أخيراً... استقرّت وديعته في مكتبة الإسكندرية، أوراقه ووثائقه، مراسلاته ومقتنياته.كل شيء يحاكي مكتبه الشخصي، كأنه في موضعه المعتاد، لكن لم يكن ممكناً أن يطل هو نفسه على ما جرى إنجازه وحلم به طويلاً وكثيراً.
لسنوات طويلة ساورته مخاوف وشكوك من أن تصل يد التخريب المتعمّد إلى وثائقه وأوراقه، حفظها مرتبة بصورة تسهل استدعاء ما يريد منها عند الحاجة إليها، فكل وثيقة مرقمة في مجموعتها، وكل قائمة محفوظات تشير إلى ما فيها.
اتجه تفكيره مرة بعد أخرى، عقداً بعد آخر، إلى أن يكون مستقرّها في مؤسسة مصرية مثل «جامعة القاهرة»، أو «دار الكتب»، لكنه لم يكن مطمئناً إلى أنها سوف تكون بعيدة عن انتقام السلطات، أو محاولات تخريبها بصورة أو أخرى.
فكّر في الاستجابة لدعوة من مؤسسة «الأهرام» لاستضافة ذخائره من وثائق وأوراق، وجرت اتفاقات عصفت بها تغييرات في رئاسة المؤسسة العريقة، ولم يكن يريد أن يضع ما لديه في مهب التحولات.
مع أسبابه للقلق على سلامة الأوراق والوثائق مال إلى أن تظل في مأمنها، وكتب وصية سجّل فيها بالتفاصيل ما يتعيّن فعله والضمانات الضرورية لحفظ أمانتها إلى أجيال جديدة. غير أن ضغوطاً تصاعدت عليه من مقرّبين وأصدقاء وداخل أسرته دعته إلى أن يحسم موقع مؤسّسته ومستقرّ أوراقه ووثائقه في حياته ولا يحيل عبء مسؤوليّتها إلى من بعده.
في نوفمبر 2005، تصوّر أن هناك فرصة لإتاحة أوراقه ووثائقه ومكتبته التي تضم عشرات آلاف الكتب أمام الباحثين والصحافيين وكل من يطلب أن يطل على تاريخ بلاده موثقاً.
خفتت مخاوفه رغم انتقاداته المطردة للحكم، التي زادت درجة حدّتها منذ محاضرة الجامعة الأميركية الشهيرة في أكتوبر 2002، التي تطرّق فيها إلى سيناريو «التوريث» وضرورات التحوّل الديموقراطي، إذ بدت السلطة مشغولة بما بعد رئيسها وهاجسها مشروع التوريث والتاريخ بوثائقه لا يعنيها.
بصياغته: «لم أعد معتقداً أن ورقي مطارد».
استقر تفكيره على إيداعها في مؤسسة تحمل اسمه وذهب إلى نقابة الصحافيين لاستئجار دور كامل يخصصه لوثائقه وأوراقه وظنه أنها سوف تكون متاحة أمام الأجيال الجديدة من الصحافيين عند تردّدهم على نقابتهم، لكنه بعد تسديد قيمة التعاقد تنازل عنها للنقابة التي ينتسب إليها وتراجع عن الفكرة، خشية أن يجد أوراقه ووثائقه وكتبه في مرمى الاشتباكات المتكرّرة بمحيط شارع «عبد الخالق ثروت»، الذي يضم إلى نقابة الصحافيين نقابة المحامين ونادي القضاة.
أخذت الفكرة تبحث عن مكان آخر أكثر أمناً لسلامة وديعته للأجيال القادمة.
في ذلك الوقت، كتب على ورق تصوراته لـ«مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية»، التي قرّر أن تضم كل ما لديه من وثائق ومحاضر وأوراق وكتب.
