كنت أظن أن التقدّم في العمر سيعطيني القدرة على تحمّل فراق أمّي. لكن رحيلها إلى بارئها جعلني أشعر وكأن الحبل السرّي الذي ربطني بها قبل أن تنجبني لم ينقطع إلا يوم وفاتها، وكأني بانقطاعه هويت إلى فضاء الحياة الدنيا الفارغ من دونها، والذي لا أجد ما يُخَفِّفُ من وِحْشَتِهِ سوى أملي وإيماني بأنها، بإذنه تعالى، ارتقت إلى رحاب رحمة الله وكرمه في السموات العلا.أتوسّل إليك يا ربي أن تُسْكنَ أمي فاطمة رحاب جناتِكَ، وأن توحي إلى ملاكٍ هناك ليقدم لها في هذا الربيع باقة من زنبق الجنة وورودها، فهي تحب الأزهار والورود.
قبل أيام ودعنا أمي الحبيبة في دمشق، تلك المدينة التي أحبتها أمي كثيراً حبها لمدينتها صفد في الجليل الأعلى في فلسطين، وحبها أيضاً لمدينة القدس التي عاشت وأبي فيها بعد زواجهما، في حارة البقعة التحتا بجانب القطمون.
وُلِدَتْ أمي لأبويها أحمد الحدري وزليخة البرغوثي في حارة الصواوين وهي أكبر حارات صفد، وتميزت منذ نعومة أظفارها بالرقة والأدب واللطف والذكاء والجمال، فنالت محبة والديها ورضاهما وكل من عرفها، وتحملت منذ صغرها مسؤولية مساعدة والدتها بالإشراف على إخوتها الصغار. وعندما أصبحت في السادسة من عمرها أوكلت جدتي إلى المعلمتين هندية عوض وعربية الشيخ علي تحفيظ أمي جزء عمّ من القرآن الكريم. وحكت لنا أمي كيف انطلق الأطفال في صفها يوم ختمت تعلُّمَ القرآن الكريم جرياً إلى بيت أهلها، ليُبَشِّروا جدتي بهذا الخبر السعيد، أملاً بنيل الحلوان، وكان كَمْشاتٍ من حبات المْلَبَّسْ المُلَوَّنْ لكل منهم، وكان ذلك تقليداً شعبياً لمن يختمُ تعلمَ القرآن الكريم أو أجزاء منه آنذاك.
(سليمان منصور)

وبعدها تعلمت أمي القراءة والكتابة والحساب عند الخُجا بديعة والخُجا فوزية العيساوي، كما تعلمت الخياطة عند الخيّاطة المعروفة في صفد حنيفة صبح، وقد نالت محبة كل معلماتها لفطنتها واجتهادها وتهذيبها.
كانت طفولة أمي سعيدة رغم أوضاع فلسطين المضطربة في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن العشرين. ولم تَخْبُ حماستها عند وصفها بيت جدي في صفد، بَدْءاً من بوابته التي تنزل إليها بخمس درجات، وعبوراً لغرفة المونة التي تحوي خوابي الزيت وكواير الحبوب على يمين مدخل الدار، ومروراً بفسحته «أرض الديار» التي كانت جدتي تزرعها بأزهار الخبيزة الملونة والمرجان الأحمر والورد الجوري بمختلف ألوانه. ووسط تلك الفسحة كانت شجرة البرتقال الكبيرة التي كان عبير أزهارها يعطر أرجاء البيت في فصل الربيع، وكانت الغرف والمنافع تحيط بتلك الفسحة الجميلة.
حكت لنا أمي كيف بنى جدي غرفة إضافية على السطح أرادها أن تكون سكناً لابنه الأكبر عندما يكبر ويتزوج، وكان يُصْعَدُ إليها بدرج زينته جدتي بالزهور التي زرعتها في تنكات زيت الزيتون الفارغة، والتي كانت تغطي جدرانها بِثَقْبِ جوانبها وزَرْعِ شتلات الزهور في تلك الثقوب لتغطي جُدُرَ التنكات بألوانها الجميلة.
