يكبُر روّاد الحقيقة في مواجهة الأيادي القاهرة المتواطئة مع سادة أمورهم. وكان الحاكم في القرون الماضية مالكاً للرعية التي كانت تُعتبر «مُلكة» له تضمن ولاء رعيّته أو يُسيءُ إليها بظُلمٍ يدفعُ غلاتها إلى الاحتيال والتآمر على حُكمِه بما يُفسِد وحدة عصبيته: «فالسلطان كان من له رعية والرعية من لها سلطان والصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تُسمى «مُلكَة» وهي تعني كونه يملكهم...» (ابن خلدون).في المقابل، ينادي أئمة الطوائف في خُطَبهم لرعاية معوزيها متوجهين إلى الله ليتقبل صدق صلواتهم فتتحوّل آمالهم وجهة أصحاب الخيرات والإيمان بعيداً عن خليط المتظاهرين المعارضين في طلائعهم لخطط الحكومات المتعاقبة.
ومن هذه الخطط ما لا يتلاءم مع منهجية توزيع خسائر الدولة ومؤسساتها على حد تقدير رئيس بعثة الصندوق الدولي. وجدير بالفهم أن التلاؤم مع منهجية الصندوق الدولي لإعادة هيكلة مالية الدولة، يعرض لتوزيع القطاع المالي في برنامج الإصلاح الاقتصادي الليبرالي. هذا الإصلاح قادته «الليبرالية» اللبنانية المنفلتة على الاستيراد والوساطة منذ استقلالها وأكملت انفلاتها بتسهيل تهجير الكفاءات مع نأيها عن صعوبات الأرباح التي تشترط تطوير الإنتاج والتصنيع وتشغيل القدرات المؤهلة في لبنان. وهذا ما شجّع تفلّت الميول إلى «توفّر الترف» لدى طبقات واسعة من الشعب اللبناني في ظل النظام الاقتصادي الحر، و«يحميهم» من صعوبة التخلي عن ليبرالية الاغتناء المنفلت لدى من تتوفر لهم فرصه، تاركين لمن تتوفر لهم من الفئات الوسطى من اللبنانيين فرص الهجرات المفتوحة إلى قارات العالم، حاملين معهم ضرورات تحويل فائض أتعابهم لإعالة أهاليهم المنتظرين في الأرياف اللبنانية.
وجدير بالتذكير أن الأسواق التي انفتحت لاستقبال اللبنانيين على مدار أكثر من 50 عاماً بين الاستقلال والحرب الأهلية، وتوفرت لهم فيها فرص ترف نسبي، ومنها خاصة أسواق الخليج، عمدت إلى تمييزهم عن العمالة الأرخص من البلدان الآسيوية. ويقدّر اليوم حجم المهاجرين اللبنانيين إلى العالم بما نسبته 25 في المئة من سكّان لبنان. وتعتمد هذه النسبة اليوم في تقدير حجم المقيمين الذين يتلقّون من أقاربهم المهاجرين ما يقلل من عوزهم.
لم يكتفِ حُلم كبار طوائف لبنان وتجاره خلال السنوات الثلاثين الأولى من استقلاله (1945 _ 1975) بالمتاجرة بجمالية الكيان والتنوع المناخي والثقافي التي قلّما تتوفر في الكثير من بلدان المشرق. ولم يفضل كبار تجاره ومستورديه للأسواق المحيطة أن يعتمدوا كما التجار السوريين المتوجهين إلى التصنيع الوسيط خلال الخمسينيات وصانوه بقدرات ووعي لاستراتيجية التنمية. هذا في الوقت الذي أكثر فيه الشطّار اللبنانيون إقامة أصناف المطاعم والمشروبات وحريات المسابح والمقاهي المقصودة خاصة على شواطئ بحرهم خلال الصيف، جاذبين إليها المغتربين اللبنانيين والعرب خلال خمسة أشهر يعيش خلالها الروّاد من طبقات مختلقة لينعموا فيها بسهولة التواصل وبانسجام لا يتوفر لهم في مسابح بلدان أجنبية ولا حتى في الكثير من البلدان العربية. إلّا أن هذا الترف السياحي ما لبث أن انتهى إلى العديد من التأزمات المتأتية من جهة عن حراك الحروب الأهلية الداخلية، معطوفة على العمل الفلسطيني القليل الانضباط بين الشوارع اللبنانية في أواسط السبعينيات ما ساهم في تحوّل ميول السياح والمصطافين الخليجيين واستغنائهم عن التنعم بجاذبيات التنوع اللبناني واستبداله بتنعمات أصعب تكيّفاً وأضمن أمناً. واقترنت هجرات العرب عن لبنان مع هجرات اللبنانيين إلى حدود أفقدتهم أفق أحلام شبابهم.
وفي مثل هذا التحوّل من الاعتماد على إغواء السياح بجماليات لبنان المُغطية لمفاسد تُجاره المتأكدين من أن فلتان الليبرالية يضمن توسع قوة أقويائه ورضوخ ضعفائه واقتناعهم بما «يتيسّر» لهم مقابل صبرهم وصلواتهم ليتمكنوا من حماية عيشهم. هذا العيش الذي بات في بلد لم يبق أمام معوزي طوائفه إلا الإيمان بولاءاتهم لزعمائها.

* باحث في العلوم الاجتماعية