كانت «انتفاضة الخبز»، التي انفجرت في أرجاء مصر على غير موعد وتوقّع يومَي 18 و19 يناير 1977، حدثاً مزلزلاً بوقائعه وتداعياته في التاريخ الحديث. بأحجام من شاركوا في تلك الانتفاضة الشعبية فإنها تكاد تضاهي ثورة 25 يناير 2011، غير أن مطالبها تحدّدت في إلغاء قرارات رفع أسعار السلع الرئيسية.عندما ألغيت القرارات توقّف الحدث كلّه لكنّ آثاره تحكّمت في ما بعده. هزّت عاصفة الغضب أركان نظام أنور السادات، لكنها لم تسقطه. فيما نجحت عاصفة أخرى في يناير آخر بعد 34 سنة من إسقاط خلفه حسني مبارك دون أن تتمكّن من بناء نظام جديد ينتمي إلى ما تدعو إليه.
بأي تعريف كلاسيكي للثورة من حيث هي تغيير جذري في بنية العلاقات الاجتماعية فإن انتفاضة الخبز يصعب وصفها بالثورة، لكنه يمكن النظر إليها كـ«ثورة ناقصة»، لا استكملت رؤيتها السياسية ولا فرضت ضرورات التغيير الاجتماعي.
القياس نفسه يصح على يناير 2011، فقد اختُطفت الثورة مبكراً من جماعة «الإخوان المسلمين» وأُجهض فعلها بتداعيات الحوادث والأخطاء المتراكمة وجرى التنكيل بشرعيّتها.
بترجمة سياسية فإنها «ثورة مختطفة» لا حكمت وفق مبادئها وأهدافها، لا غيّرت البنية الاجتماعية ولا التحقت بعصرها في طلب الدولة الديموقراطية المدنية الحديثة، غير أن قوّتها الكامنة ما زالت حاضرة في صدور وضمائر الأجيال الشابة بما يلهم المبادئ نفسها. إنكار ما هو كامن بالإلهام استخفاف بحقائق التاريخ. هذا هو المعنى الوحيد الذي يجعل من وصف 25 يناير بالثورة عملاً مستحقّاً.
في «انتفاضة الخبز» بدت المفارقة حادّة بين شرعية طلب الحق في الخبز والحياة والعبارات التي استخدمها أنور السادات في إدانة احتجاجاتها. لم تتوافر المفارقة بالطريقة نفسها في ثورة يناير، فقد وُصفت بأنبل الأوصاف في البداية قبل أن تنقلب الآية إلى عكسها تماماً، فهي مؤامرة كادت أن تضيع البلد!
كان «السادات الرئيس الأوحد في العالم الذي وصف شعبه بالحرامية، ومعارضيه بالحقد»، بتعبير المفكر الاقتصادي الراحل الدكتور جلال أمين. وكان هو الرئيس الذي قال: «من لم يغتن في عهدي لن يغتني أبداً»، كأنه يؤسس للنهب العام كما توصّل عدد كبير من المفكرين والشخصيات العامة في ذلك الوقت.
بعد أشهر قليلة أقدم السادات على زيارة الكنيست الإسرائيلي. لم يكن التوقيت مصادفة بقدر ما كان هروباً إلى الأمام. الهروب إلى الأمام مسألة سلطة مهدَّدة ورئيس يشغله البقاء فيها بغضّ النظر عن الأثمان المدفوعة. عندما نزل الجيش لضبط الشوارع كانت هذه المرة الثانية التي يضطر فيها للعب هذا الدور بعد حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952. لوهلة تصوّر السادات أن سلطته تقوّضت إلى الأبد، غير أنه فوجئ بوزير الدفاع المشير محمد عبد الغني الجمسي يعيدها إليه. كان ذلك انضباطاً على قضية الشرعية.
في ثورة يناير تبدّت قضية مختلفة أمام المشير محمد حسين طنطاوي، فقد سقطت أية شرعية منسوبة إلى مبارك بقوة الغضب وانتقلت بالكامل إلى الشارع. أين الشرعية؟ كان ذلك هو السؤال الحاسم قبل إطاحة مبارك.