وحديث أمي عن جيرانهم في صفد كان مفعماً بحنينٍ لأيامٍ كان فيها الجار والأخ سواءً، في الأفراح والأتراح، ومنهم عائلات الكبرا والبرغوثي وصبح وأمين وخميس ومكي وخليفة وغيرهم.
ولحديثها عن شهر رمضان في صفد جمال خاص تجتمع فيه البراءة والطفولة والتقاليد، فقد كان أطفال حارتهم يتجمعون بحماسة في الساحة القريبة من بيوتهم لسماع مدفع الإفطار، وبعد سماعهم لدوي المدفع من قلعة صفد كانوا يهرعون فرحين إلى بيوتهم للبدء بتناول الإفطار مع عائلاتهم.
حدثتنا أمي كيف كانت نساء صفد يبدأن بعد منتصف الشهر الفضيل بالاجتماع كل يوم في بيت إحداهن لتحضير الكعك الصفدي لعيد الفطر، المُكَوّنِ من الطحين المضاف إليه بهاراته المميزة بروائحها الشهية من الشومر واليانسون والقرنفل والمحلب. ولا أنسى ابتسامتها وهي تعبر عن اندهاشها وهي طفلة كيف كانت الجارات يتعاونّ على تحضير كعك العيد ذاته الذي سيقدمونه لضيوف العيد الذين يكون لديهم الكعك الصفدي نفسه لتقديمه لضيوفهم أيضاً.
كانت جدتي تُحَضِّرُ عجينة كعك العيد، وتحشو نصف الكمية بالتمر وتجعله على شكل مثلثات، وتحشو النصف الآخر بالجوز والصنوبر مع السكر وماء الزهر، وتجعله بشكل نصف دائرة منقوشة الحواف. ثم تَصُفُّهُ فوق بعضه، في سلة من القش خاصة لذلك، وتفصل بين كل طبقة وأخرى بقطع من الخام الأبيض، ثم تطلب من خالي أن يأخذ الكعك إلى الفرن في حارتهم.
كانت أمي في طفولتها تصحب خالي إلى الفرن وينتظران الفرّان ليخبز الكعك. وعند عودتهما إلى البيت حاملين الكعك الساخن، كانا يرددان معاً بصوت مرتفع أغاني يحفظانها ليذهبا عن نفسيهما طول طريق عودتهما.
وفي الصباح الباكر في أول أيام العيد كان أهالي صفد يذهبون إلى التُرَبْ لزيارة أحبائهم. ثم، وقبل أن تبدأ الشمس بالشروق، يبدأ الرجال بالتوافد مع أبنائهم من الأولاد إلى المساجد لأداء صلاة العيد، وتبدأ النساء بإلباس صغار أبنائهن وبناتهن ثياب العيد التي حضَّرنها لهم من قبل، ويبدأن بتجهيز القهوة والكعك الصفدي والكنافة الصفدية للضيوف الذين يبدؤون بزيارة الأكبر سناً في العائلة، ثم ينتقلون من بيت لآخر للمباركة.
كان مسجد الشعرة الشريفة أقرب المساجد لبيت جدي، وهو من المساجد المهمة في صفد، ويقع وسط حارتهم. وكانت أمي تقول لنا إنه بُنِيَ قرب مغارة معروفة بغار النبي يعقوب الذي يقع غير بعيد عن جُبْ (بئر) ابنه النبي يوسف في منطقة قريبة من صفد بين الحولة والخالصة.
لم يكن بيت جدي بعيداً من مسجد الجامع الأحمر وهو أقدم مساجد صفد، الذي شَكَّلَتْ ساحته والغرف المحيطة بها مدرسةً ابتدائيةً، وكان مديرها قبل النكبة الأستاذ سعيد أفندي مراد، الذي كان يعلم الحساب إلى جانب إدارته للمدرسة، وكان من أساتذتها الأستاذ عزيز الحاج عيسى الذي كان يعلم القراءة والإملاء، والشيخ صلاح خليفة الذي كان يعلم الدين.
