تناولنا في مقالة سابقة («الأخبار»، 3 آب 2021) منهجية بناء «المفاهيم الإسلامية»، مقترحين التقريب بين طريقة الطوابق عند السيد محمد باقر الصدر ومنهجية النماذج ـــ المثالية عند ماكس فيبر. وقد تلقينا ملاحظات وتعليقات عديدة حول هذه الورقة، وكان التعليق الأساسي هو حول ضرورة الحديث عن تطبيق عملي ـــ تقني لهذا الطرح، أقرب إلى الواقع الراهن، لا سيما من زاوية المساعدة في إيجاد مخارج وبدائل في مواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية الحالية الممتدة من العراق إلى سوريا وصولاً إلى لبنان. وكما شدّد ماكس فيبر (ت. 1920) في دراساته المنهجية التي سبق وذكرنا أهمها، فليس من الممنوع على الباحث أن يحاول الإجابة على أسئلة يطرحها القائد السياسي و/ أو الأيديولوجي (راجع عمله الشهير: Le Savant et le Politique إضافة إلى تعليقات ريموند آرون Raymond Aron)، لكن بشرط أن يحافظ الأول (أي الباحث) على ما سميناه بالحياد الأكسيولوجي، أي أن يبقى بعيداً عن الأحكام القيَمية، وبعيداً عن التموضعات الأيديولوجية والدينية. ليست المشكلة، إذن، في أن يتعاطى الباحث مع القيَم، وإنما في أن يقع في فخ الحكم القيَمي. لذلك، فقد رأينا أنه من واجبنا الأخلاقي ـــ بعد الذي سبق عن الطرح المنهجي ـــ أن نحاول الإجابة على سؤالين واجهنا بهما ـــ تقريباً ـــ كل شخص قرأَنا وهو ينتمي إلى الإطار السياسي والعقائدي لما يُسمى اليوم بـ«محور المقاومة» (مع قربه الطبيعي من الثقافة التي ينتمي إليها بدوره السيد محمد باقر الصدر، صاحب اقتصادنا). أما السؤالان فهما: ما هو النموذج ـــ المثالي المهيمن إذن للنظام الاقتصادي (والمالي) البديل، والذي يتوافق مع النظام القيَمي الذي تنتمي إليه ـــ بطبيعة الحال ـــ قيادة هذا المحور (في الوقت الحاضر)؟ بتعبير أدق، وبالعودة إلى مصطلحاتنا العلمية: من خلال الطرح المنهجي الذي ناقشناه سابقاً، هل يمكن بناء نموذج ـــ مثالي ـــ مناسب ومتين ومتماسك ـــ لنظام اقتصادي ـــ مالي متميز، انطلاقاً من دراسة «فَهمية» لخطاب الفقهاء المسلمين عبر المذاهب والعصور؟ وهل يشكل هذا النموذج ـــ المثالي بديلاً واقعياً للنظام الذي تتبناه المحاور الأخرى، لا سيما منها التي تنتمي إلى الرأسمالية الليبرالية؟
«مربي السلاحف» عثمان حمدي بك (1906).

إن الأطروحة المركزية لهذا المقال، والمستندة إلى سنوات من التنقيب والدراسة والتطبيق، تقوم على فكرتين رئيسيتين. الأولى: هي إمكانية بناء نموذج ـــ مثالي لاقتصاد «إسلامي» كهذا بديل (لكنه ذو طابع عالمي بالتأكيد)، انطلاقاً من المعطيات الفقهية السالفة الذكر. ونشير هنا إلى ضرورة البحث عن هذا النموذج ـــ المثالي من زاوية التوزيع الثانوي بين وسائل الإنتاج، أي من الزاوية الأقرب إلى النظام المالي، ما يدنينا أيضاً من السياق الحالي للأزمة الاقتصادية ـــ المالية ـــ المصرفية في لبنان. أما الفكرة الثانية: فهي أن السمة الرئيسية لاقتصاد (نموذجي ـــ مثالي) كهذا هو جوهره التشاركي ـــ التبادلي ـــ التعاوني (بمعنى: Participatif - Mutualiste - Cooperatif) الراديكالي على كل الصعد والمستويات، ما يجعل تقبله للنظام الاقتصادي ـــ المالي ـــ المصرفي التقليدي المهيمن حالياً في لبنان (وفي العالم) شبه مستحيل. ونحن عندما نقول «راديكالي» لا نقصد أنه متطرف أو عنفي ـــ أو رافض للآخر ـــ كما يمكن للبعض أن يتصور، وإنما نقصد أنه يرفض ـــ بشكل مبدئي ودقيق ـــ المباني المفاهيمية المهيمنة حالياً في الاقتصاد ـــ المالي الرأسمالي، وخصوصاً: فكرة «نقل الخطر» (أو «بيع الخطر مقابل ما هو يقيني») التي بني عليها جلّ فلسفة التأمين التجاري التقليدي، وجلّ فلسفة الأدوات المالية المعاصرة (لا سيما فلسفة أدوات التحوط ضد الخطر وهي أساسية في نظرية الهندسات المالية مثلاً، وتتعداها إلى فلسفة الربا والقمار والميسر وعقود الغرر المعروفة في الفقه الإسلامي إلخ).
