمع أن سجن أبو غريب في بغداد هو سجن للإرهابيين وليس المقاومين أبناء العراق والمتصدين للغزو حيث حصلت انتهاكات كبرى، تحدث عنها الجنود الأميركيون أنفسهم المتورطون في التعذيب بعد خروجهم من العراق وقد اعتبروها أكثر الفصول ظلمة في تاريخ الولايات المتحدة. هذا السجن الذي تفجرت فضيحته عام 2004 ولم تظهر صور الارتكابات فيه إلا بعد مرور 12 عاماً من المرافعات القضائية أي عام 2016.
هذا في أبو غريب، أمّا في فلسطين المحتلة، فلا يزال حي الشيخ جراح يناضل ليحظى بلفتة من الإعلام العالمي، رغم أن صفحات التواصل الاجتماعي حفلت بمعاناة أهل الحي وبارتكابات العدو، من دون أن تلقى هذه الممارسات أية آذان صاغية من العالم ومنظمات حقوق الإنسان.
وفي مكان آخر، في سوريا مثلاً، تستطيع منظمة «القبعات البيض»، المدعومة بريطانياً، أثناء الحرب الإرهابية في السنوات العشر الأخيرة، أن تجعل من صورة طفل غطى الغبار وجهه نتيجة قصف قوات النظام لمنزله تدور العالم كله وتحظى باستنكاره، ولا تسمع في مكان آخر أحداً يفتح فمه على الجرائم التي ترتكب بحق أطفال اليمن بالتجويع والقصف والأوبئة طيلة سبع سنوات.
نعود إلى حقيقة ثابتة عن تمويل الإعلام اللبناني بالمال الأميركي، أعلنت من على منبر لجنة العلاقات الخارجية وأمام مجلس الشيوخ الأميركي، إذ كان ديفيد هيل أكد تمويل وسائل إعلامية وتأمين عشرة مليارات دولار للبنان وزع منها على الوسائل الإعلامية الموالية لأميركا وعلى رؤساء أحزاب ونشطاء ومواقع إلكترونية... إلخ، وكل ذلك لمواجهة حزب الله والقوى المتحالفة معه إعلامياً من خلال ضخ الأكاذيب والاتهامات والتلاعب في العقول وتحريف الأحداث. إن الهدف من هذا الضخ التضليلي مقصود منه فك الاحتضان الشعبي حول المقاومة، وشيطنة إنجازاتها وتصوير الانتصارات، كما سلاح المقاومة، السبب الأساسي للانهيار الاقتصادي القائم. كما أن المطلوب تحويل النظر عن قضايا أساسية كترسيم الحدود البحرية مع الكيان المحتل إلى قضايا أقل أهمية. كما أنه مطلوب قلب الحقائق وإحلال الكلام عن احتلال إيراني مزعوم للبنان بدل الكلام عن هيمنة أميركية واضحة تكبّل السلطة السياسية والأمنية، وتقرر عن السياسيين المشاريع الإنمائية والإدارية، وتقرر عن الدولة أولوياتها وصولاً إلى رهن البلد طوعاً لخيار الارتهان للبنك الدولي ومشاريعه. ويمكن القول إن هذا الأمر فعل فعله في عقول الشباب والعامة حتى بات يشكل قناعات ثابتة.
إن البروباغندا السائدة اليوم في الشارع اللبناني جاهزة لتجعل من الإسرائيلي جاراً والسوري عدواً، والخشية أن يستكمل الأمر فيجعل من التطبيع مع العدو نافذة للخلاص من خلال التهليل القائم لعنوان الحياد، بعدما ساد جيداً إلى الآن الكلام عن تأييد العمالة التي هي مجرد تعبير حرّ عن وجهة نظر، في غياب المحاسبة الجادة قضائياً وشعبياً.

* كاتبة لبنانيّة