في عام 1977 أدرك السادات خطورة طرح سؤال الشرعية فهرب إلى الأمام. لم تكن اتفاقيتا كامب ديفيد، ولا نوع الصلح الذي جرى، منعزلة عن الأوضاع الداخلية الجديدة في مصر وسياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها. ذهب السادات إلى الكنيست والصلح المنفرد مع إسرائيل بظنّ أنه قد يساعده في حلحلة أزماته الداخلية التي كادت تطيحه.
بدا في حالة إنكار للحقائق التي عمّت الشوارع احتجاجاً على رفع أسعار السلع الرئيسية، وأراد أن يُقنع الرأي العام بأن ما جرى في شوارع القاهرة ومدن مصرية عديدة «انتفاضة حرامية»! كان عصر اللصوص قد بدأ فعلاً، في حسابات المصالح والبزنس لا في الشوارع التي ضجرت من غلاء الأسعار.
بقدر الموهبة الاستثنائية لنجيب محفوظ في التقاط الشخصية الدرامية من قلب التحوّلات الاجتماعية بدا زعتر النوري في «أهل القمّة» تمثيلاً من لحم ودم لبداية «عصر اللصوص».
بصورة أكثر تأثيراً أدّى الممثّل نفسه نور الشريف دور حسن سلطان في «سوّاق الأتوبيس».
كان ذلك الشريط السينمائي من إخراج عاطف الطيب وثيقة إدانة بلغة فنية لا ادّعاء فيها لعصر كامل انقلبت فيه موازين القيم، وبدت الحالة الأخلاقية والاجتماعية في انكشاف غير مسبوق.
ضاعت معاني التضحية بالدم على جبهات القتال وانتصر الزاحفون بسطوة المال. فيلم «كتيبة الإعدام» من تأليف أسامة أنور عكاشة، تعبير مباشر عن زواج الرأسمال الطفيلي مع خيانة دم الشهداء. بالتعبيرين الفني والسياسي وصل التناقض إلى مداه.
كان جيل الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق في الثروة الوطنية. المأساوي في قصة هذا الجيل أنه أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدّد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي دُشّنت عام 1974 من مستقبله الاجتماعي والإنساني. ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذي انتظر طويلاً في الخنادق أن يواجهه. في نبوءة مبكرة للكاتب المسرحي محمود دياب استبقت التطبيع مع إسرائيل أعلن استحالته في «أرض لا تنبت الزهور». لم يكن السادات قد زار الكنيست ولا وُقّعت اتفاقية «كامب ديفيد». «إن الحب لا يقحم على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة. خذها حكمة من الزباء ولا تنسَها أن أرضاً ارتوت بالدم لا تنبت زهرة حب». لم يكن محمود دياب يتنبأ بما قد يحدث من فراغ، حيث بدأت بعض المواقف والكتابات تدعو إلى تسوية ما تُنهي الصراع الدامي وتدين السياسات التحررية التي اتبعتها مصر في أوقات سابقة.
كانت تلك إشارات خطرة في توقيت خطر لبلد عند مفترق طرق. لم تكن انتفاضة الخبز، «الثورة الناقصة»، محض ردّة فعل على قرارات اقتصادية استهترت على نحو فادح بمعاناة المصريين بأثر التضحيات التي بذلوها في سنوات الحرب، بقدر ما كانت احتجاجاً على مجمل الأجواء والسياسات العامة، التي يتحمّل مسؤوليتها السادات نفسه.
بنظرة أخرى فإن القوة الشابة الضاربة التي اقتحمت مسارح الغضب في ثورة يناير، «الثورة المختطفة»، يعود أغلبها بالتكوين الأساسي إلى التظاهرات التي عمّت المدارس العامة في مصر مطلع القرن الجديد غضباً على اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة بطريقة بشعة وهو يرتعد خوفاً في حضن والده. بملاحظة ثاقبة من الأديبة الراحلة الدكتورة رضوى عاشور فإننا إذا أضفنا عشر سنوات على ذلك الجيل من طلاب المدارس فإنهم هم أنفسهم من تصدّروا مشاهد يناير 2011.
الثورات قد تنتكس لكنّها لا تموت. هذه حقيقة يصعب إنكارها.

* كاتب وصحافي مصري