بعد ثورة يناير 2011 طرحت عليه أسرته أن يكون بيته الريفي في برقاش مقرّاً لمؤسسته، استمع إلى ما عرض عليه من «أصحاب الحق في الإرث» مدركاً «أن المسألة أكبر من أن تكون تركة أو إرثاً»، لكن العرض دعاه إلى أن يحسم موضع الوثائق والمؤسسة معها متصوّراً أن «المكتبة ينبغي أن تظل في مكانها ببرقاش لا أن تنقل إلى مكان آخر».
أعدّت التصميمات لإحالة مزرعة برقاش كلها إلى الخدمة العامة ووضعت وقفية قيمتها 5 ملايين دولار تحت تصرّف المؤسسة والقائمين عليها.
انتابه قلق من المكان عندما طلب أن ينظر في صور «غوغل إيرث» للمنطقة المحيطة.
«لم تكن الصور مطمئنة وحزام القلق الاجتماعي ظاهر عليها».
طمأن نفسه بأن «المنارات الفكرية في أحزمة القلق الاجتماعي تكسبها شيئاً من التنوير وإطلالاً مختلفاً على عوالم جديدة».
ما إن بدأ يطمئن إلى اختياره الأخير الذي قطع فيه زمناً طويلاً، حتى فاجأته جحافل الظلام يوم فض اعتصامَي رابعة والنهضة تنقضّ بقسوة لم يتحسّبها ولا خطرت على باله في أكثر الاحتمالات سوداوية وتشاؤماً.
دمّرت تماماً النسبة الأكبر من وديعته.
تصدق في قصة وثائقه وأوراقه الحكمة العربية المتوارثة «الحذر لا يمنع قدر».
بعد ست سنوات على رحيله، استقرّت أوراقه ووثائقه وكتبه، أو ما تبقى منها، في مكتبة الإسكندرية، التي كانت قد طرأت على تفكيره في رحلة البحث عن مستقر لوديعته.
مما هو لافت رمزية توقيت افتتاح معرضه الوثائقي مع مرور 80 سنة بالضبط على أوّل مهمّة صحافية لشاب في التاسعة عشرة من عمره عند حافة الحياة والموت في حرب العلمين.
بدت تجربته في تغطية الحرب كنقش على حجر، وكان الدرس الأوّل الذي تلقاه من هارولد إيريل، رئيس تحرير «الإجيبشيان غازيت»، التي التحق بها للتدرّب: «لا ترسل أخباراً، حاول أن تستقصيها وتكتشف خباياها بقدر ما تستطيع، لا نتوقّع منك أن تنافس مراسلي الصحف والوكالات الدولية، الظروف لن تمكنك من أن ترسل ما تحصل عليه في برقيات، والحل الوحيد أمامك، وهذا ما نطلبه منك، أن تدوّن ملاحظاتك على ما ترى في ميادين الحرب وسير معاركها، وأن تسجّل انطباعاتك على ورق أوّلاً بأوّل على وقع ما يجري أمامك. وعندما تعود حاول أن تضبط صياغاتها من دون أن تفقدها حيويّتها وطزاجتها اللتين كانت عليهما، فالمادة المكتوبة على صياغتها الأولى في وقتها أكثر حياة مما يكتب بعدها».
وهو يراجع تجربته قال لي ذات حوار: «هذه قاعدة ثبت أنها سليمة، وسليمة تماماً».
استقرّت عنده مبكراً أهمّية التدوين، أوّلاً بأوّل لما يشاهد ويتقصّى من أخبار ومعلومات، أن يرتبها بطريقة منظّمة تسهل أن يستدعيها في أي وقت.
وفي تغطياته لحروب وصراعات أخرى، فلسطين وكوريا والبلقان وإيران، تأكّدت عنده أهمّية الوثيقة كسند للرواية التاريخية والصحافية معاً.