ونعرض في ما يلي أهم معالم هذا النموذج ـــ المثالي، الأساسية بمعنى Essentielles، الذي يمكن بالتالي نقده ونقضه من خلال المعطيات نفسها، أو من خلال مقارنته مع الواقع التطبيقي (راجع مقالنا السابق حول منهجية النموذج ـــ المثالي):

أسس فلسفية ومفاهيمية عامة
هل هذا النموذج ـــ المثالي المهيمن والمطروح هو نفسه الذي قدّمه صاحب عمل اقتصادنا؟ في الحقيقة، يمكننا القول إنه يتشارك، على وجه الخصوص، مع بعض الأسس الفلسفية عند الصدر، لا سيما حول العمل ومكانة الإنسان ـــ الفرد في الاقتصاد. ولكنه يختلف معه حول نقطة مفهومية جوهرية في علم المالية ألا وهي: دور المخاطرة في التوزيع. في البداية: لا يمكن دراسة معطيات كمعطيات الفقه الإسلامي من دون استحضار نظرية الاستخلاف، أو على الأقل، من دون استذكار فكرة صدرية أساسية هي: أن الإنسان هو محور المشكلة الاقتصادية وموضوعها وهدفها، وليس مجرد أداة من أدوات الإنتاج. وبالتالي، لا يمكن إغفال دور «العمل المنفق»، كما يسميه الصدر، بوصفه السبب الجوهري الوحيد نظرياً لأي شكل من أشكال العائد (نذكّر أننا نقارب الموضوع من زاوية التوزيع الثانوي خصوصاً). وإذا ما استذكرنا، أيضاً، تموضع علماء وقادة ـــ ينتمون إلى الإطار الثقافي المهيمن في هذا «المحور» المذكور ـــ من طراز العلامة الطباطبائي أو الإمام الخميني، أي تموضعهم ضمن ما يمكن تسميته بالمدرسة العرفانية الإسلامية، تصبح هاتان الفكرتان السالفتان أكثر جوهرية. إذ إن الإنسان، حسب هذه النظرية الروحية التي ترجع جذورها الفلسفية بشكل خاص إلى أفكار الشيخ الصوفي الأكبر محي الدين بن عربي (ت. 1240 م)، هو، في الحقيقة، «المظهر الأتم» لتجلي عوالم الألوهة والملكوت في عوالم المادة والناسوت. ولا يمكن، في المبدأ، للإنسان ـــ الفرد أن يكون ذا دور ثانوي أو مهمل ضمن منظومة عقائدية ـــ ميسطيقية (Mystique) كهذه، بل إن محوريته تقترب بشكل واضح من المقدس، وهي نقطة لا بدّ من التوقف عندها في أبحاث لاحقة. لكن، بالإضافة إلى هذا الدور المقدس للإنسان وللعمل، لا يمكن إغفال مفهوم صدري آخر وهو «استمرارية الملكية» الذي يضمن للإنسان حقاً خاصاً في الملكية، ولو كان هذا الحق مشروطاً بالعمل أيضاً (على الأقل: نظرياً). في الخلاصة: إن للعمل مكانة مقدسة ودوراً مهيمناً ومحوريًا في كل مستويات هذه المنظومة، التي لا يمكن أن تتفق ـــ في المبدأ ـــ مع الرأسمالية الليبرالية (خصوصاً من زاوية دور العمل، وزاوية رفض عقلية «بيع الخطر مقابل اليقيني» كما سنرى)، ولا مع الماركسية (خصوصاً من زاوية الحقيقة الإلهية للإنسان، وزاوية استمرارية الملكية وعدم اتّخاذ موقف سلبي من الربح «المالي» كما سنرى أيضاً).