ومع تفتح أزهار كل ربيع من كل عام كانت ذاكرة أمي تنتعش عند تذَكُرِها لجمال ربيع مدينتها صفد، وتسهب في وصف طبيعتها الجبلية الخلابة عندما تغطي أزهار الزقوقيا تراب صفد الأحمر، وتُلْبِسُها حُلَّةً من ألوانٍ بديعةٍ تتموج على ربوعها مع ألوان أزهار النرجس والبرقوق والبابونج وتم السمكة والزعتر البري وغيرها من النباتات العشبية والورود التي تملأ الفضاء بالأجواء المنعشة التي تشجع العائلات للخروج للتنزه، فكانت النسوة يجلسن في مجموعات على تلال سهل الرجوم وقد أحضرن معهن بقجاً فيها المعجنات والحلويات التي صنعنها في منازلهن، وكان الأطفال والشباب يلعبون في ساحة السهل الواسعة.
مع تفتح أزهار كل ربيع من كل عام كانت ذاكرة أمي تنتعش عند تذَكُرِها لجمال ربيع مدينتها


وحكت لنا أمي كيف كانت تستأذن أمها أحياناً في أيام الربيع للسماح لها بالذهاب مع بعض بنات الجيران وبعض الأمهات إلى أطراف المدينة لتحويش (قطف) العكوب والزعتر البري والميرمية، ويجمعن في مشوارهن باقات من الأزهار الجميلة.
أما ذكرياتها عن فصل الشتاء القارس في صفد، فكانت تحكي كيف كان الثلج يغطي أحياناً باب دارهم في فصل الشتاء، ويقولون «عالَى الثلج الأبواب»، أي وصل ارتفاعه إلى منتصف الباب. وكانت تستغرب كيف كان طلاب المدارس الإعدادية من الأطفال الذكور يلبسون البنطال القصير (الشورت) عند ذهابهم إلى المدرسة بالرغم من البرد الشديد.
وكان والدها، جدي أبو محمد، يملك بستاناً في وادي الحمرا الممتد في الجزء الجنوبي الشرقي من صفد، والممتلئ بالبساتين التي كانت تزود المدينة بنصف حاجاتها من الفواكه والخضار. وكانت صفد تستمد بقية المنتجات الزراعية التي تحتاج إليها من القرى المجاورة إليها. كان جدي يزرع بستانه بأشجار الفواكه وبالخضروات الموسمية. وكان يستعين بفلاحين من القرى المجاورة أثناء موسم الزراعة أو جني المحصول، ويبيع محصول كل موسم في الْحِسْبَة في سوق صفد.
وحدثتنا أمي كيف كان جدي يعطي كل ما يجنيه من عمله إلى جدتي لتدير به أمور بيتهم وعائلتهم، ويكتفي هو بمبلغ بسيط كان يشتري به سجائره.
كانت أجمل ذكريات طفولة أمي هي تلك التي كانت تمضيها مع عائلتها في بيتهم في بستان الحمرا، الذي كانوا يذهبون إليه من بيتهم في صفد مشياً على الأقدام. وكانوا يمضون هناك معظم فصل الصيف، ويستقبلون بعض أقاربهم وجيرانهم من صفد.
وقد حكى لنا جدي أن بستانه كان مجاوراً لبستان أحمد النقيب من جهة، ومن الجهة الأخرى لبساتين عائلتي خميس وأمين. وكان وجيرانه من أصحاب البساتين يفصلون بين بساتينهم ببناء سلاسل حجرية بسيطة متراصة فوق بعضها بعضاً، ويتشاركون في توزيع أدوارهم في سقاية بساتينهم من نبع ينساب من مرتفعات صفد، وكان لكل بستان يوم مُتَّفقٌ عليه بين أصحاب البساتين لِيُحَوِّلَ كل منهم مياه النبع إلى أرضه ويرويها. كما كان أصحاب البساتين يتناوبون في بناء سد طيني عند منطقة مصب النبع عند بساتينهم لِيُحَوِّلوا مياهه إلى البستان الذي يكون له دور السقاية يومها.