وديعته تعطي لمحة موثقة عن مصر ما بين عامَي 1952 بجوار جمال عبد الناصر و1974 حين افترقت الطرق والسياسات مع أنور السادات ولمحة عميقة أخرى عنه شخصياً، كيف عمل؟ ولماذا نجح؟
كان يدرك أن الذاكرة الإنسانية، مهما بلغت من قدرة على استعادة الأحداث والوقائع، لها حدود، ثم إن الزمن يقوم بدوره بما يؤثّر على صدق الرواية، وكان تقديره أن أهم ما عنده هو مجموعة أوراقه الشخصية التي سجل فيها بخط يده ما رأى وما سمع ــــ «شبه مفكرات وليست مذكرات».
بصياغته: «لم أترك ما مر أمامي يضيع وإنما حاولت أن أسجله موثقاً».
«لا أتصوّر أن ذلك يحمل مظنة أي نوع من أنواع الاحتكار للحقيقة، فما أتيح لي كان متاحاً لغيري، في مثل ظروفي، وكان الفارق الوحيد أن الكتابة في يوم من الأيام كانت ـــ بحكم المهنة ـــ في خواطري ولم يكن الأمر كذلك لغيري، وإنما طرأ في ما بعد لسبب أو لآخر».
طوال الوقت طاردته الأسئلة عن مصير ما لديه من وثائق، كتب وألحّ كثيرون على عودتها إلى مصر، وهو نفسه في مقدّمات مجموعة كتبه عن حرب الثلاثين عاماً في طبعاتها الجديدة أخذ يتحدّث عن الوثائق بمداخلات مختلفة، قبل أن يعترف أخيراً بأنها باتت عبئاً على مشاعره.
كانت المفاجأة الكبرى بعد رحيله أن وثائقه وأوراقه لم تتحرّك يوماً من برقاش، لا ذهبت إلى لندن ولا أي مكان آخر خارج مصر، كانت تحت البصر طوال الوقت، فيما المثقفون يطرحون سؤالهم الملحّ: «متى تعود أوراق هيكل؟».
في ذلك الوقت، عرضت جامعة «أوكسفورد» البريطانية شراء مجموعة أوراقه الخاصة، التي تضم وثائق مهمّة للدولة المصرية، ومن تقاليدها السعي وراء مجموعات الوثائق والأوراق الخاصة لشخصيات دولية قامت بأدوار بارزة في التاريخ الإنساني المعاصر، بما يضفي قيمة مضافة على مكتبتها.
جرت العادة في الجامعة العريقة أن تقدّر القيمة المالية لمجموعات الوثائق والأوراق بما تحتويه من معلومات غير متوافرة وبما تغطيه من فترات تاريخية واسعة.
وقد قدّرت «أوكسفورد» قيمتها بـ 3 ملايين جنيه استرليني، غير أنه اعتذر عن عدم قبول هذا العرض شاكراً لأصحابه فضل الاهتمام والتقدير بما لديه من وثائق وأوراق شخصية، وكان اعتقاده أن مصر، وليس بلداً آخر غير مصر، المكان الطبيعي والمستقر النهائي لوثائقه وأوراقه، التي احتفظ بها لسنوات محفوظة ومصانة خشية أن تتدخّل تعقيدات السياسة بما قد يَحرم أجيالاً قادمة من حق الاطلاع على وثائق حقبة تاريخية مهمة ومفعمة بالتحوّلات والحروب والأحلام والكوابيس.
كانت صدمته هائلة، وهو يرى ويعاين حجم التدمير في المكان، وأن ما احتفظ به من ذخائر أمانة لأجيال قادمة كادت أن تتبدّد تماماً.
لم يحصر في حياته، ولا كان في طاقته الإنسانية أن ينظر بالتفاصيل في ما أحرق أو لم يحرق، وقد تكفّلت بالمهمّة الشاقة بعد رحيله حرمه السيدة هدايت تيمور.
أرادت بتفان أن تحقّق ما حلم به دوماً أن تودع وثائقه وأوراقه تحت نظر الباحثين والصحافيين وكل من يطلب حقيقة ما جرى في مصر من تحوّلات وعواصف.

* كاتب وصحافي مصري