غير أنه، ومن زاوية الأسواق والتقنيات المالية والمصرفية بشكل خاص، تبقى النقطة الأهم في هذا البناء ـــ قيد النقاش ـــ هي في الفلسفة الساندة لمسألتَي: دور المخاطرة في توزيع العائد من جهة، وطريقة «نقل الخطر» بين اللاعبين الاقتصاديين من جهة أخرى كما ذكرنا (مثلاً: في التأمين والهندسة المالية). وإنها في الحقيقة لنقطة أساسية لم يلتفت إليها عمل اقتصادنا، خصوصاً أن الصدر قد اتخذ، ظاهراً، موقفاً مبدئياً سلبياً من كون المخاطرة سبباً من أسباب الربح (راجع: الصدر، 1987، اقتصادنا، الطبعة السادسة، بيروت : دار التعارف، ص. 601). والصحيح، على المستوى المفاهيمي ـــ الفني خصوصاً، أن المخاطرة تلعب دوراً مركزياً، حسب فهم الفقهاء (بمن فيهم فقهاء الإمامية كما أثبتنا في بحوث سابقة)، في توزيع العائد بين أدوات الإنتاج واللاعبين الاقتصاديين (بالإضافة إلى تحديد شكله بين تشاركي أو إجاري). بل إن المخاطرة، بحسب هذا الفهم أيضاً، هي الضامن الأساسي للعدل في المبادلات المالية. ومن هنا بالذات نصل إلى لبّ الطرح الذي نقدمه انطلاقاً من دراسة معطيات الفقه الإسلامي: يبدو للباحث أن عقلية الفقهاء الاقتصادية، التي يمكن فهمها من خلال خطابهم، تعطي دوراً للمخاطرة في التوزيع من جهة (ترفض الربح التشاركي أو الأجر الثابت من دون وجود مخاطرة في مقابلهما، ولو لم تكن الأخيرة هي «السبب» الفلسفي لهما)؛ وتعتقد، من جهة أخرى، أن وجود المخاطرة هذا يضمن العدل بين المتعاقدين. بعبارة أخرى، وهنا لب ألباب القضية: لا تقبل هذه العقلية فكرة مبادلة ما هو ثابت ومضمون، بما هو متقلب ومخاطِر، أي ترفض ـــ مفاهيمياً ـــ مبادلة اليقيني بغير اليقيني، وبشكل مبدأي شديد الوضوح. من هنا، لا يمكن لنظرة كهذه أن تتقبل الفائدة الثابتة والمضمونة مثلاً (يكسب صاحب المال أجراً ثابتاً ومضموناً فيما يتعرض المدين للخطر التجاري وحده إلخ.). ولا يمكنها أن تتقبل أنواع المبادلات المالية التي يكون أحد طرفيها يقينياً، والآخر غير يقيني، كالتأمين التجاري التقليدي مثلاً، أو كعقود المشتقات المالية، وهما مفهومان يؤديان إلى فكرة «بيع الخطر» (ترفض الرؤية هذه: مسألة فصل الخطر عن العمل أو الملكية بشكل قاطع، ومن أصلها). في الخلاصة ومع التبسيط المقصود: نحن أمام نظرة عامة ترفض في جوهرها فكرة «بيع الخطر مقابل ما هو يقيني»، وتفضل بشكل جلي منطق المشاركة في الربح والخسارة، ما جعلنا نعتبر أنها حكماً من النوع التشاركي ـــ التبادلي ـــ التعاوني معاً (بالمفهوم المعاصر). فبدل أن نبيع المخاطِر باليقيني (وهو حال الربا أو التأمين التقليدي وغيرهما)، وننقل الخطر بالتالي بين اللاعبين بطريقة تشبه القمار (أو الربا)، وبمعزل عن الأهداف الإنتاجية: تدعونا هذه النظرة إلى أن نتشارك في الربح والخسارة؛ أي أن نربح معاً، أو أن نخسر معاً (مع بعض الاستثناءات الضرورية والمصلحية)، من دون عزل عنصر المخاطرة عن الاقتصاد الحقيقي (لأنها لا ترى إمكانية نقل الخطر