شهدت بلدان المشرق العربي مع نهاية الحرب العالمية الثانية، انشغال القيادتين الإنكليزية والفرنسية بتنفيذ مخططات استقلال المستعمرات المنتدبتين عليها استقلال يوجّه من البلد المستعمر مبدئياً ليستثمر لاحقاً بما يتناسب وأهمية موقعه وثرواته الدفينة ولا سيّما أنها باتت قادرة على استتباع كبار سياسييه وتجاره وعلى استبعاد المحرّضين من دُعاة تحرره. وهذا ما لوحظ في تقبل استقلال تونس والمغرب، ومعهما بلدان أفريقية، مع استثناء قبول تحرّر الجزائر.وقد حقّقت الكثير من البلدان المُستعمرة استقلالاتها بين منتصفَي الأربعينيات والخمسينيات، ومنها لبنان الذي تقبّل زعماء طوائفه من ذوي الميول العروبية ممن كانوا تابعين للولاية العثمانية المحيطة بلبنان الصغير، الانضمام إلى كيان لبنان الكبير في ظل الفرنسيين الذين وافقوا على استقلال لبنان لاحقــــــــــــــــــــــاً ( 1943). وهذا ما ارتضى بـه أولياء الطوائف على امتداد قرن من الاستقلال ولم يقترن بتحقيق أمنيات العوام بينهم من فرص نمو مواردهم وهم يتطلعون إلى أمرائهم يتكيّفون مع توجيهات «الصداقة» الفرنسية حول ضرورات بناء الدولة «المستقلّة».
واستمر الحكم اللبناني على امتداد قرن من الاستقلال «التوافقي» في التشريع وبناء السلطات وأداءاتها السياسية المتوافقة مع موازين القوى بين التكتلات الطائفية. ولا يقتصر توافق هذه التكتلات على حدود ما تمثله داخل طوائفها اللبنانية وحسب بل تتعداها إلى تحالفات مع سلطة الانتداب تضمن لها الحضور والتأثير في البرلمان والوزارة. حضور يتطلبه ضمان «التوافق السياسي» بين التكتلات من جهة وبينها وبين الرعاية الفرنسية من جهة أخرى. هذا التوافق الذي تكرّس لاحقاً بحرص زعماء الاستقلال لحماية تحاصصهم بفعل الاستناد إلى القوانين المُعتمدة في ظل الانتداب خلال عقدين تراكمت خلالهما الرساميل السياسية والاقتصادية. وتجدّدت في ظلهما الشروط الاجتماعية – السياسية الضامنة لقبول انضمام المُرشحين لكتلة زعيم الطائفة.
وقد سبق وعرّف عنها أرسطو بالقول: «إن الفضيلة تتطلب بعض اليُسر» وإن اليُسر غالباً ما يتوفر في نظر زعيم الكتلة من مرشحي طائفته من كبار التجار أو من بين المُباهين بكبر وعراقة عائلاتهم أو ما يجب أن يتوفر في نظر زعيم اللائحة من غير طائفته مما يتوفر لـديه من المال والدعم ومن فرص الظهور الإعلامي باسم اللائحة التي انضم إليها. كما ويمكن أن يتأتّى عن هذا النوع من التشارك السياسي ما يقلل من ظهور أعضاء اللائحة المضموني الولاء. ففي مثل هذا التشارك الطائفي بين المرشحين المنضمين إلى لائحة رئيسها، تُلاحظ جهوده أحياناً لضمان نجاح المرشحين من غير المقربين كما ويستفيد زعيم اللائحة إعلامياً من كسب أصوات أبناء الطوائف الأخرى في دائرته ليباهي بالقول بأن لا فرق عنده بين أبناء طائفته والآخرين من الطوائف داخل الدائرة الواحدة وأن نجاح لائحته المتعددة الطوائف هو إنجاح للتعددية في لبنان.
وهذا ما فرضه قانون انتخابات 2009 حيث تمّ تقسيم المناطق السكنية إلى دوائر وحصرها في حدود القضاء وحال دون اعتماد نطاق المحافظة الأكثر شمولية وتمكيناً من تجاوز مشكلة استتباع الأقليات في دوائر القضاء وتجاوز التشارك الانتخابي الشكلي التظاهري الذي كثيراً ما يصعب على الأقليات في قرى القضاء خاصة، حيث التصويت غالباً ما يهدف إلى بعث رسائل تحدّ إلى الأخصام المحليين أو إلى بعث رسائل وفاء أو تقرُّب من المرشح عبر أزلامه.
وهذا ما ظهر على سبيل المثال في مظهر التشارك الطائفي في اللوائح المُعلنة في انتخابات عام 2009 التي تقضي بترشيح 26 نائباً مسيحياً (40.6 في المئة من أصل 65 نائباً) يتوزع ترشيحهم على الشكل التالي: 4 منهم برئاسات سنية، و3 منهم برئاسات شيعية، وواحد منهم برئاسة درزية وثلاثة منهم بالتشارك في لوائح يغلب فيها شيعة أو دروز. ويلاحظ أن مشاركة القسم الباقي من المسيحيين (24 نائباً) كانت أكثر انتشاراً وتكيّفاً في 11 قضاء على صعيد لبنان وأكثر تجمّعاً وتباعداً في جبل لبنان.
وتجدر الإشارة إلى أن التشارك المحلي الضيق عددياً والمتفاوت طائفياً في دائرة القضاء يعطي رئاسة اللائحة غالباً القرار في التفرد بالتعامل السياسي والانحياز إلى حيث يريد، كما يمكن أن يعطل أي تعاون محلي لمراجعة الدوائر الحكومية وغير الحكومية في خدمة القرى في الدائرة، وأن محدودية عدد اللائحة غالباً ما يتُيح لرئاستها تجاوز وحدتها صبيحة يوم فرز النتائج، ويُنهي بذلك علاقة أعضاء الكتلة بعضهم ببعض، والتشارك في خدمة ناخبيها وأحياناً بذريعة أنهم تكلّفوا ما فُرض عليهم من أكلاف ضمّهم إلى اللائحة. وقد ينتهي الأمر أحياناً بخلافات مع رئيسها بسبب إساءة تعهدات أقرّ القبول بها حتى صبيحة التصويت.

* باحث في علم الاجتماع