وكانت لجدي قطعة أرض أيضاً في منطقة تدعى القِطَعْ، وهي أرضٌ بعل تعتمد على مياه الأمطار وتقع قرب مدخل المدينة الشمالي في منطقة قريبة من مقام «أبو قميص». كان جدي يزرع في تلك الأرض القمح والشعير، وكانت سعادته كبيرة عندما ظهر يوماً نبع ماء في أرضه تلك قبل تهجيرهم من صفد ببضعة أشهر فقط، لكنهم هُجِّروا ولم يهنأ بعد بمياه النبع.
لكن، لم تكن ذكريات أمي كلها مفرحة، فقد كانت تحكي لنا كم كانت تخاف وهي طفلة على أبيها الذي كان يغادر البيت باكراً في عتمة الفجر في كثير من الأيام وهو يغطي كتفيه بعباءته لإخفاء بندقيته. وكانت جدتي سيدة قوية وحكيمة، وقادرة على إخفاء مشاعرها وكتمان قلقها أمام طفلتها الكبرى، وإن كانت تنبهها ألا تتحدث أمام إخوتها عما رأته من خروج أبيها وعلى كتفه بندقيته، فقد كان أبوها يذهب ليشارك الثوار في تصديهم لدبابات الإنكليز يومها، وقد عرقلوا عدة مرات تقدم بعضها بقصفها من مرتفعات صفد التي كانوا يختفون خلفها.
ولم تنسَ أمي خوفها عندما كان الجنود الإنكليز يدهمون المنازل بحثاً عن الثوار، فيدخلون البيوت ويعيثون فيها الخراب، ويحطمون الخوابي والكواير التي كان الأهالي يحفظون فيها مؤونتهم السنوية من زيوت وحبوب، وتتذكر كيف كان الجنود الإنكليز يرمون هذه المواد فوق بعضها بعضاً في الشوارع ويسيل الزيت جارفاً معه تلك الحبوب على جانبيه، غير مكترثين بشقاء الأهالي في جمعها وتأمينها طوال العام.
وحكت لنا أمي كيف كان أهالي الشهيد يكتمون صلة قرابتهم به لأن الجنود الإنكليز كانوا ينتقمون من أهالي الشهيد ويفجرون منازلهم ويعتقلون رجالهم، وهذه كانت حال جدي عندما استشهد أخوه الأصغر محمود بعد مشاركته الثوار في تنفيذ هجوم على إحدى الدوريات البريطانية الصهيونية، وقد كان وقتها عريساً جديداً. وخوفاً من قيام الاحتلال البريطاني بتفجير منزل العائلة انتقاماً منه أسرع الجيران بنقل أثاث العريس الذي بذل جدي جهده لمساعدة أخيه في تأمينه له، إلى مسجد الحي القريب خوفاً عليه من التخريب والدمار.
وحدثتنا أمي كيف واجه أهالي صفد عدواً منظماً ومجهزاً بكل ما يحتاجه من سلاح ومؤنٍ وذخيرة، فقاوموه ببسالة، مع أن سلاحهم كان بسيطاً، وذخيرتهم كانت شحيحة، وقيادتهم كانت ضعيفة.
وفي شهر كانون الثاني من عام 1948 انضمت مجموعة من المتطوعين من سوريا بلغ تعدادها 60 متطوعاً، كان يقودها الضابط السوري إحسان كم ألماظ الذي انضم إليه شباب صفد وخضعوا لإمرته بعد أن رأوا كفاءته العسكرية، وقد كان جدي يحترمه ويشيد بوطنيته وشجاعته، ويحكي لنا عن مواقف له معه في التخطيط للمعارك وتنفيذها، لا من باب المفاخرة، بل من باب سرده لما كان يجب القيام به يومها.
وقد اعترف الصهاينة بصعوبة مواجهتهم لأهالي صفد. وقد أشار إلى ذلك الدكتور مصطفى العباسي في كتابه «صفد في عهد الانتداب البريطاني 1917 – 1948»، وذكر كيف «تصف الرواية الإسرائيلية عرب صفد بأنهم محاربون وقحون وعدوانيون، أشداء يبغضون الصهيونية، مخلصون لشعبهم الفلسطيني لا يتهاونون، أرهبوا المنطقة بأسرها وأخافوها، رفعوا العلم الوطني، أصواتهم تبعث على الرعب، نشطوا طوال الفترة في الحركة الوطنية التي حاربت اليهود... ووفقاً لتلك الرواية فإن صفد كانت رمزاً للفلسطينيين جميعاً ومركز تحريض لكل عرب الجليل».