بدون تعلقه بالعمل و/ أو رأس المال). وليست آثار نظرة كهذه ـــ إن قُبل بها وطبقت ـــ بالبسيطة أبداً: بل هي تشكل، كما رددنا، ثورة فلسفية ومفهومية وتقنية راديكالية محتملة على العقلية المؤسسة للرأسمالية بشكلها المهيمن حالياً في المصارف والأسواق (خصوصاً في لبنان). ولهذه المسألة نتائج تطبيقية شديدة الخطورة نضعها أمام القارئ وأمام كل معنيّ بالتطبيق وبالبدائل الاقتصادية والمالية:
التخلي عن الأشكال الريعية والاحتكارية والصفرية والوهمية، واعتماد أنماط تشاركية تبادلية تعاونية على كل المستويات، مع ما يترتب على ذلك من تغيير عقليات وأدوات ومؤسسات


«ألعاب صفرية» أم مشاركة وتعاون؟
ليست قضية الاقتصاد ذي الطبيعة التشاركية جديدة أبداً، بل إنها قد شكلت الأساس النظري (والفقهي) للرد على طرح الصدر حول المخاطرة والبنوك من منظار إسلامي (وهناك من يدافع عنها ـــ بقوة ـــ في الغرب أيضاً). وقد وردت إسلامياً بالأخص في أعمال محمد عمر شبرا ورفيق يونس المصري وسامي السويلم ومحمود الجمل وعدنان عويضة وغيرهم. وهي تشكل الأساس المفاهيمي ـــ النظري لطرح ما يسمى اليوم بالصيرفة الإسلامية. على أنها في الحقيقة لم تتخطَّ إلى اليوم مرحلة التنظير، أمام المقاومة الهائلة من قبل العقلية الرأسمالية المهيمنة في الواقع التطبيقي. وقد لاحظنا في دراسات سابقة أنها ـــ أي هذه النظرة التشاركية العامة ـــ تستند إلى تأويل لنظرية الغرر الفقهية (أي «الخطر» لغة) يعمم مفهوم «الغرر المنهي عنه» إلى كل أنواع نقل الخطر، وهو نموذج ـــ مثالي قوي، لكنه يفتقد إلى إثباتات حاسمة في الفقه الإسلامي (راجع مفهوم منطقة الفراغ عند الصدر). كما أنه نموذج ـــ مثالي يحتاج إلى جهود تجريبية أوسع، حتى في البلاد الغربية. لكن، وعلى المستوى الفهمي ـــ التأويلي، فمن الصعب عدم القبول بفكرة: رفض عقلية فقهاء الإسلام ـــ بشكل عام ـــ لمسألة «نقل الخطر» الرأسمالية هذه، وتفضيلهم الواضح والعام للأشكال التشاركية والتعاونية. من هنا كانت قناعتنا بأن النموذج ـــ المثالي الأقرب إلى هذه العقلية هو نموذج لنظام ليس فقط تشاركياً، بل هو أيضاً تبادلي ـــ تعاوني حسب وجهة التطبيق، يتوجب تعميمه على جميع جوانب الاقتصاد. ويبقى الإسهام الأهم لما نطرحه هو في فكرة «راديكلية» هذا النموذج وتطبيقه، أي إننا نعتبر أن طبيعته تقتضي ـــ إن اعتقدنا به ـــ بأن يعمم: على العقلية الاجتماعية ـــ الاقتصادية الكلّية من جهة، وعلى كل تفاصيل النظام التمويلي والمصرفي من جهة أخرى، ولو كان ذلك بالتدريج «الناعم» وعلى مراحل. فهو يدكّ قواعد النظام الرأسمالي السائد حالياً على المستويات الفلسفية والأخلاقية والتقنية كافة، ناقلاً إيّانا من عقلية المنافسة العدائية الطابع و«الألعاب الصفرية» (Zero-sum games) كما يسمّيها سامي السويلم، إلى عقلية التشارك والتعاضد والتعاون المعممة. من هنا، فهو يشكل بديلاً ـــ متميزاً ـــ محتملاً للرأسمالية الليبرالية في مسائل عديدة.
