ما مصير المواجهة بين إيران وأميركا، أو على نحو أدقّ، إلامَ ستؤول مفاوضات فيينا النووية؟هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة:
أ- أن يستسلم أحد الطرفين، بعد أن يضيق ذرعاً من الانتظار والرهان، فيهرع الى طاولة المفاوضات علَّه يحصِّل شيئاً قبل فوات الأوان.
ولن يقتنع الطرفان بجدوى هذا الخيار إلا إذا تيقَّن الأميركي من أن الحصار والتجويع لن يؤتيا أُكُلَهما، وأن الحل الأمثل، للحفاظ على ماء الوجه أو الخروج منتصراً في لجوئه الى طاولة المفاوضات، أو إذا تأكد الإيراني من أن الصبر على الأذى، ومحاولة التأقلم مع الحصار، أسوةً بكوبا لن يُجْدِيا نفعاً، وأن الساحة الداخلية ما عادت تحتمل مزيداً من الصبر والمكابرة، وهو ما ليس وارداً بالنسبة إلى الإيرانيين نظراً إلى الطبيعة العقائدية التي يتَّسِم بها النظام الحالي، والذي يتخذ من الإسلام السياسي رافعة له، مع ما يختزنه الإسلام من مفاهيم جهادية تحثّ على الصبر والتحمُّل في سبيل نصرة القضايا العادلة (يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا).
ب- أن ينجح أحد الطرفين في جرّ الطرف الآخر نحو الحرب، وهو ما ليس وارداً أيضاً، نظراً إلى طبيعة الصراع القائم بين أميركا وإيران، والذي تحكمه الى الآن آليات معينة، ليس أُولاها توازن الرعب المتأتِّي أساساً من خشية أميركا على حليفتها (إسرائيل)، حيث تدرك أميركا ملياً أن أي حرب مقبلة مع إيران، ستقابلها الأخيرة بردّ مُدوّ ومزلزل اتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة ــ عبرها أو عبر أحد حلفائها الإقليميين، عنيتُ به حزب الله ــ وهو ما لا طاقة لإسرائيل ولا لمشغِّلها الدولي (أميركا) على تحمُّله.
فزوال إسرائيل من الوجود، أو حتى دكّ عمق كيانها بوابل من الصواريخ الدقيقة، سيعني بالضرورة أفول نجم الولايات المتحدة الأميركية والغرب نهائياً عن منطقة المشرق العربي، تلكُم المنطقة التي تُعد بحق الخزان النفطي الحيوي للعالم، الأمر الذي قد يُحدِث انهيارات كبرى في اقتصادات العالم، وربما يؤدي إلى وقوع انكماش بالغ التعقيد والصعوبة، قد تنجم عنه كوارث اقتصادية، لا قِبَل لأوروبا وأميركا بتحمُّلها.
لذا من المتوقَّع ألَّا تبادر أميركا إلى الحرب مع إيران. بالمقابل فإن إيران المحاصرة والمنهكة تعلم ملياً أن لا مصلحة لها في أي حرب مباشرة مع الولايات المتحدة في الوقت الراهن.
أي نعم، هي تعلم أن الحرب بينها وبين أميركا قادمة لا محالة، فقادتها يؤمنون بحتمية هذه المواجهة المصيرية، لكنَّ واقعيتهم ونضوجهم السياسي المعهود (الحكمة) يحتِّمان عليهم تأجيل المعركة الكبرى أطول فترة ممكنة، أو حتى تغدو ظروف النصر النهائي مهيَّأة أكثر من أي وقت مضى.
فمعلوم لدى قادة إيران بالضرورة، أن أي معركة مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي، سوف تؤدي الى وقوع أضرار جسيمة في بنية أميركا العسكرية، وسوف تخلِّف جروحاً عميقة في وجدانها، على غرار ما أحدثته تفجيرات ميناء بيرل هاربور، إبَّان الحرب العالمية الثانية، أو ما خلَّفته أحداث 11 أيلول، لكنها لن تشلّ قدرة أميركا على الحركة حول العالم، ولن تنال من جبروتها أو تؤثر على بنيتها العسكرية الاستراتيجية.