عندما تصاعد الهجوم على مدينة صفد من قِبَلِ العصابات الصهيونية المدعومة من الاحتلال البريطاني، عاد أبي وأمي ومعهما أخي بكرهما من القدس حيث كان يعمل والدي، إلى صفد ليكونوا مع أهلهم، وليشارك أبي في الدفاع عن مدينة آبائه وأجداده.
وأقام عدد كبير من أفراد عائلتنا الممتدة في منزل جد والدي سليم برغوثي، لأن بناء إحدى غرفه الكبيرة كان معقوداً بشكل قبة حجرية تسمى «العَقد»، وكانت قادرة على الثبات في وجه الغارات المعادية.
وعندما بدأت معركة صفد في ربيع عام 1948، اندلع تبادل كثيف لإطلاق النار، وبدأت معركة صفد الحاسمة التي استمرت من 16 نيسان حتى العاشر من أيار.
وكان الرجال يومها يتناوبون في حماية المدينة بتكوين مجموعات تداوم في استحكامات عند مداخلها. وفي أحد تلك الأيام، كان دور أبي في المشاركة في المناوبة، فذهب وأخذ معه سلاحه «التوميغان» الذي كان اشتراه منذ فترة، وأخذ من النصية (علبة معدنية) مشط فَشَكْ (رصاص) واحد، اعتقد أنه كافٍ، فقد كانت الليلة هادئة نسبياً، وترك بقية الفشك في النصية، وأعطاها لأمي وطلب منها الاحتفاظ بها في مكان آمن، ولحق بالرجال الذين كانوا ينتظرونه في الخارج.
ومع غروب الشمس بدأ إطلاق النار يتزايد. ومع تزايده تزايد قلق والدتي من أن يكون والدي بحاجة لباقي الذخيرة، وترددت قبل أن تسحب مفرش المنضدة وتفرغ ما في النصية من فشك، وعَقَدَتْ الصرة، ووضعت الإيشارب على رأسها، وحملت أخي سليم بين يديها وكان نائماً، ووضعته بين يدي جدتي أم يوسف، وطلبت منها الاعتناء به ريثما تعود، وأن يبقى أمانة في عنقها إن لم تعد. حاولت جدتي ثنيها عن الذهاب لكنها أصرت على إيصال الفشك لأبي.
كان الليل قد خَيَّمْ، وكانت خائفة جداً، وشعرت بقلبها يهوي بين أضلاعها عندما علق الإيشارب على رأسها بغصن شجرة، وصارت تصرخ يا يوسف… يا يوسف. كانت خائفة من أن يظن الرجال في الاستحكامات أنها من العدو فيطلقون النار عليها. وازدادت خوفاً عندما انفجر بالقرب منها تماماً صاروخ أحال المنطقة جحيماً، وارتمت أمي من شدة الانفجار على الأرض، وتطايرت من حولها الأحجار والأتربة، وأضاءت ناره المكان، وأصابها الهلع عندما رأت على بعد منها رجلاً طويلاً ارتمى من شدة الانفجار في مغارة قريبة، ثم تبينت في ما بعد أنه كان راعياً من آل الحاج قاسم كان خبأ قطيعه في إحدى المغارات الموجودة في تلك الطريق البرية. وبسبب قوة الانفجار ارتمى في تلك المغارة مما ضاعف الرعب في قلب أمي. وفي خضم هذه الأجواء سمعت أمي صوت خال أبي رشيد يناديها بصوته الجهوري، وكانت جدتي بعثت به وراءها ليعيدها إلى البيت. وطلبت منه أمي أن يدعها توصل الفشك إلى أبي فقد قطعت نصف المسافة ولم يبق لها الكثير لتصل إلى الاستحكامات. فكر قليلاً ثم قال لها بحنق: امشي معي. وقطعا استحكامين لم يكن والدي في أي منهما. وفجأة ظهر أمامهما عمي طالب الذي صرخ بها: ماذا تفعلين هنا؟! أخبرته عن صرة الفشك، فقال: هاتها سأوصلها لأخي بنفسي.