فمن البديهي أن تطبيق نظام بديل (محتمل) كهذا لا يمكن أن يتم إلا في سياق محاولة تطبيق منظومة فكرية شاملة تقوم على عقيدة مفادها: أن هناك ما يكفي من موارد للجميع على هذه الأرض، وأننا بالتالي نكسب أكثر على المستوى الجماعي إذا ما قبلنا بالعقلية التشاركية ـــ التعاونية (وهذا ما أثبتته أعمال كثيرة ضمن نظرية الألعاب مثلاً). من هنا، يمكننا القول إن تطبيق نموذج كهذا لا بدّ من أن ينطلق من أدق المستويات الأسرية والمحلية والمناطقية إلى المستويات الأشمل كالنظام المصرفي والتمويلي والتأميني (والتربوي أيضاً بطبيعة الحال). ولا شك – خصوصا في بلد كلبنان – في أن تطبيقه قد يتطلب وقتاً طويلاً وضخّاً لعقليته وتقنياته ولو على شكل جرعات موضعية ومدروسة في البداية. إن تطبيقه يتطلب – على أي حال – ثورة فكرية ـــ عقائدية عامة وجريئة، على منظومة الريع والفردية ـــ العدائية. ومن النتائج المنتظرة من ثورةكهذه، الخروج من عدة مشاكل يتحدث عنها السياسيون اليوم: عقلية الربا والريع، عقلية الاحتكار، عقلية التوزيع «غير العادل» للثروات، عقلية النظام المالي ـــ المصرفي المضارب البعيد عن الاقتصاد الحقيقي والإنتاج. إنه لمن الواقعي ـــ إلى حدّ بعيد ـــ الادعاء بأن نظاماً كهذا قد يشكّل الحل الأنسب لتوجيه الأسواق المصرفية والمالية نحو الإنتاج، ولحل معضلة سوء توزيع عوائد هذا الأخير بين الأفراد، مع الإبقاء على حرية ريادة الأعمال والابتكار، ومع الحفاظ على الحق الخاص في الملكية. هو نظام يهدف لا إلى اعتبار أن صاحب المال «يسرق» الربح عملياً من العامل (كما في النموذج الماركسي مثلاً)، وإنما يدعوهما ـــ مع التبسيط ـــ إلى علاقة من نوع مختلف: هي علاقة شريك مع شريكه. وكذلك، فهو يدعو فئة معينة من المتعرضين لخطر ما، لا أن «يبيعوا» خطرهم مقابل عوض، وإنما أن يتعاضدوا ويتعاونوا عليه. نحن، على الأرجح، في إطار نموذجي مختلف راديكالياً كما سبق وأشرنا.

المستويات التطبيقية
أخيراً نصل إلى نقاش تطبيق هذا النموذج ـــ المثالي المحتمل (والذي لا يدعي أنه الوحيد الممكن، ولا أنه الصحيح دينياً وعقائدياً، ولا أنه المنزل من أي مصدر إلهي – كما أسلفنا) على مستوى الأدوات والمؤسسات، وهو نقاش سنتناوله بشكل مختصر بسبب طبيعة هذه الورقة. فعلى المستوى الأسري والمحلي يتوجب، في سبيل تطبيق نموذج كهذا، تعميم منطق التمويل التشاركي غير الربوي من خلال إنشاء – مثلاً – صناديق تشاركية تمويلية محلية ومناطقية بهدف تمويل الإنتاج الزراعي والصناعي والسياحي والتجاري الصغير والمتوسط (راجع تجارب «الائتمان الصغير» المحلية حول العالم مثلاً). ومن شأن هذا التعميم، على الأرجح، أن يطوّق ظاهرة المرابين المحليين المنتشرة بشكل قوي ضمن بيئة البقاع اللبناني مثلاً. وكذلك، يتوجب تعميم منطق التأمين التكافلي والتبادلي (بمعنى Mutualiste) بهدف التحوط ضد المخاطر الزراعية مثلاً، أو أنواع المخاطر الأخرى. ومن شأن هذه المشاريع أن تكوّن، في ما تكوّنه، جهداً ادّخارياً وطنياً موجهاً نحو الاستثمار المنتج والرشيد، لا سيما بسبب طبيعة هذه