إزاء ذلك، فإن أي حرب من هذا النوع سوف تعيد إيران مئتَي سنة إلى الوراء، ذلك أن الدفاعات الجوية الإيرانية لن تستطيع صدّ كل الأهداف المعادية في سمائها، وعليه، فإن أسراباً من الطائرات الحربية الحديثة التابعة لأميركا والكيان الصهيوني، ولأدواتهما الإقليمية، سوف تغزو سماء طهران وتجعل ليلَها نهاراً، وهذا ما تدركه إيران جيداً وتعمل على تفاديه ما أمكن.
لا مندوحة من أن إيران لا تخشى المواجهة، لكنها تحرص على تحاشيها لأن الظروف غير مؤاتية حالياً، وهذا بالضبط ما تلقَّفته أميركا وحلفاؤها منذ زمن، وراحوا يعملون على أساسه، ويترجمونه على شكل استفزازات دائمة، سواء عبر قصف القواعد الإيرانية في سوريا، أو عبر القرصنة الأميركية والإسرائيلية النشطة في الممرات البحرية، وطرق التجارة العالمية.
إذاً، لن تقع الحرب في المنطقة، لأن كِلا الطرفين القادرَين على إشعالها، عنيتُ بهما أميركا وإيران، لا يريدانها في الوقت الحالي، للأسباب عينها التي مررنا عليها آنفاً.
فما الحلُّ إذاً؟ وإلامَ ستؤول سبل المواجهة بين الطرفين؟
دعونا نتعرَّف إلى ذلك من خلال السيناريو الثالث والأخير.
ج - أن يبقى الحال على ما هو عليه، الى ما شاء الله، أي أن يبقى حال المراوحة حتى يأذن الطرفان بحرب أو باتفاق جديد.
فأميركا التي كانت ولا تزال تتصرَّف بعقلية الحرب الباردة، تراهن على ضعضعة الجبهة الداخلية الإيرانية، تماماً كما سبق لها وأن فعلت مع الاتحاد السوفياتي من قبل، حيث نجحت سياسات الضغط القصوى التي مارستها ضد الاتحاد السوفياتي في إحداث شروخ عميقة داخل بنيته الاجتماعية، سرعان ما انعكست على شكل نزاعات وصراعات قومية وعرقية بين مكوِّناته، أفضت في نهاية المطاف الى زعزعة استقراره، ومن ثمَّ تفكّكه مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وإيران التي تعلَّمت جيداً من تجربة الاتحاد السوفياتي، ولا سيما أن ثورتها الإسلامية الحاكمة حالياً، كانت من ضمن الثورات التي عاصرت مرحلة سقوط الاتحاد وتفكّكه، تراهن على صبرها الاستراتيجي وعلى ترابط أنسجتها القومية والعرقية ـ بفعل وحدة معتقدها الديني ـ وعلى التأقلم مع الحصار، عبر تفعيل آليات الصناعة المحلية، والاعتماد على القدرات الذاتية، عملاً بالمبدأ التالي: «لا بد من تحويل التهديد إلى فرصة»، أسوةً بكوبا التي نجحت على ما يبدو في الصمود أمام الحصار الأميركي المطبق، والمفروض عليها منذ ستينيات القرن الماضي، علماً أنها لا تبعد سوى أميال معدودة عن الولايات المتحدة التي كانت ولا تزال تنظر الى كوبا وشقيقاتها من دول أميركا الوسطى والجنوبية على أنها أحد تفرّعات حديقتها الخلفية.
خلاصة الأمر، ما من حرب في الأفق، فالجميع يتحاشاها، وعليه، فإن حال المراوحة سوف يبقى مخيّماً على المنطقة إلى أجل غير مسمّى.

* مؤرِّخ وباحث سياسي