عندما كانت أمي تحكي لنا عن تلك الحادثة كانت تلوم نفسها لإصرارها على عمي بإيصال الفشك بكامل عددهم إلى أبي، وتتذكر كيف سحب عمي الصرة من يدها وأسرع عائداً إلى الاستحكام وهو يتمتم غاضباً من حضورها إلى ذلك المكان المحفوف بالخطورة، ثم اختفى في عتمة الليل.

في شهر كانون الثاني من عام 1948 انضمت إلى مجموعة من المتطوعين من سوريا


كانت أمي تُفَسِرُ سبب طلبها ذاك من عمي بأن الأوضاع كانت صعبة جداً، ومع ذلك فقد كان كل من يستطيع توفير بعض المال، كان يدفعه ثمناً لبارودة أو مسدس أو فشك، وكانت هي من خوفها على أبي مصرة على أن يصل الفشك كله له.
وعادت أمي برفقة الخال رشيد إلى البيت في صفد والقلق ينهش قلوب الجميع.
وحكت لنا أمي كم كانت قلقة صباح اليوم التالي من زَعَلِ والدي مما فعلته بالأمس. إلا أن انسحاب البريطانيين في اليوم التالي من مركزين للبوليس دفع الشباب والرجال للإسراع في السيطرة عليهما، مما أثار العصابات الصهيونية التي أطلقت صاروخاً على المدينة قتل العديد من الأهالي. وبدأ عندها إطلاق كثيف للنار بين الجانبين، وابتدأت يومها معركة صفد.
ومع أن عدد عصابات الصهاينة وعتادهم كان أكبر بكثير مما لدى أهالي صفد، إلا أن تصميم رجالها على حمايتها والذود عنها أفشل كل محاولات تلك العصابات للسيطرة عليها، فقامت بارتكاب المذابح في القرى المجاورة لها، كمذبحة قرية الخصاص التي قتلوا عشرة من سكانها معظمهم من الأطفال والنساء، وقاموا بهدم عدة بيوت فيها.
كما قامت تلك العصابات بارتكاب مذابح وجرائم أخرى في قرى أخرى محيطة بصفد، ومنها سعسع وبيريا وعين الزيتون والحسينية، كانت كلها تهدف لبث الذعر بين أهالي صفد. وقد نقل العباسي عن أحد قادة البلماخ (كلمان) قوله إنه قرر تفجير مباني بيريا وعين الزيتون نهاراً، بيتاً بيتاً، «كي يرى سكان صفد العرب الذين كانوا على السفح المقابل ما الذي سيحل بهم».
بعد تلك المذابح، وبخاصة في عين الزيتون، دب الذعر بين أهالي صفد حين سرت أخبار عن ضرورة إخراج النساء والأطفال من المدينة، ونقلهم إلى قراها المجاورة لحمايتهم من جرائم الصهاينة ريثما يتم ردعهم من قِبَلِ شباب ورجال صفد، وتعود النساء والأطفال عندما تصبح المدينة أكثر أمناً.
حملت أمي أخي الرضيع بين ذراعيها، وأرادت أن تأخذ له بضعة ملابس وضعتها في حقيبة صغيرة على عجل، إلا أنه ومع اشتداد سماع صوت قصف طائرة كانت تحوم بالقرب منهم، أخذ أبي الحقيبة من يدها وألقاها في قنطرة قريبة من سقف بيت جده للإسراع في الابتعاد عن أماكن الخطر، مع قوله لأمي إنها لن تحتاج لتلك الملابس فغيابهم لن يطول.
انتشر ذلك الخبر. إلا أنهم ما إن أوصلوا عائلاتهم إلى أطراف المدينة حتى اشتد القصف المنظم عليهم لدفعهم للاستمرار في الابتعاد عن المدينة.