المؤسسات. فالعقلية التي تدير مصرفاً ربوياً أو تأميناً غررياً لا يمكن أن تكون هي ذاتها العقلية التي تدير صندوقاً استثمارياً تشاركياً أو صندوق تأمين تعاضدي ـــ تبادلي. ولا العلاقة بين المستثمرين ـــ الشركاء من جهة، وبينهم وبين المدراء من جهة أخرى، يمكن أن تكون هي نفسها ضمن الاتجاهين. كذلك في ما يخص المستويات المؤسساتية والأدواتية الوطنية الأعم: فيتوجب، في سبيل تطبيق نموذج كهذا، تعميم ثقافة الصناديق الاستثمارية التشاركية بهدف تمويل الاقتصاد الحقيقي، وهي ثقافة ما زالت شديدة الضعف في بلادنا. كما يدفع نموذج كهذا باتجاه دعم «رأس المال المخاطر» (Capital-risque) بهدف تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة. نلاحظ، عند كل مستوى، أننا ندفع عملياً باتجاه بناء ادخار وطني تعاضدي مستقل، هو أساس كل ورشة استثمارية على مستوى الوطن، وأساس لكل نهضة اقتصادية كما تبين تجارب الصناديق والمشاريع الادخارية في الغرب الأميركي والأوروبي.
أما بالنسبة إلى المصارف، فقد يكون المظهر الأتم لهذا النموذج هو: إما المصارف التبادلية (أو التشاركية بمعنى Banque mutualiste) حيث يكون المودع شريكاً، أو المصارف الإسلامية التي تتخلى عن عقلية الاستنساخ للرأسمالية لتذهب في اتجاه مفهوم الاستثمار التشاركي من زاوية أصولها والتزاماتها على السواء. لا يمكن لنموذج ـــ مثالي كهذا أن يتقبل عقلية المصارف اللبنانية الحالية التي توجه الادّخار – حكماً – نحو الريع والاحتكار وتركيز الثروات. وكذلك على مستوى التأمين التجاري الذي لا يمكن أن تُقبل فلسفته «الرهانية» في إطار نموذجي كهذا. أخيراً وليس آخراً: على مستوى الأدوات المالية، فمن البديهي أن يتم تشجيع التقنيات المستندة إلى الاقتصاد الحقيقي لا الوهمي، مع رفض لعقلية المشتقات المالية (المستندة بلا شك إلى فلسفة المعادلات الصفرية Zero-sum games)، ومع دعوة إلى تعميم أنواع أخرى من أدوات التحوط ضد المخاطر المالية. وقد اقترحنا في السابق إنشاء أدوات تحوط جديدة كلياً، الأساس فيها ليس «بيع الخطر» وإنما «مشاركته» (راجع: أبو حمدان، 2013، مصدر مذكور سابقا) ولو في إطار مخاطر السوق.
إن لائحة التطبيقات هذه قد تطول، ولكن تبقى الفكرة الرئيسية هي: في التخلي ـــ قدر الإمكان ـــ عن كل الأشكال الريعية والاحتكارية والصفرية والوهمية، مع اعتماد الأشكال التشاركية ــ التبادلية ــ التعاونية على كل المستويات، مع ما يترتب على ذلك من تغيير للعقليات والأدوات والمؤسسات، ومن تغيير لأساس عملية التوزيع بين العمل ووسائل الإنتاج الأخرى. في ما يخص الجوانب التفصيلية لا سيما المتعلقة بالفقه الإسلامي، نحيل إلى أبحاثنا المذكورة سالفاً، وإلى الدراسة التأصيلية ـــ الفقهية (المبدعة حقيقة) للدكتور عدنان عويضة (2010، نظرية المخاطرة في الاقتصاد الإسلامي: دراسة تأصيلية تطبيقية، هرندون: IIIT). في النهاية، نذكر أننا أمام نموذج ـــ مثالي بنيناه من خلال التراث الإسلامي، لكنه ـــ بلا شك ـــ ذو طابع عالمي.
* خبير اقتصادي ومالي ـــ باحث في المالية الإسلامية