لا أنسى وصف أمي ألمها الشديد للمعاناة التي كابدوها جميعاً ذلك اليوم، وهو ينطبق تماماً مع ما ذكره العباسي في كتابه عندما أشار إلى ما قاله قائد الكتيبة الصهيونية الثالثة وهو أن: «الآلاف من أهالي صفد اختبؤوا في الأودية والحقول حول المدينة آملين بالعودة إليها حين تهدأ الأحوال. لكن، استمراراً لبث الذعر بين المواطنين، ومنعاً من أي احتمال لعودتهم، فقد صدرت الأوامر إلى طائرات الفايبر بإلقاء القذائف على تلك الأودية والحقول للتسريع في فرارهم».
تصف لنا أمي معاناتها في تلك الرحلة التي كانت فيها قلقة أيضاً على والديها وإخوتها، وكانت تحمل أخي على صدرها، بينما كان أبي يسير أمامها يساعد جدته المسنة لإعانتها وحثها على الاستمرار في السير، سعياً للوصول إلى مكانٍ آمن كانت تظن أنه سيكون مغاراتٍ حول صفد تأوي إليها النساء ريثما يطمئن الرجال إلى دحر المسلحين اليهود وإعادة العائلات إلى بيوتها.
كانت أراضي صفد مشبعة بأمطار شهر أيار، وفي بعض الأحيان كانت أمي وهي تحاول الصعود على بعض الهضاب تتزحلق وتعاني للوصول إلى مسطح أرضي. وأتذكر وصف أمي استعانتها بالإيشارب الذي كان على رأسها، وذلك بتغطيسه ببعض الماء المتجمع بين الصخور لتعصره في فم أخي الرضيع فترطبه له. كانت رحلة ألم وعذاب وحزن وقلق وحيرة مما سيحمله الغد.
وصلت الجموع أخيراً إلى قمة جبل ميرون، وعلى سفحه الممتد فوجئوا بوجود شاحنات وسيارات نقل لتحمل المُهَجَّرين الذين مضت عليهم أيام قاسية جداً إلى أماكن أكثر أماناً، ولكنهم لم يعرفوا بتاتاً أنها ستقلهم خارج فلسطين.
ولشدة تعبهم وإرهاقهم صعدوا إلى تلك السيارات والشاحنات، وبعض العائلات تشتتوا بحسب اختلاف البلاد التي أقلتهم إليها تلك المركبات.
واستقر والديّ وكثير من أهالي صفد في مدينة دمشق بعد معاناة مريرة من آلام التهجير النفسية والجسدية.
وكانت حياتهما في دمشق غنية بالأحداث. فرغم مرارة الأوضاع التي عاشها المُهَجَّرون، إلا أن احتضان سوريا لهم مكَّنَهُمْ من الانخراط في مجالات العمل المختلفة.
بقي أبي طوال حياته مؤمناً بضرورة العمل على تحرير فلسطين، ومتمسكاً بحق العودة إلى كامل التراب الفلسطيني رغم خيبات الأمل من الوضع الفلسطيني خاصة ومن الوضع العربي عامة. وقد وصف أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الدكتور جورج حبش، رحمه الله، والدي في نعيه له بأنه «كان من الرعيل الأول في حركة التحرر الوطني وفي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان قومياً عربياً، قولاً وممارسة، ومدافعاً أميناً عن حق العودة، ويحلم بالعودة إلى وطنه فلسطين، يحمل آلام النكبة وهمومها، واستطاع عبر مسيرته النضالية أن يكون مثالاً ونموذجاً للإنسان المناضل من أجل شعبه الفلسطيني في الشتات».
لقد كافح أبي وأمي بصبرٍ وتصميمٍ لبناء حياة كريمة لعائلتهما. وكان الأمل بالعودة إلى بيتهم في صفد مرافقاً لهما طوال حياتهما، وكان هذا الأمل يؤثر في كثير من قراراتهما الحياتية والاجتماعية والعملية.
وما غاب هذا اليقين بتحرير فلسطين والعودة إلى صفد عن تفكير والديّ على مرور الزمن، حتى وهما في أوهن أحوالهما الصحية.
ومع كل محبتهما لمدينة دمشق الشامخة، إلا أن العودة كانت يقيناً، والبيتُ كان دائماً هناك في صفد.
* كاتبة فلسطينية